إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما قول القائل : إن من وضعت يدي في قصعته فقد ذلت له رقبتي ، فقد قال بعضهم : هذا خلاف السنة وليس كذلك فإنه ذل إذا كان الداعي لا يفرح بالإجابة ، ولا يتقلد منة ، وكان يرى ذلك يدا له على المدعو .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحضر لعلمه أن الداعي له يتقلد منة ويرى ذلك شرفا وذخرا لنفسه في الدنيا والآخرة فهذا يختلف باختلاف الحال ، فمن ظن به أنه يستثقل الإطعام وإنما يفعل ذلك مباهاة أو تكلفا فليس من السنة إجابته .

بل الأولى التعلل ولذلك قال بعض الصوفية .

لا تجب إلا دعوة من يرى أنك أكلت رزقك وأنه سلم إليك وديعة كانت لك عنده ، ويرى لك الفضل عليه في قبول تلك الوديعة منه .

وقال سري السقطي رحمه الله: آه على لقمة ليس على الله فيها تبعة ولا لمخلوق فيها منه .

فإذا علم المدعو أنه لا منة في ذلك فلا ينبغي أن يرد .

وقال أبو تراب النخشي رحمة الله عليه : عرض علي طعام فامتنعت فابتليت بالجوع أربعة عشر يوما ، فعلمت أنه عقوبته .

وقيل لمعروف الكرخي رضي الله عنه : كل من دعاك تمر إليه ، فقال : أنا ضيف أنزل حيث أنزلوني .


(وأما قول القائل: إن من وضعت يدي في قصعته فقد ذلت له رقبتي، فقد قال بعضهم: هذا خلاف السنة) وهو صاحب "القوت " كما تقدم النقل عنه آنفا. (وليس كذلك) أي: ليس هذا القول على عمومه مخالفا للسنة، (فإنه ذل إذا كان الداعي لا يفرح بالإجابة، ولا يتقلد به منة، وكان ذلك يدا له على المدعو) . ففي هذه الصور الثلاث يتحقق الذل ويسلم لقائله ما أراده (ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحضر) الدعوة (لعلمه أن الداعي له يتقلد منة ويرى ذلك شرفا) يتشرف به، (وذخرا لنفسه في الدنيا والآخرة) فهو يفرح به ويرى أن الفضل له على كل حال، (فهذا) إذا (يختلف باختلاف الحال، فمن ظن أنه يستثقل الإطعام وإنما يفعل ذلك مباهاة) ومفاخرة بين الأقران (أو تكلفا) بمشقة (فليس من السنة إجابته) رواه أبو داود من حديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن طعام المتباريين، قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وروى العقيلي في الضعفاء نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طعام المتباهيين، والمتباريان المتعارضان بفعلهما للمباهاة والرياء، قاله أبو موسى المديني، قاله العراقي .

قلت: ورواه الحاكم أيضا بزيادة: أن يؤكل، وقال: صحيح. وأقره الذهبي في التلخيص، لكن في الميزان صوابه مرسل، وهو معنى قول أبي داود السابق. أو معنى التباري أن يفعل كل منهما فوق فعل صاحبه ليكون طعامه أكثر وآنق فيدخل فيه معنى قول المصنف أو تكلفا إذا قصد أحدهما تعجيز الآخر، ففيه مشقة كما أنه رياء (بل الأولى) في هذه الصورة (التعلل) عن الإجابة، (ولذلك قال بعض الصوفية) -رحمه الله تعالى -: (لا تجب إلا دعوة من يرى) لك أنك (أكلت رزقك وأنه سلم) إياه (إليك وديعة كانت لك عنده، ويرى لك الفضل عليه في قبول تلك الوديعة منه) نقله صاحب "القوت " وقال: فهذه شهادة العارف من الداعين، كذلك شهادة المدعوين من الموحدين أن يشهدوا الداعي الأول والمجيب الآخر والمعطي الباطن والرازق الظاهر، كما امتحن أصحابه بذلك بعض الصوفيين: بلغني أن رجلا دعا إماما من الصوفية في أصحابه إلى طعام، فلما أخذ القوم مجلسهم ينتظرون نقل الطعام إليهم، خرج إليهم شيخهم فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه دعاكم وأنكم تأكلون طعامه، فحرام على من يشهده في فعله أن يأكل. قال: فقاموا كلهم، فخرجوا ولم يستحل الأكل إذ كانوا لا يرونه في الفعل إلا غلاما حدثا، فإنه قعد إذ لم تثبت شهادته، ولم ينفذ نظره. العبارة لنا، والمعنى لقائله مثله أو نحوه .

(وقال سري) بن المفلس (السقطي) -رحمه الله تعالى - (آه على لقمة ليس لله فيها تبعة) أي: لا شبهة فيها (ولا لمخلوق فيها منة) يقلدها على الأكل (فإذا علم المدعو أنه لا منة فيها فلا ينبغي أن يرد) الداعي إليه .

(قال أبو تراب النخشبي -رحمه الله تعالى -:) واسمه عسكر بن حصين ترجمه القشيري في الرسالة، صحب حاتما الأصم، مات سنة 245 بالبادية (عرض علي طعام فامتنعت) عن تناوله (فابتليت بالجوع أربعة عشر يوما، فعلمت أنه عقوبته) .

وحكى القشيري نظير هذا القول في رسالته في ترجمته بسنده أنه قال: تمنت علي نفسي مرة خبزا وبيضا وأنا في سفر، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلق بي، وقال: كان هذا مع اللصوص، فضربوني سبعين خشبة، فوقف علينا رجل فصرخ وقال: هذا أبو تراب النخشبي، فحلوني واعتذروا لي، وأدخلني الرجل منزله، وقدم إلي خبزا وبيضا، فقلت: كلي بعد سبعين جلدة. (وقيل لمعروف) بن فيروز (الكرخي -رحمه الله تعالى -: كل من دعاك إلى) طعامه (تمر إليه، فقال: أنا ضيف أنزل [ ص: 243 ] حيث أنزلوني) ، فهذا مقام من شاهد الداعي الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية