إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ووصف بعضهم الأبدال فقال : أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة أي لا يتكلمون حتى يسألوا وإذا سئلوا ووجدوا من يكفيهم سكتوا فإن اضطروا أجابوا وكانوا يعدون الابتداء قبل السؤال من الشهوة الخفية للكلام .

ومر علي وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس فقال هذا يقول اعرفوني .

وقال بعضهم : إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة فكأنما يقلع ضرسه .

وكان ابن عمر يقول : تريدون أن تجعلونا جسرا تعبرون علينا إلى جهنم .

وقال أبو حفص النيسابوري العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة من أين أجبت وكان إبراهيم التيمي إذا سئل عن مسألة يبكي ، ويقول : لم تجدوا غيري حتى احتجتم إلي .

وكان أبو العالية الرياحي وإبراهيم بن أدهم والثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة ، والنفر اليسير ، فإذا كثروا انصرفوا .

وقال صلى الله عليه وسلم ما أدري أعزير نبي أم لا ؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا ؟ وما أدري ذو القرنين نبي أم لا ولما ؟ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير البقاع في الأرض وشرها قال لا أدري ، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام ، فسأله فقال : لا أدري إلى أن أعلمه الله عز وجل أن ، خير البقاع المساجد وشرها الأسواق وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ، ويسكت عن تسع وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة .

وكان في الفقهاء من يقول : لا أدري أكثر مما يقول : أدري منهم سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفضيل ابن عياض وبشر بن الحارث .

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ود أن أخاه كفاه ذلك .

وفي لفظ آخر : كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها ، إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول .

وروي أن أصحاب الصفة أهدي إلى واحد منهم رأس مشوي وهو في غاية الضر فأهداه إلى الآخر وأهداه الآخر إلى الآخر ، هكذا دار بينهم حتى رجع إلى الأول .

فانظر الآن كيف انعكس أمر العلماء فصار المهروب منه مطلوبا والمطلوب مهروبا عنه
( ووصف بعضهم الأبدال) وهم طائفة من الأولياء، قال أبو البقاء: كأنهم أرادوا أنهم أبدال الأنبياء، وخلفاؤهم، وهم عند القوم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون، وفي تحقيق ذلك اختلاف كثير، ( فقال: أكلهم فاقة) أي: لا يأكلون إلا عن شدة الحاجة، ( وكلامهم ضرورة) أي: لا يتكلمون إلا فيما اضطروا فيه، وقال المصنف في تفسيره، ( أي ما يتكلمون حتى يسألوا) أي: فلا يبتدئون بالكلام، ( وإذا سئلوا ووجدوا من يكفيهم) مؤنة ذلك السؤال ( سكتوا) وأحالوا عليه ( فإن اضطروا أجابوا) هكذا أورده صاحب القوت إلا أنه قال بعد الجملة الثانية: وكانوا لا يتكلمون حتى يسألوا عن شيء فيجيبوا ولم يقل: وإذا سئلوا إلخ .

ثم قال: ومن لم يتكلم حتى يسأل فليس بعد لاغيا، ولا متكلما فيما لا يعنيه; لأن الجواب بعد السؤال، كالفرض بمنزلة رد السلام، وكما قال ابن عباس إني لأرى رد الجواب واجبا، كرد السلام، وقال أبو موسى وابن مسعود من سئل عن علم فليقل به، ومن لا فيسكت وإلا كتب من المتكلمين، ورويناه عن ابن عباس أيضا مرق من الدين، ( وكانوا يعدون الابتداء قبل السؤال من الشهوة الخفية للكلام) وفي القوت، وقد يكون الابتداء بالشيء من خفايا الشهوات والشهوات من الدنيا، وقال مالك بن أنس: من إزالة الكلام أن ينطق به قبل أن يسأل عنه، وكان يقال: إذا تكلم بالعلم قبل أن يسأل عنه ذهب ثلثا نوره، وعن القاسم بن محمد قال: من إكرام المرء نفسه أن يسكت على ما عنده حتى يسأل عنه، وكذلك هو لعمري لأنه إذا تكلم بعد السؤال، فهو صاحبها، وربما كان فرضا، وليس الحاجة إلى القيام بالفرض من الشهوات قال: ( ومر علي وعبد الله) ابن عباس ( رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس) ، أي يقص عليهم، ( فقالا) : أي قال كل واحد منهما: ( هذا يقول) أي: بلسان حاله ( اعرفوني) هكذا أورده صاحب القوت، وفي بعض الروايات أو اسعوا إلي ( وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة فكأنما يقلع ضرسه) أي: من شدة ما يجده في أداء الجواب، والذي في القوت، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن العلم، كأنما يسعط الخردل، ثم قال: وقد رويناه عن الأعمش، وقد كان محمد بن سوقة، يسأله عن الحديث فيعرض عنه، ولا يجيبه فالتفت الأعمش إلى رقبة فقال: هو إذا أحمق مثلك، إن كان يدع فائدته، بسوء خلقي، فقال محمد بن سوقة، ويحك إنما أجعله بمنزلة الدواء، أصبر على مرارته، لما أرجو من منفعته .

قلت: وهذا الذي ذكره صاحب القوت عن بعضهم فقد أخرج الخطيب في كتاب شرف أصحاب الحديث، أخبرنا أبو الحسن الأهوازي، أخبرنا محمد بن مخلد، حدثنا علي بن سهل، حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، قال جاء رقبة بن مصقلة إلى الأعمش، فسأله عن شيء فكلح وجهه، فقال له رقبة: أما والله ما علمتك لدائم القطوب سريع المآل مستخف بحق الزوار، ولكأنما تسعط الخردل إذا سئلت الكلمة، ( و) في القوت و ( كان ابن عمر) رضي الله عنهما ( يقول: تريدون أن تجعلونا جسرا تعبرون عليه) وفي نسخة علينا ( إلى) ونص القوت: في ( جهنم) تقولون أفتى لنا ابن عمر بهذا ( وقال أبو حفص) عمر بن سالم الحداد ( النيسابوري) من قرية يقال لها كوزدابا على باب مدينة نيسابور على طريق بخارى أحد الأئمة، والسادة مات سنة نيف وستين ومائتين، كذا في الرسالة للقشيري، ونص القوت: وحدثني بعض علماء خراسان عن شيخ له، عن أبي حفص النيسابوري الكبير، وكان هذا هناك نظيرا لجنيد هنا أنه قال: ( العالم هو الذي) ونص القوت إنما العالم الذي ( يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة من أين أجبت) ونص القوت: الذي يسأل عن مسألة في الدين فيغتم حتى لو جرح لم يخرج منه دم من الفزع ويخاف أن يسأل في الآخرة عما سئل عنه في الدنيا، ويفزع أن لا يتخلص من السؤال إلا، يرى أنه قد [ ص: 396 ] افترض عليه، الجواب: لفقد العلماء إلى هنا كلام .

وكان المصنف اختصره، ورواه بالمعنى، ( وكان إبراهيم) بن يزيد بن شريك ( التميمي) تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، وكان من العباد، روى عنه الأعمش، ويونس بن عبيد، قال ابن معين: ثقة، وكان يقول: إني لأمكث ثلاثين يوما آكل، مات ولم يبلغ أربعين سنة، وذلك سنة اثنين وتسعين ومائة، ( إذا سئل عن مسألة يبكي، ويقول: لم تجدوا غيري حتى احتجتم إلي) ونص القوت: لم تجد من تسأله غيري أو احتجتم إلي، قال: وجهدنا بإبراهيم النخعي أن نسنده إلى سارية، فأبى، كان إذا سئل عن شيء بكى، وقال: قد احتاج الناس إلي .

( وكان أبو العالية) نفيع ( الرياحي) من بني رياح بن يربوع، روى عن ابن عباس وغيره، وعنه قتادة وغيره، ( وإبراهيم بن أدهم) الزاهد، ( و) سفيان ( الثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة، والنفر اليسير، فإذا كثروا انصرفوا) ونص القوت: وأما أبو العالية الرياحي، فكان يتكلم على الاثنين والثلاثة، فإذا صاروا أربعة قام، وكذلك كان إبراهيم والثوري، وابن أدهم رحمهم الله تعالى يتكلمون على النفر، فإذا كثر الناس انصرفوا، وكان أبو محمد سهل، يجلس إلى خمس أو ستة إلى العشرة، وقال لي بعض الشيوخ: كان الجنيد يتكلم على بضع عشرة قال: وما تم لأهل مجلسه عشرون اهـ. ( و) قول المسئول: لا أدري، أو لا أعلم لا يضع من قدره، بل دليل على كمال معرفته، من ثم ( قال صلى الله عليه وسلم) في مسائل سئل عنها فقال: لا أدري، وناهيك به مستندا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما أدري أعزير نبي أم لا؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا؟ وما أدري ذو القرنين نبي أم لا؟) أخرجه أبو داود، والحاكم، من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رفعه: إلا أن فيه تقديما على عزير، لم يذكر أبو داود الحدود كفارات لأهلها أم لا، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة، ولم يخرجاه نقلهالعراقي.

قلت: وبمثل رواية الحاكم رواه البيهقي، وابن عساكر، وبمثل رواية أبي داود مع ذكر الجملة الأخيرة رواه ابن عساكر أيضا، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلا أن في روايتهم لعينا كان أم لا بدل ملعون، وتبع الحميري أول من كسا الكعبة، وذو القرنين اختلف في اسمه، وأخبارهما مشهورة في كتب السير، والتواريخ .

( و) من ذلك ( لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير البقاع وشرها، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أدري، حتى نزل جبريل عليه السلام، فسأله فقال: لا أدري إلى أن أعلمه الله عز وجل، إن خير البقاع المساجد) ; لأنها محل فيوض الرحمة وإمداد النعمة، ( وشرها السوق) ولفظ الحديث الأسواق، وإنما قرن المساجد بالأسواق مع أن غيرها قد يكون شرا منها ليبين أن الدين يرفعه الأمر الدنيوي، فكأنه قال: خير البقاع محصلة لذكر الله، مسلمة من الشوائب الدنيوية، فالجواب: من أسلوب الحكيم، فكأنه سئل أي البقاع خير؟ فأجاب به وبضده .

قال العراقي: وهذا الحديث رواه ابن عمر، وجبير بن مطعم، وأنس، وأما حديث ابن عمر فرواه ابن حبان في صحيحه، من رواية جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق.

وأما حديث جبير بن مطعم فرواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني من رواية زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البلدان شر؟ قال: لا أدري، فلما أتاه جبريل قال: يا جبريل أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي عز وجل، فانطلق جبريل، فمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء فقال: يا محمد، إنك سألتني أي البلدان شر؟ فقلت: لا أدري وإني سألت ربي عز وجل، أي البلدان شر فقال: أسواقها، لفظ أحمد، وقال أبو يعلى: فلما جاءه جبريل، ولم يقل، أن يمكث، وقال البزار: إن رجلا قال: يا رسول الله، أي البلدان أحب إلى الله تعالى، وأي البلدان أبغض إلى الله تعالى؟ فقال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فأتاه جبريل فأخبره أن أحب البقاع إلى الله عز وجل المساجد، وأبغض البلاد إلى الله عز وجل [ ص: 397 ] الأسواق، ورواه الطبراني أيضا من رواية قيس بن الربيع، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، باللفظ الأول، إلا أنه قال: أي البلاد في المواضع الأربعة ولم يقل يا رسول الله وقال: فلما أتى جبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: يا جبريل، ولم يقل أن يمكث، وأما حديث أنس فرواه الطبراني في الأوسط، من رواية عمار بن عمارة الأزدي، قال: حدثني محمد بن محمد بن عبد الله، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل، أي البقاع خير، قال: لا أدري، قال فسل عن ذلك ربك عز وجل، قال فبكى جبريل، وقال: يا محمد، ولنا أن نسأله هو الذي يخبرنا بما شاء نعرج إلى السماء، ثم أتاه فقال: خير البقاع بيوت الله عز وجل في الأرض، قال: فأي البقاع شر، فعرج إلى السماء ثم أتاه، فقال: شر البقاع الأسواق، وقد روى الحديث أيضا عن أبي هريرة، رواه مسلم في صحيحه، من رواية عبد الرحمن بن مهران، عنه وليس فيه موضع الاستدلال به من قوله: لا أدري، ( وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة، ويسكت عن تسعة) ، هكذا أورده صاحب القوت، وذلك لشدة الاحتياط .

( وكان ابن عباس رضي الله عنهما) بخلاف ذلك ( يجيب عن تسعة ويسكت عن واحدة) وكل منهما على هدى، والأغراض تختلف باختلاف المسائل، والسائلين، وأوقات الاحتياج وعدمها .

( وكان من الفقهاء من يقول: لا أدري أكثر من أن يقول: أدري) تأدبا مع الله تعالى، وصيانة لجانب العلم; إذ يخاف على نفسه الوقوع في الخطأ، فيكل أمره إلى الله تعالى، ( منهم سفيان الثوري) وأبو حنيفة، ( ومالك بن أنس) ، والشافعي، ( وأحمد بن حنبل) والشعبي، ( والفضيل بن عياش) ، وعلي بن الحسين، ومحمد بن عجلان، ( وبشر بن الحارث) الحافي، وغير هؤلاء من أئمة الدين .

زاد صاحب القوت: وكانوا في مجالسهم يجيبون عن بعض ويسكتون عن بعض، ولم يكونوا يجيبون في كل ما يسئلون عنه، ( وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى) واسمه يسار وقيل: بلال الأنصاري المدني، ثم الكوفي، من ثقات التابعين، ولد لست بقين من خلافة عمر، ومات بوقعة الجماجم غريقا بدجيل سنة ثلاث وثمانين ومائة: ( أدركت في هذا المسجد) أي: بالمدينة ( مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) منهم أبوه، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، ومعا، والمقداد، وابن مسعود، وأبو ذر، وأبي بن كعب، وبلال بن رباح، وسهل بن حنيف، ابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وقيس بن سعد، وأبو أيوب، وكعب بن عجرة، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، وأبو سعيد، وأبو موسى، وأنس، والبراء، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وصهيب، وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عكيم، هؤلاء الذين روى عنهم .

وأما الذين رآهم ولم يرو عنهم فكثيرون، وفي سماعه من عمر، وعبد الله بن زيد خلاف، وهذا القول الذي ذكره المصنف تبعا لصاحب القوت، رواه الخطيب في التاريخ، فقال: أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز، ثم ساق سنده إلى سفيان بن عيينة، قال: أخبرني عطاء بن السائب، عن ابن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، ففي هذا القول تخصيص بالأنصار، وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن في حلقة فيها نفر من الصحابة، منهم البراء يستمعون لحديث وينصتون إليه ( ما فيهم أحد) ، ونص القوت: ما منهم من أحد ( يسأل عن حديث أو فتوى إلا ودان أخاه كفاه ذلك) زاد صاحب القوت: ( وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها، إلى الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول) ونص القوت: حتى ترجع إلى الذي سئل عنها أول مرة، وقال في موضع آخر: وقال مرة: أدركت ثلاثمائة يسأل أحدهم عن الفتيا والحديث فيرد ذلك، إلى الآخر، يحيل الآخر على صاحبه، وعند الخطيب بالسند المتقدم، إن كان أحدهم يسأل عن المسألة فيردها إلى غيره، فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وإن كان أحدهم ليقول في شيء وإنه ليرتعد .

( وروي أن أصحاب الصفة) وهم جماعة من فقراء الصحابة كانوا يلازمون صفة المسجد على قدم التجريد، والتوكل وكانوا يزيدون تارة وينقصون تارة، وقد ذكرهم أبو نعيم في الحلية، على التفصيل وحقق الخلاف في عددهم، وروى مجاهد عن أبي هريرة قال: أهل الصفة أضياف الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال، إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته [ ص: 398 ] هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، صحيح متفق عليه فما ذكر من إيثارهم ( أهدي إلى واحد منهم رأس مشوي) ، أي رأس كبش قد شوي، أو عجل، ( وهم في غاية الضر) والجهد والفاقة، فلم يأكله، ( فأهداه إلى الآخر) ، من أصحابه; إيثارا ( وأهدى الآخر إلى الآخر، هكذا دار بينهم حتى رجع إلى الأول) ، فهذا هو مقام الإيثار، ولقد كانوا رضي الله عنهم مع ضيق عن الحطام الزائل البائد معتصمين بما حماهم من الوافي الزائد، فاجتزأوا من الدنيا بالقلق ومن ملبوسها بالخرق، لم يعدلوا إلى أحد سواه، ولم يعولوا إلا على محبته، ورضاه، رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم، وأمر الرسول بالصبر على محادثتهم ومجالستهم، وإنما أورد المصنف هذه القصة هنا ليقاس عليه أمر الفتوى، حتى يعيدها إلى الآخر، ( فانظر كيف انعكس أمر العلماء) اليوم، ( فصار الهروب منه مطلوبا والمطلوب) الحقيقي ( مهروبا عنه) ، وذلك في زمان المصنف، وأما الآن فالله المستعان، وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية