إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الاصطلاح الثاني اصطلاح الفقهاء والمتصوفة وأكثر العلماء وهو أن لا يلتفت فيه إلى اعتبار التجويز والشك بل إلى استيلائه وغلبته على العقل حتى يقال : فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لا شك فيه ويقال : فلان قوي اليقين في إتيان الرزق مع أنه قد يجوز أنه لا يأتيه فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب ، واستولى حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمي ذلك يقينا ولا شك في أن الناس يشتركون في القطع بالموت والانفكاك عن الشك فيه ، ولكن فيهم من لا يلتفت إليه ولا إلى الاستعداد له وكأنه غير موقن به .

ومنهم من استولى ذلك على قلبه حتى استغرق جميع همه بالاستعداد له ولم يغادر فيه متسعا لغيره فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوة اليقين ولذلك قال بعضهم ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت وعلى هذا الاصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوة
(الاصطلاح الثاني) في اليقين (للفقهاء) عامة (والمتصوفة وأكثر العلماء) رحمهم الله تعالى، (وهو) أي اليقين: (أن لا يلتفت فيه إلى اعتبار التجويز والشك) المتقدم ذكرهما (بل إلى استيلائه وغلبته على القلب) حتى يغمره على سائر جهاته (حتى يقال: فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لا يشك فيه) بأنه واقع لا محالة، (ويقال: فلان قوي اليقين) مع الله، (في إتيان الرزق) وحصوله (مع أنه قد يجوز) في نفسه (أنه لا يأتيه فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب، واستولى) عليه، (حتى صار هو المتحكم المتصرف في النفس بالتجوز والمنع) كما هو شأن المستولي (سمي ذلك يقينا) وقد أشارت إلى ذلك المعنى عباراتهم فقال سيد الطائفة الجنيد: هو استقرار العلم الذي لا يتقلب ولا يتحول ولا يتغير في القلب، قال سهل: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه سكون إلى غير الله، وقال غيره: من علامات اليقين الالتفات إلى الله في كل نازلة، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال، وإرادة وجهه بكل حركة وسكون .

وقال القشيري: قال الجنيد: سئل بعض العلماء عن التوحيد، فقال: وهو اليقين، فقال السائل: بين لي ما هو، فقال: هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله تعالى وحده لا شريك له، فإذا عرفت ذلك فقد وحدته، قال شارح الرسالة: أجاب أولا بأنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له، فلما لم يفهم نزل له قليلا نزل إلى الأفعال خاصة، وكلمه على حسب فهمه، وخاطبه بالأفعال دون الذات والصفات اهـ .

وقال السري: اليقين سكونك عند جولان المراد في صدرك لتيقنك أن حركاتك فيها لا تنفعك، ولا ترد عنك مقضيا، قال ابن القيم عند ذكره لقول السري: هذا إذا لم تكن الحركة مأمورا بها، فإذا كانت مأمورا بها فاليقين في بذل الجهد فيها، واستفراغ الوسع، وقال بعضهم: هو رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفات القلوب وملاحظة الأسرار بمخالطة الأذكار، وقيل: إذا استكمل المرء حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة والمحنة منحة، وقال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، قال ابن مسعود: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم فهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه، (ولا شك في أن الناس مشتركون في القطع بالموت) بأنه حق وواقع (والانفكاك عن الشك فيه، ولكن فيهم من يلتفت إليه وإلى الاستعداد له) أي لنزوله، (وكأنه غير مؤمن به) أي غير مصدق به، وهم المنهمكون على لذات الدنيا، والمؤثرون بشهواتها على لذات الآخرة، (ومنهم من استولى ذلك) أي ذكره (على قلبه حتى استغرق همه) وتوجهت عنايته (بالاستعداد له) بأنواع الطاعات، (ولم يغادر) أي لم يترك (فيه متسعا لغيره) كما هو معلوم من سيرة فضلاء [ ص: 414 ] الصحابة وأكابر التابعين، ومن بعدهم طبقة بعد طبقة، وجيلا بعد جيل، بعلم ذلك من شاهد سيرتهم وسير مناقبهم المسطرة في الكتب، (فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوة اليقين) ومن عداهم متصف بضعف اليقين، (ولذلك قال بعضهم) أي من العلماء العارفين: (ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت) ، وهذا القول مشهور عن المصنف، نسبه إليه غير واحد من العلماء، قال ملا علي في شرحه على الشمائل، قال الغزالي: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من الموت، والصحيح أن المصنف ناقل لهذا القول وليس أبا عذره، وقد فسر غالب المفسرين قوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين بالموت، وهو معنى صحيح ذكره أئمة اللغة، ومال كثيرون إلى أنه إطلاق حقيقي وصوب بعضهم أنه مجازي من تسمية الشيء بما يتعلق به حققه شيخنا في حاشية القاموس، وهذا التفسير الذي ذكرناه متفق عليه، عند المفسرين خلافا للزنادقة; فإنهم قالوا: إن العبد إذا وصل إلى مقام حقيقته ارتفعت عنه العبادة، وهذا تلبيس وافتراء منهم على أهل الله العارفين، ثم إن المراد بمفاد الآية الكريمة، أن دم على طاعة ربك، كما حققه غير واحد، (وعلى هذا الاصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوة) .

وقال صاحب القوت: واليقين على ثلاث مقامات: يقين معاينة، وهذا لا يختلف خبره، والعالم به خبير، وهو للصديقين والشهداء، ويقين تصديق واستسلام، وهذا في الخبر والعالم به مخبر مستسلم، وهذا يقين المؤمنين، وهم الأبرار، منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك لقوله عز وجل: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ، وقد يضعف هؤلاء بعدم الأسباب ونقصان المعتاد، ويقرون بوجودها، وجريان العادة ويحجبون بنظرهم إلى الوسائط، ويكاشفون بها، ويجعل مزيدهم وأنسهم بالخلق، ويكون نقصهم ووحشتهم بفقدهم، ويكون من هؤلاء الاختلاف لتلوين الأشياء، وتغييرها عليهم، ثم ذكر المقام الثالث للذي قدمنا ذكره آنفا، ثم قال بعد ذلك: وكل مؤمن بالله عز وجل فهو على علم من التوحيد، والمعرفة به، ولكن علمه ومعرفته على قدر يقينه، ويقينه من نحو صفاء إيمانه وقوته، وإيمانه على معنى معاملته ورعايته، فأعلى العلوم علم المشاهدة عن عين اليقين، وهذا مخصوص بالمقربين في مقامات قربهم، ومحادثات مجالستهم ومأوى أنسهم، ولطيف تملقهم، وأدنى العلوم علم التسليم، والقبول بعدم الإنكار وفقد السكون، وهذا العموم للمؤمنين، وهو من علم الإيمان ومزيد التصديق، وهذا لأصحاب اليمين، وبين هذين مقامات لطيفات من أعلى طبقات المقربين، إلى أوسط المقامات، ومن أدنى طبقات أصحاب اليمين إلى أعالي أواسط الأعليين، اهـ سياق القوت .

وهنا فوائد يحتاج إلى التنبيه عليها، وهو الفرق بين علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وما للقوم فيه من العبارات، قال القشيري في رسالته: هذه عبارات عن علوم جلية، فاليقين هو العلم الذي لا يتداخل صاحبه ريب على مطلق العرف، فعلم اليقين هو اليقين، وكذلك عين اليقين نفس اليقين وحق اليقين، نفس اليقين فعلم اليقين على موجب اصطلاحهم ما كان بشرط البرهان، وعين اليقين ما كان بحكم البيان، وحق اليقين ما كان ينعت العيان فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب المعارف، قال شارحها: اليقين عند أهل اللغة توالي العلم بالمعلوم حتى لا يكاد يغفل عنه، يقال: أيقن الماء إذا صفا من كدورته، وما يخالطه مما ينجر مع الماء، فإذا استقر في مفيضه واستقر قراره وصفا، يقال: أيقن الماء فتبين من هذا أن العلم في الاصطلاح يباين اليقين، وذلك أن الشخص قد يعلم مرة واحدة فلا يسمونه موقنا إلا إذا توالى ولم يتخلله غفلة فإذا تقرر ذلك قلنا فعلم اليقين ما كان العلم به ثابتا عن البرهان، فسمي علم يقين; لتحقيق كونه علما; لأنه قد يسمى الظن علما للسكون إلى أحد المحتملين، فإذا قالوا: علم اليقين، أرادوا العلم المتيقن، الذي لا يقبل الاحتمال، ولذلك كان بشرط البرهان، وعين اليقين حصول العلم وتوالي أمثاله من غير نظر في دليل، بل صار العلم مذكورا، وقلت: الغفلات في تواليه على القلب، فلم يحتج صاحبه إلى تأمل برهان، وحق اليقين هو حصول اليقين بالمعلوم الذي صار غالبا على القلب حتى لا يبقى لغيره ذكر منه، وبهذا الاعتبار سموه حق اليقين [ ص: 415 ] لثبوت الحقيقة لمن تحقق به، فحاصل ما ذكر أن علم اليقين إشارة للعلم الحق، الذي لا يقبل الاحتمال، وإن لم يتوال على القلب، وعين اليقين هو المتوالي على القلب ذكره حتى قلت غفلات المتصف به عنه، وإن كان قد يذكر غيره، وحق اليقين هو الذي غلب ذكر معلومه على القلب حتى شغل عن غيره، وثبتت حقيقته فيمن تحقق به، وهذه الاصطلاحات الثلاثة، في مراتب العلم الحق، وإنما اختلفت في دوامها وعدم دوامها وفي غلبتها على القلب، حتى شغلته عن ذكر غيره اهـ .

وفي عبارات بعضهم: علم اليقين ما أعطاه الدليل بتصور الأمر على ما هو عليه، وعين اليقين ما أعطته المشاهدة والكشف، وحق اليقين ما حصل من العلم بما أريد له ذلك الشهود، وقال غيره: حق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا، فعلم كل عاقل بالموت علم يقين، فإذا عاين الملائكة فعين يقين، فإذا فارق الروح فهو حق اليقين .

وقال صاحب القوت: المعرفة على مقامين معرفة سمع، ومعرفة عيان; فمعرفة السمع في الإسلام وهو أنهم سمعوا به فعرفوه، وهذا هو التصديق من الإيمان، ومعرفة العيان في المشاهدة، وهو عين اليقين والمشاهدة أيضا على مقامين، مشاهدة الاستدلال، ومشاهدة الدليل فمشاهدة الاستدلال قبل المعرفة، وهذه معرفة الخبر، وهو في السمع لسانها القول، والواجد بها واجد بعلم علم اليقين من قوله تعالى: بنبإ يقين إني وجدت فهذا العلم قبل الوجد وهو علم السمع، وقد يكون سببه التعليم، ومنه الحديث: "تعلموا اليقين" أي جالسوهم فاسمعوا منهم، وأما مشاهدة الدليل فهي بعد المعرفة التي هي العيان وهو اليقين لسانه الوجد، والواجد بها واجد قرب وبعد هذا الوجد علم من عين اليقين، وهذا يتولاه الله تعالى بنوره عن يده بقدرته، ومنه الحديث: "فوجدت بردها فعلمت" فهذا التعليم بعد الوجد من عين اليقين باليقين، وهذا من أعمال القلوب، وهؤلاء علماء الآخرة، وأهل الملكوت، وأرباب القلوب، وهم المقربون من أصحاب اليمين وعلم الظاهر من علم الملك، وهو من أعمال اللسان، والعلماء به موصوفون بالدنيا وصالحوهم أصحاب اليمين، اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية