إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المرتبة السادسة : وهي الأقل أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين أو تتعذر عليه الطهارة فيجلس مستقبل القبلة ساعة مشتغلا بالذكر والدعاء ، فيكتب في جملة قوام الليل برحمة الله وفضله وقد جاء في الأثر : صل من الليل ولو قدر حلب شاة فهذه طرق القسمة فليختر المريد لنفسه ما يراه أيسر عليه وحيث يتعذر عليه القيام في وسط الليل فلا ينبغي أن يهمل إحياء ما بين العشاءين والورد الذي بعد العشاء ثم يقوم قبل الصبح وقت السحر ، فلا يدركه الصبح نائما ويقوم بطرفي الليل وهذه هي المرتبة السابعة ومهما كان النظر إلى المقدار فترتيب هذه المراتب بحسب طول الوقت وقصره وأما في الرتبة الخامسة والسابعة لم ينظر فيهما إلى القدر فليس ، يجري أمرهما في التقدم والتأخر على الترتيب المذكور إذ ، السابعة ليست دون ما ذكرناه في السادسة ولا الخامسة دون الرابعة .


(المرتبة السادسة: وهي الأقل أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين) وبه فسر الأثر الآتي للمصنف قريبا (أو يتعذر عليه الطهارة) لمانع من مرض ثقيل أو برد شديد أو عدم وجدان الماء في ذلك الوقت (فيجلس مستقبل القبلة ساعة مشتغلا بالذكر والدعاء، فيكتب في جملة قوام الليل برحمة من الله وفضله) ففضله واسع، كما أن رحمته وسعت كل شيء (وقد جاء في الأثر: صل من الليل ولو قدر حلب شاة) قال العراقي : رواه أبو يعلى من حديث ابن عباس في صلاة الليل مرفوعا: نصفه، ثلثه، ربعه، فواق حلب ناقة، فواق حلب شاة. ولأبي الوليد بن مغيث من رواية إياس بن معاوية مرسلا: لا بد من قيام الليل ولو حلبة ناقة أو حلبة شاة. اهـ .

قلت: أورد هذا الأثر صاحب القوت وقال: هذا يكون مقدار أربع ركعات، ويكون مقدار ركعتين. اهـ .

وروى ابن أبي شيبة والبيهقي ومحمد بن نصر في الصلاة عن الحسن مرسلا: " صلوا من الليل ولو أربعا، صلوا من الليل ولو ركعتين، ما من أهل بيت تعرف لهم صلاة من الليل إلا ناداهم مناد: يا أهل البيت قوموا لصلاتكم". وإياس بن معاوية المذكور هو المزي ومرسله رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم بلفظ: " لا بد من صلاة بليل ولو حلب ناقة، ولو حلب شاة، وما كان بعد صلاة العشاء الأخيرة فهو من الليل .

(فهذه طرق القسمة) في صلاة الليل (فليتخير المريد) السالك في طريق الحق (لنفسه ما رآه أيسر عليه) وأسهل (وحيث يتعذر عليه القيام في وسط الليل فلا ينبغي أن يهمل) أي: يترك (إحياء ما بين العشاءين والورد الذي بين العشاء) مما ذكر آنفا، (ثم يقوم قبل الصبح وقت السحر، فلا يدركه الصبح نائما ويقوم بطرفي الليل وهذه هي المرتبة السابعة) ولفظ " القوت ": وإن أراد المريد إحياء الوردين اللذين من أول الليل أحدهما: بين العشاءين، والثاني: قبل نومة الناس، فإن إحياء هذين الوردين عند بعض العلماء [ ص: 204 ] أفضل من صيام يوم، ثم ليقم الورد الرابع، وهو ما بين الفجرين وهو أول ثلث الليل الآخر، أو الورد الخامس وهو السحر الآخر قبل طلوع الفجر الثاني، وهو يصلح للقراءة والاستغفار إن كان لم يعتد القيام في جوف الليل، وأي ورد أحياه من الليل بأي نوع من الأذكار فقد دخل في أهل الليل، وله معهم نصيب. اهـ .

قلت: وروى الديلمي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: من صلى أربع ركعات بعد العشاء، ثم أوتر، فنام على وتره، فهو في صلاة حتى يصبح. (ومهما كان النظر إلى المقدار فترتيب هذه المراتب بحسب طول الوقت وقصره) في الشتاء والصيف .

(وأما في المرتبة الخامسة والسابعة فلم ينظر فيهما إلى المقدار، وليس يجري أمرهما في التقدم والتأخر على الترتيب المذكور، إذا السابعة ليست دون ما ذكرناه في السادسة ولا الخامسة دون الرابعة) .

تنبيه:

اشتهر على الألسنة حديث: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" واختلف فيه: قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة: لا أصل له، وإن روي من طرق عند ابن ماجه، وأورد الكثير منها القضاعي وغيره، ولكن قد رأيت بخط شيخنا في بعض أجوبته أنه ضعيف، بل قواه بعضهم والمعتمد الأول، وقد أطنب ابن عدي في رده ومثلوا به في الموضوع غير المقصد لكثرة طرقه. قال أبو طاهر: ظن القضاعي أن الحديث صحيح، وهو معذور لأنه لم يكن حافظا. اهـ .

واتفق أئمة الحديث: ابن عدي، والدارقطني، والعقيلي، وابن حبان ، والحاكم على أنه من قول شريك قاله لثابت حين دخل عليه. وقال ابن عدي: سرقه جماعة عن ثابت كعبد الله بن شبرمة الشريكي، وعبد الحميد بن بحر وغيرهما. اهـ. كلام السخاوي.

قلت: رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن محمد الطلحي، عن ثابت بن موسى الضرير العابد، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر.

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الذهبي: فيه ثابت بن موسى الضرير الكوفي العابد. قال يحيى: كذاب، وقال ابن نمير: خبر باطل، وقال الحاكم : هذا لم يثبت، وسببه أن ثابت بن إبراهيم الزاهد كان يقوم الليل، فأصبح يوما فأتى مجلس شريك وهو على الحديث فقال: حدثنا شقيق بن سلمة عن أبي مسعود، فوقع نظره على هذا الزاهد، فقال شريك: من كثرت صلاته.. إلخ. فسمعه الزاهد فظن أنه متن الإسناد، فرواه مسندا، فصار حديثا عند من لا يعرف الحديث. اهـ .

وذكر الحافظ هذا السبب من وجه آخر بعد أن قال: لا أصل له، ولم يقصد ثابت وضعه، وإنما دخل على شريك وهو بمجلس إملائه عند قوله: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يذكر المتن، فقال شريك متصلا بالسند أو المتن حين نظر إلى ثابت ممازحا به من كثرت صلاته... إلخ، معرضا بزهده وعبادته، فظن ثابت أن هذا متن السند، فحدث به. وقال الحافظ السيوطي في أعذب المناهل: حكم الحفاظ على هذا الحديث بالوضع، وأطبقوا على أنه موضوع هذا لفظه، ثم إنه قد أورده في جامعه الكبير والصغير، قال في الكبير: رواه ابن ماجه والعقيلي والبيهقي ، عن جابر، وابن عساكر، عن أنس، واقتصر في الصغير على إشارة ابن ماجه، ولذا وجد شارحه المنياوي سبيلا في الطعن عليه حيث قال: إذا كان الحديث موضوعا باتفاق المحدثين، فكيف يورده في كتاب ادعى أنه صانه عما تفرد به وضاع. والله أعلم .

وعلى تقدير ثبوت الحديث فاختلف في المراد بالنهار، فالمشهور أنه نهار الدنيا، ومعناه استنار وجهه وعلاه بهاء وضياء. وقيل: المراد به نهار القيامة، وهذا قد ذكره الثعلبي وأورده السهروردي في آخر الباب الخامس والأربعين في ذكر فضل قيام الليل من كتاب العوارف ما لفظه، وقد ورد: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار، ويجوز أن يكون لمعنيين: أحدهما: أن المشكاة تستنير بالمصباح، فإذا صار سراج اليقين في القلب يزهر بكثرة زيت العمل بالليل، فيزداد المصباح إشراقا، فتكسب مشكاة القلب نورا وضياء .

كان سهل بن عبد الله يقول: اليقين نار، والإقرار فتيلة، والعمل زيت. وقد قال الله تعالى: سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، وقال تعالى: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فنور اليقين من نور الله تعالى من زجاجة القلب يزداد ضياء بكثرة زيت العمل، فتبقى زجاجة القلب كالكوكب الدري، وتنعكس أنوار الزجاجة على مشكاة القلب، وأيضا يلين القلب بنار النور، ويسري لينه إلى القالب، فيلين القالب بلين القلب، فيتشابهان لوجود اللين الذي عمهم [ ص: 205 ] قال الله تعالى: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وصف الجلود باللين كما وصف القلوب باللين، فإذا امتلأ القلب بالنور ولان القلب بما يسري فيه من الأنين والسرور، ويندرج المكان والزمان في نور القلب، وتندرج فيه الكلم والآيات والسور، وتشرق الأرض أرض القالب بنور ربها، إذ يصير القلب سماويا والقالب أرضيا، ولذة تلاوة كلام الله تعالى في عمل المناجاة تستر كون الكائنات، والكلام المجيد بكونه ينوب عن سائر الوجود في مزاحمة صفو الشهود، فلا يبقى حينئذ للنفس حديث، ولا يسمع للهاجس حثيث، وفي مثل هذه الحالة يتصور تلاوة القرآن من فاتحة إلى خاتمة من غير وسوسة وحديث نفس، وذلك هو الفضل العظيم .

والوجه الثاني للحديث المذكور معناه: أن وجوه أموره التي يتوجه إليها تحسن وتتداركه المعونة من الله تعالى في تصاريفه، ويكون معانا في مصدره ومورده، فتحسن وجوه مقاصده وأفعاله، وينتظم في سلك السداد مسددة أقواله; لأن الأقوال تستقيم باستقامة القلب. والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية