إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب السابع .

في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه .

بيان شرف العقل .

اعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره لا سيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة أو كيف يستراب فيه ، والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل حتى إن أعظم البهائم بدنا وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : الشيخ في قومه كالنبي في أمته وليس ذلك لكثرة ماله ولا لكبر شخصه ولا لزيادة قوته بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله .

ولذلك ترى الأتراك والأكراد وأجلاف العرب وسائر الخلق مع قرب منزلتهم من رتبة البهائم يوقرون المشايخ بالطبع .

ولذلك حين قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقعت أعينهم عليه واكتحلوا بغرته الكريمة هابوه وتراءى لهم ما كان يتلألأ على ديباجة وجهه من نور النبوة وإن كان ذلك باطنا في نفسه بطون العقل
(الباب السابع في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه) .

(بيان شرف العقل)

قدم بيان شرفه على بيان حقيقته وأقسامه; لأن ما لا يعرف شرفه لا يدرك حقيقته وأقسامه، فقال: (اعلم أن هذا) يعني بيان شرفه (لا يحتاج إلى تكلف) بجلب البراهين والأدلة (في إظهاره) إذ هو كالضروري (لا سيما وقد ظهر) واستبان (شرف العلم من قبل) بالشواهد النقلية، والعقلية، (والعقل) في الحقيقة: (منبع العلم) الذي ينتشر منه، (ومطلعه) الذي من أفقه يطلع (وأساسه) الذي تنبني عليه أركانه (والعلم يجري فيه) أي في العقل (مجرى الثمر من الشجر و (مجرى النور من الشمس ومجرى (الرؤية من العين) وإذا كان العلم نتيجة العقل وخال النتيجة في العلو والشرف ما عرف فالأصل كيف يكون وتحقيق [ ص: 449 ] هذا المقام أن العقل هو الشرف في الإنسان، وهو المتهيئ لقبول الوحي والإيمان، به يحصل عنه العلم والمعرفة، والدراية والحكمة والذكاء والذهن، والفهم والفطنة، وجودة الخاطر وجودة الوهم الخيال والبديهة والرؤية والكياسة والخبرة وإصابة الظن والفراسة، والزكانة والكهانة، ودقة النظر والرأي والتدبير، وصحة الفكر وسرعة الذكر وجودة الحفظ والبلاغة، والفصاحة فهذه سبع وعشرون من توابع العقل، والعقل أساس لكل واحد منها ومطلع لأسرار معارفها، واقتصر المصنف على واحد منها، وهو العلم ولكل منها حدود وتعاريف لا نطول بها الكتاب، ولعلنا نلم ببعض من ذلك في أثناء شرح كلام المصنف حيث اتفق الحال بحسب المناسبة، فالعلم إدراك الشيء بحقيقته، وهو ضربان: أحدهما حصول صور لمعلومات في النفس، والثاني: حكم النفس على الشيء بوجود شيء له هو موجود أو نفي شيء عنه، هو غير موجود له نحو الحكم على زيد بأنه خارج أو ليس هو طائرا فالأول هو الذي قد يسمى في الشرع وفي كلام الحكماء العقل المستفاد وفي النحو المعرفة، ويتعدى إلى مفعول واحد، والثاني: يسمى العلم دون العقل ويتعدى إلى مفعولين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما من حيث إن القصد إذا قيل: علمت زيدا منطلقا إثبات العلم بانطلاق زيد دون العلم بزيد، ثم إن العلم والعقل بقياس أحدهما على الآخر على ثلاثة أوجه أحدها عقل ليس بعلم، وهذا العقل الغريزي .

والثاني: علم ليس بعقل وهو المتعدي إلى مفعولين، والثالث: عقل هو علم وعلم هو عقل، والعقل المستفاد والعلم الذي يقال له المعرفة، ولم يصح أن يعدى العقل إلى مفعولين، فيقال: عقلت زيدا منطلقا، كما يقال: في علمت لكون العقل موضوعا للعلم البسيط دون المركب، وسمي عقلا من حيث إنه مانع لصاحبه، أن تقع أفعاله على غير نظام ويسمى علما من حيث إنه علامة على الشيء، وهذا إذا اعتبر حقيقته مما يتبين به شرف اللغة العربية، حققه الراغب في الذريعة (وكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة) أما السعادة الدنيوية فمن أعظمها أن الإنسان به يصير خليفة الله في أرضه، وأما الأخروية فإنه به يحصل حرث الآخرة المذكورة في قوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ، وثمرة حرث الآخرة على التفصيل سبعة أشياء بقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، وعلم بلا جهل، وغنى بلا فقر، وأمن بلا خوف، وراحة بلا شغل، وعز بلا ذل (أو كيف يستراب) ويشك (فيه، والبهيمة على قصور تمييزها تحتشم العقل) قال الشيخ نجم الدين دايه: اعلم أن الله تعالى خص العقل برتبة هي أعلى مراتب المبدعات وأن جميعها محتاجة إليه، وهو الذي يمدها بفضائله، وإن كان بعضها لأجل بعده عنه وقلة حظه منه يتمرد عليه، وعلى ذلك فإنه لا محالة يخضع له إذا ظهر له أدنى ظهور فمثله كمثل الملك الذي يحتجب عن بعض عبيده، ويطلع عليهم من حيث لا يرونه ولا يعلمون أنه يراهم فإن أحسوا به أدنى إحساس انقبضوا ضرورة وهابوا طبعا، ويظهر هذا المعنى ظهورا تاما في البهائم; فإنها تخدم الإنسان وتهابه بالطبع وتتبع العدة الكثيرة الراعي الواحد وربما كانت قوة واحد منها تزيد على قوى عدة كثيرة منهم، (حتى أن معظم البهائم بدنا وأشدهم ضراوة وأقواهم سطوة) نحو الجمل والفيل، (إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه) خافه (لشعوره) وإدراكه (باستيلائه عليه) وغلبته (لما خص به من إدراك الحيل) .

وقال الراغب في الذريعة: العقل حيثما وجد كان محتشما حتى إن الحيوان إذا رأى إنسانا احتشمه بعض الاحتشام وانزجر بعض الانزجار، ولذلك تنقاد الإبل للراعي اهـ .

(ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: الشيخ في قومه كالنبي في أمته) قال السخاوي في المقاصد: جزم شيخنا وغيره بأنه موضوع وإنما هو من كلام بعض السلف، وربما أورد بلفظ: الشيخ في جماعته، كالنبي في قومه يتعلمون من علمه، ويتأدبون من آدابه وكله باطل اهـ .

وقال العراقي: وسئل عنه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في جملة أحاديث فأجاب بأنه لا أصل له، ثم قال العراقي: وقد روي من حديث ابن عمر وأبي رافع: أما حديث ابن عمر فرواه ابن حبان في تاريخ الضعفاء ومن رواية عبد الله بن عمر بن غانم عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

[ ص: 450 ] فذكره، أورده في ترجمة ابن غانم المذكور قاضي إفريقية، وقال روي عن مالك ما لم يحدث به مالك قط، لا يحل ذكر حديثه ولا الرواية عنه في الكتب إلا على سبيل الاعتبار قال العراقي: روى له أبو داود في سننه، وقال: أحاديثه مستقيمة، وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وقال: إنه أحد الثقات الأثبات، ومع ذلك فالحديث باطل، ولعل الآفة فيه من الراوي، عن ابن غانم وهو عثمان بن محمد بن خشيش القيرواني، قاله الذهبي في الميزان .

وأما حديث أبي رافع فرواه ابن عساكر في معجمه والديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن عبد الملك الكوفي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه عن رافع بن أبي رافع، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ في أهله كالنبي في قومه، ومحمد بن عبد الملك يعرف بالقناطري كذاب، وفي الميزان: حديث باطل اهـ .

قلت: وحديث أبي رافع هذا أخرجه أيضا الخليلي في مشيخته، وابن النجار في تاريخه كلاهما من حديث أحمد بن يعقوب القرشي الجرجاني عن القناطري، وقال ابن حبان: هو موضوع، وقال الزركشي: ليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللسان قال الخليلي: هو موضوع .

وأما حديث ابن عمر فأخرجه أيضا الشيرازي في الألقاب، ولفظه: "الشيخ في بيته كالنبي في قومه" هذا حال الحديث من جهة رواته قد حكم عليه بالوضع، ولكن معناه صحيح، يؤيده قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء وغير ذلك، (وليس ذلك لكثرة ماله) ومتاعه (ولا لكبر شخصه) وجئته (ولا زيادة قوته) وكثرة جرأته وبطشه (بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله) أي لتناهي عقله، وكماله، فيتعلمون من علمه، ويتأدبون من آدابه، وقد وجدت هذه الزيادة في بعض كما أشار له السخاوي، ومنهم شرح الحديث بغير ما ذهب إليه المصنف، فقال: أي يجب له من التوقير مثل ما للنبي في أمته وهو وإن كان صحيحا ولكن المعنى الأول أنسب للمقام، وقد قال الشيخ الأكبر قدس سره: الشيوخ نواب الحق كالرسل في زمانهم فهم ورثوا الشريعة وعليهم حفظها، والقيام بما فيها لا التشريع وحفظ القلوب ورعاية الآداب، فهم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب من العالم بعلم الطبيعة والطبيب لا يعرف الطبيعة إلا بما هي مدبرة للبدن والعالم بالطبيعة يعرفها مطلقا، وإن لم يكن طبيبا وقد يجمع الشيخ بينهما ومهما نقص عما يحتاجه المريد في تربيته فلا يحل له القعود على مصة الشيخوخة فإنه يفسد أكثر مما يصلح، ويفتن كالمتطبب يعل الصحيح، ويقتل المريض اهـ .

المقصود منه، ونعود إلى شرح كلام المصنف ولما سبق أن العقل أشرف المبدعات، وأن جميعها محتاجة إليه، حتى إن البهائم ظهر فيها هذا المعنى من الانقياد لصاحب العقل والاحتشام له ذكر أن على هذا يجري أمر الناس بعضهم مع بعض فإن عامتهم إذا وجدوا بينهم واحدا حظا من العقل فإنهم يهابونه ويخضعون له ويتبعونه منقادين مستسلمين كشبه البهائم إذ الطينة واحدة بعينها فقال: (ولذلك ترى الأتراك) وهم جبل من الناس معروفون الواحد تركي (والأكراد) جبل من الناس معروفون مساكنهم الجبال، وفي نسبتهم اختلاف كثير بيناه في شرحنا على القاموس (وأجلاف العرب) وهم الجفاة منهم الذين لم يتزيوا بزي أهل الحضر في رفقهم ولين أخلاقهم، مأخوذ من جلف الشاة أو البعير كان المعنى عربي بجلده، كما يقال غلام بغباره أي لم يتغير عن جهته، (وسائر الخلق) أي من سائر الأجناس (مع قرب رتبتهم من) رتبة (البهائم) وتحقيق المقام أن الإنسان وإن كان هو بكونه إنسانا هو أفضل موجود فذلك بشرط أن يراعي ما به صار إنسانا، وهو العلم والعمل المحكم فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضل، فأما من حيث ما يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث ما يتحرك وحيس فحيوان ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار، وإنما فضيلته بالنطق وقواه ومقتضاه، ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة فمن صرف همته كلها إلى رتبة القوة الشهوية باتباع اللذات البدنية، يأكل كما تأكل الأنعام فخليق بأن يلحق بأفق البهائم فيصير إما غمرا كثور أو شرها، كخنزير أو ضرعا ككلب، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو ذا روغان كثعلب، أو [ ص: 451 ] يجمع ذلك كله، فيصير كشيطان مريد، فهذه الأوصاف غالبا توجد في الأصناف التي ذكرها المصنف، إما على الانفراد أو على الاشتراك، أو الجمعية، (يوقرون المشايخ بالطبع) والجبلة، ويعظمونهم إجلالا لمقامهم، ويتبعون آراءهم خاضعين منقادين وفي الذريعة، وكذلك جماعة الرعاة، إذا رأوا منهم من كان أوفر عقلا، وأغزر فضلا فيما هم بصدده، انقادوا له طوعا، فالعلماء إذا لم يعاندوا انقادوا ضرورة لأكثرهم علما وأكبرهم وأفضلهم نفسا، وأوفرهم عقلا، ولا ينكر فضله إلا متدنس بالمعايب، ومتطلب للرياسة وحافظ على غرض دنيوي، وقد جعل عقله خادما لشهوته فلحفظه لرياسته، ينكر فضل الفاضل اهـ .

وقال الشيخ نجم الدين دايه: وكذلك يفعل العقلاء لمن فوقهم في العقل، من الطاعة والانقياد، وشدة التهيب ولقوة هذا الأمر الطبيعي، ربما ظن بواحد من الناس أكثر مما فيه من العقل، فينقاد له فقد بان بما ذكرنا أن العقل ملك مطاع بالطبع; (ولذلك) أي لفضيلة العقل الوافر، (قصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم كثير من المعاندين) لجفاء طباعهم، وقسوة قلوبهم، (فلما وقعت أعينهم عليه واكتحلوا بغرته) أي غرة وجهه (الكريمة هابوه) واحتشموه (وتراءى لهم ما كان يتلألأ على ديباجة وجهه من نور النبوة) المضيء، (وإن كان باطنا في نفسه بطون العقل) ، وسيأتي في ذلك المزيد في أخلاق النبوة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ونص الذريعة: ولفضيلة العقل، كان كثير ممن كانوا يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم قصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع طرفهم عليه فيتراءى لهم نور الله تعالى معربا عنه فألفى في قلوبهم منه روعة فهابوه، فمن مذعن له طائع وخبيث لا ينكره بعد إلا جاحدا ولهذا قال الشاعر:


لو لم تكن فيه آيات منزلة كانت بداهنه تغنيك عن خبره

وبين السياقين تفاوت لا يخفى للمنصفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية