إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي القرآن تنبيه على تقديم الفاكهة في قوله تعالى وفاكهة مما يتخيرون ثم قال ولحم طير مما يشتهون ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم والثريد فقد قال صلى الله عليه وسلم : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " فإن جمع إليه حلاوة بعده فقد جمع الطيبات .

ودل على حصول الإكرام باللحم قوله تعالى في ضيف إبراهيم إذ أحضر العجل الحنيذ ، أي : المحنوذ وهو الذي أجيد نضجه وهو أحد معنى الإكرام أعني تقديم اللحم .

وقال تعالى في وصف الطيبات : وأنزلنا عليكم المن والسلوى المن العسل والسلوى اللحم سمي سلوى لأنه يتسلى به عن جميع الإدام ولا يقوم غيره مقامه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " سيد الإدام اللحم "
(وفي القرآن تنبيه على تقديم الفاكهة) على الطعام (في قوله تعالى) في صفة أهل الجنة ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم مما يشتهون ) ففي ذكر الفاكهة قبل اللحم دليل على تقديمها عليه (ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم) المشوي (والثريد) وهو فعيل بمعنى مفعول يقال: ثرد الخير ثردا من باب قتل وهو أن تفته ثم تبله بمرق، وقد يكون معه اللحم، والاسم الثردة (فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام") هكذا رواه ابن أبي شيبة والترمذي في الشمائل من حديث أنس، والترمذي أيضا في الشمائل من حديث أبي موسى، والخطيب في المتفق والمفترق من حديث عائشة ، ورواه أبو نعيم في فضائل الصحابة في حديثها بزيادة في أوله: " فضل عائشة على النساء كفضل تهامة على ما سواها " ورواه ابن ماجه والديلمي من حديث أنس بلفظ: " فضل الثريد على الطعام كفضل عائشة على [ ص: 254 ] النساء " قال المناوي: ضرب المثل بالثريد لأنه أفضل طعامهم، ولأنه ركب من خبز ولحم ومرقة، ولا نظير له في الأطعمة، ثم إنه جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسرعة المرور في الحلقوم فخص المثل به إيذانا بأنها جمعت مع حسن الخلق حسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب للبعل، ومن ثم عقلت عنه ما لم يعقل غيرها من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال إلا قليلا .

قال ابن القيم: الثريد وإن كان مركبا فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد الآدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية، وفي أفضلهما خلاف، والصواب أن الحاجة للخبز أعم. واللحم أفضل وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه. اهـ .

وقال ابن حجر المكي في شرح الشمائل: قوله: على النساء أي: حتى آسية وأم موسى فيما يظهر، وإن استثنى بعضهم آسية، وضم إليها مريم، وما قاله فيها محتمل لحديث: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ابنة عمران "، وفي رواية لابن أبي شيبة زيادة: " وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد "، فإذا فضلت فاطمة فعائشة أولى، وذهب بعضهم إلى تأويل النساء بنسائه -صلى الله عليه وسلم- لتخرج مريم وأم موسى وحواء وآسية، نعم تستثنى خديجة فإنها أفضل منها من عائشة على الأصح لتصريحه -صلى الله عليه وسلم- لعائشة بأنه لم يرزق منها خيرا من خديجة، وفاطمة أفضل منها، إذ لا يعدل بضعته -صلى الله عليه وسلم- أحد، وبه يعلم أن بقية أولاده -صلى الله عليه وسلم- كفاطمة، وإن نسب الأفضلية ما فيهن من البضعة الشريفة، وقوله: على سائر الطعام، أي: من جنسه بلا ثريد لما في الثريد من النفع وسهولة مساغه وتيسر تناوله، وأخذ الكفاية منه بسرعة، ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين .

وروى أبو داود : أحب الطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثريد من الخبز، والثريد من الحيس. وفي الحديث: سيد الإدام اللحم. وقضيته بل صريحه أن سيد الأطعمة اللحم والخبز، ومرق اللحم في الثريد قائم مقامه، بل ربما يكون أولى منه، كما ذكره الأطباء في ماء اللحم بالكيفية التي يذكرونها فيه قالوا: هو يعيد الشيخ إلى صباه. اهـ .

(فإن جمع إليه حلاوة بعد فقد جمع الطيبات) لأن كلا من اللحم والثريد والحلاوة طيب في نفسه مفضل على غيره كما سيأتي .

(ودل على حصول الإكرام باللحم قوله تعالى في ضيف إبراهيم) المكرمين: (إذ أحضر العجل الحنيذ، أي: المحنوذ) إشارة إلى أنه فعيل بمعنى مفعول (وهو الذي أجيد) أي: أنعم (نضجه) وما لم يجد نضجه فهو مضر على المعدة، (وهو أحد معنيي الإكرام أعني تقديم اللحم) على سائر الأطعمة، والمعنى الثاني قد تقدم ذكره، وهو التعجيل في الإحضار، ومعنى ثالث قد ذكرناه أيضا وهو خدمة الضيف بنفسه .

(وقال تعالى في وصف الطيبات: وأنزلنا عليكم المن والسلوى المن) شيء شبه (العسل) يسقط من السماء فيجنى وهو الترنجبين، قاله السدي، وحلاوة القدرة سمي منا لأنه مما من الله به على بني إسرائيل، ومعنى الترنجبين العسل الذي يسقط كالعرق، وهي فارسية معربة أصلها ترانكبين، قيل: كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس .

وروى ابن جرير عن الربيع، قال: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه (والسلوى) فعلى من السلو (اللحم سمي سلوى لأنه يتسلى به عن جميع الإدام) إذ فيه غنية عن جميعه، (ولا يقوم غيره مقامه) هكذا ذكره صاحب "القوت " والمشهور في التفاسير أن المراد بالسلوى هنا طائر نحو الحمامة أطول ساقا وعنقا منها شبيه بلون السماء، سريع الحركة، بعثه الله على بني إسرائيل لما ملوا من أكل الخبز والمن وهم في التيه، روي ذلك عن ابن عباس (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: " سيد الإدام اللحم ") رواه أبو القاسم تمام الرازي في فوائده قال: حدثنا أبي هو محمد بن عبد الله، حدثنا أبو القاسم جعفر بن الحسن المهرقاني بالري، حدثنا أحمد بن خليل البغدادي، حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي، حدثنا أبو هلال محمد بن سليم الراسبي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-... فذكره بزيادة: " وسيد الشراب الماء، وسيد الرياحين الفاغية " وقد وقع لنا هذا الحديث مسلسلا بالنحو، ورواه الحافظ أبو بكر بن مسدي في مسلسلاته عن [ ص: 255 ] الأستاذ أبي جعفر الورغي، عن أبي عبد الله الكاتب، عن أبي القاسم الأقليلي، عن قاسم بن أصبغ، عن ابن قتيبة صاحب الغريب، عن أحمد بن خليل البغدادي، عن الأصمعي بسنده بلفظ: " سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم وسيد ريحان أهل الجنة الفاغية " ورواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الطب النبوي نحوه .

وروى أبو نعيم في الطب أيضا من طريق عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، عن أبيه، عن علي بن موسى الرضي، عن آبائه، عن علي -رضي الله عنه- بلفظ: " سيد طعام الدنيا والآخرة اللحم ". والطائي متروك، وعند ابن ماجه من حديث أبي الدرداء: " سيد طعام أهل الدنيا اللحم " وسنده ضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية