إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين فإن اليقين هو رأس مال الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليقين الإيمان كله فلا بد من تعلم علم اليقين أعني أوائله ثم ينفتح للقلب طريقه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : تعلموا اليقين ومعناه جالسوا الموقنين واستمعوا منهم علم اليقين وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم ، كما قوي يقينهم وقليل من اليقين خير من كثير من العمل .

وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له : رجل حسن اليقين كثير الذنوب ، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كان غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب ; لأنه كلما أذنب تاب واستغفر ، وندم فتكفر ذنوبه ، ويبقى له فضل يدخل به الجنة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من أقل ما أوتيتم اليقين ، وعزيمة الصبر ، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار وفي وصية لقمان لابنه : يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين ، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ، ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه وقال يحيى بن معاذ إن للتوحيد نورا وللشرك نارا ، وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين وأراد به اليقين وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات .


(ومنها) أي ومن علامات علماء الآخرة (أن يكون شديد العناية) كثير الاهتمام (بتقوية اليقين فإن اليقين هو رأس مال الدين) وهو من حملة علوم الإيمان متضمن له بكل ما يحب الإيمان به، ومن ثم قال: جمع اليقين قوة الإيمان بالقدر والسكون إليه، وإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورا وانتفى عنه كل ريب، فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستعملك واليقين يحملك فاليقين أفضل مواهب الرب لبعده ولا يثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليقين الإيمان كله) .

قال العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد وأبو القاسم اللكائي في كتاب السنة من رواية يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: أخبرنا محمد بن خالد المخزومي، عن سفيان بن سعيد، عن زبيد عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزادوا في أوله: الصبر نصف الإيمان، هكذا قال أبو نعيم والبيهقي [ ص: 409 ] في إسناده وقال: اللكائي عن زبيد عن مرة عن عبد الله قال البيهقي: تفرد به يعقوب بن حميد عن محمد بن خالد، وقد أعله ابن الجوزي في العلل المتناهية، بهما فقال: محمد بن خالد مجروح، ويعقوب بن حميد ليس بشيء، قال العراقي: أما محمد بن خالد المخزومي فلم أجد أحدا من الأئمة جرحه، وأما يعقوب فأورده ابن حبان في الثقات، ثم قال: والصحيح المعروف أن هذا من قول ابن مسعود، وهكذا ذكره البخاري في صحيحه تعليقا موقوفا عليه، ووصله الطبراني والبيهقي في الزهد، من رواية الأعمش عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن عبد الله قوله: قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف اهـ .

قال: المراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين؛ إذ اليقين معرفة أن المعصية ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة، إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل، فكان الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار، (فلا بد من تعلم علم اليقين أعني أوائله) ، وذلك في حق المبتدئ، (ثم ينفخ للعبد طريقه) بالإمداد الباطني، مع المجاهدة ومخالطة الكمل من العارفين، (وذلك قال صلى الله عليه وسلم: تعلموا اليقين) قال صاحب القوت: (ومعناه جالسوا الموقنين) أي المتصفين بعلم اليقين (واسمعوا منهم علم اليقين) ; لأنها علماؤه إلى هنا نص القوت، زاد المصنف: (وواظبوا على الاقتداء بهم) أي بأفعالهم في حركاتهم، وعند سكونهم (ليقوى يقينكم، كما قوي يقينهم) .

قال العراقي: الحديث رواه أبو نعيم عن ثور بن يزيد، مرسلا، وهو معضل، وهو مروي من قول خالد بن معدان، ورويناه في كتاب اليقين لابن أبي الدنيا، من رواية بقية عن العباس ابن الأخنس، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: تعلموا اليقين، كما تعلمون القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه. والعباس بن الأخنس مجهول، قاله الذهبي في الميزان .

(وقليل من اليقين خير من كثير من العمل) لأن اليقين هو رأس المال، وهو يصحح الأعمال، وما قل عمل برز من قلب مؤمن ولا كثر عمل برز من قلب غافل، وحسن الأعمال حسن نتائج الأحوال، وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي الدرداء رفعه: قليل من التوفيق خير من كثير العمل، وهو قريب إلى سياق المصنف، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له:) ونص القوت: وقد روينا مسندا قيل: يا رسول الله، (رجل حسن اليقين كثير الذنوب، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين، فقال: ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كانت) وفي نسخة: من كان (غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب; لأنه كلما أذنب تاب واستغفر، وندم فتكفر ذنوبه، ويبقى له فضل يدخل به الجنة) ، هكذا أخرجه صاحب القوت بلا إسناد .

وقال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في الأصل السادس بعد المائتين من نوادر الأصول، قال: حدثنا مهدي هو ابن عباس، حدثنا الحسين هو ابن حازم، عن منصور، عن الرازي، عن أنس، قال: قيل: يا رسول الله رجل يكون قليل العمل كثير الذنوب، قال: كل بني آدم خطاء فمن كانت له سجية عقل وغريزة يقين لم تضره ذنوبه شيئا، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "كلما أخطأ لم يلبث أن يتوب، فتمحى ذنوبه، ويبقى فضل يدخل به الجنة"، وإسناده مجهول اهـ .

قلت: وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد، والترمذي والدارمي، والحاكم والبيهقي كلهم عن أنس رفعه: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وهذا يصلح أن يكون شاهدا لبعض الحديث المذكور، وفي القوت: جاء رجل إلى معاذ بن جبل، فقال: أخبرني عن رجلين أحدهما مجتهد في العبادة، كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتريه الشك في أموره، فقال معاذ: ليحبطن شكه أعماله قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت معاذ وقال الرجل: والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها، قال: فأخذ معاذ بيده، وقام قائما ثم قال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا اهـ .

فهذا وإن كان موقوفا على معاذ شاهد جيد بمعناه لما أورده المصنف (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من أقل ما أوتيتم اليقين، وعزيمة الصبر، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا في الأحاديث المرفوعة، هكذا اهـ، قلت: أورد صاحب القوت فقال: وروينا في [ ص: 410 ] حديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أقل ما أوتيتم إلخ، هكذا بزيادة الواو، وهو يدل على أن هذا ليس بأول الحديث ثم رأيته بعد أورده في شرح مقام الصبر، فقال: روى شهر بن حوشب الأشعري عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أقل ما أوتيتم اليقين، وعزيمة الصبر، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته، من قيام الليل، وصيام النهار، ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه، ثم قرأ: ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون اهـ .

قال العراقي: وروى ابن عبد البر في كتاب العلم من حديث معاذ رفعه، قال: "ما أنزل شيء أقل من اليقين، ولا قسم شيء أقل من الحلم" ولا يصح إسناده .

وقد روي نحوه مختصرا من قول بعض الأشياخ، رويناه في كتاب اليقين لابن أبي الدنيا، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعيد، أخبرنا خالد بن خراش، أخبرنا بشير بن بكر، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الأشياخ، قال: ما نزل في الأرض شيء أقل من اليقين، ولا قسم بين الناس أقل من الحلم، هذا حديث مقطوع ضعيف اهـ .

(وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العلم إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا يفتر عامل حتى ينقص يقينه) ، هكذا أورده صاحب القوت، إلا أنه قال: ولا قصر عامل بدل ولا يفتر، والباقي سواء، وزاد: وقد يكون يعمل العمل الضعيف إذا كان مستيقنا أفضل من العمل القوي الضعيف في يقينه، ومن يضعف يقينه تغلبه المحقرات من الإثم .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي: (إن للتوحيد نورا وللشرك نارا، وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين) ، أورده صاحب القوت، هكذا بلفظ: وكان يحيى بن معاذ يقول: فساقه، زاد المصنف فقال: (وأراد) أي، يحيى بن معاذ بنور التوحيد (اليقين) ، دل على ذلك سياق صاحب القوت، هذا القول في هذا المبحث، (وقد أشار القرآن) المجيد (إلى ذكر الموقنين في) عدة (مواضع دل به على أن اليقين هو الرابطة) والواسطة (للخيرات) العالية (والسعادات) الباقية فمن ذلك قوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين ، وقوله تعالى الآيات لقوم يوقنون ، وكذلك في السنة، وردت عدة أحاديث في رفع شأن أهل الإيقان فنبهت على أنهم من خلاصة أهل الإيمان،

التالي السابق


الخدمات العلمية