إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فما بال أقوام من المتصوفة يذمون العقل بالمعقول فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل المعقول ، إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذ كان لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم .

فأما نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله فكيف يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه وإن ذم فما الذي بعده يحمد فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضا مذموما ولا يلتفت إلى من يقول إنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل فإنا نريد بالعقل ما يريده بعين اليقين ، ونور الإيمان ، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور وأكثر هذه التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ فهذا القدر كاف في بيان العقل والله أعلم .

تم كتاب العلم بحمد الله تعالى ومنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب قواعد العقائد والحمد لله وحده أولا وآخرا .


(فإن قلت: فما بال أقوام من المتصوفة) والعباد (يذمون العقل والمعقول) ويتمسكون في ذلك بالنقول، فهل لذمهم إياه من سبب؟ (فاعلم أن السبب) الباعث لذمهم (فيه أن الناس نقلوا اسم العقل، والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات) مع الخصوم (والإلزامات) عليهم (وهو صنعة الكلام) عليهم (وهو صنعة الكلام) الذي يأتي بيان ذمه في الكتاب الذي يليه، (فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم) ويثبتوا (أنكم أخطأتم في التسمية) هذه (إذ كان ذلك لا ينمحي عن قلوبهم) ولا يزول بوجه من الوجوه، (بعد تداول الألسنة) وتلقي الخلف عن السلف (قدموا العقل والمعقول وهو المسمى عندهم) فهم يذمون غير مذمم (فأما نور البصيرة الباطنة) في القلب (التي بها يعرف الله ويعرف صدق رسله) عليهم السلام (فكيف) يكون مذموما أم كيف (يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه) في عدة مواضع في كتابه العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وما يعقلها إلا العالمون (وإن ذم) أي أريد به إياه، (فما الذي يحمد) في الدنيا (فإن كان المحمود هو الشرع) الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم (فبم علم صحة الشرع فإن) قال: (علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به) ولا يعبأ (فيكون الشرع أيضا مذموما) ، فإن ما توقف عليه صحة شيء إذا كان واهيا فالمتوقف عليه نفسه واه، كذلك وقد عقد لذلك صاحب الذريعة بابا، فقال: تعذر إدراك العلوم النبوية على من لم يتهذب في الأمور العقلية، اعلم أن المعقولات تجري مجرى الأدوية الجالبة للصحة، والشرعيات تجري مجرى الأغذية الحافظة، وكما أن الجسم متى كان مريضا لم ينتفع بالأغذية بل يستضربها كذلك من كان مريض النفس لم ينتفع بسماع القرآن، الذي هو موضوع الشرعيات، بل صار ذلك ضارا مضرة الغذاء للمريض وأيضا فالجهل بالمعقولات جار مجرى ستر مرخى على البصر، وغشاء على القلب، ووقر في الأذن، والقرآن لا يدرك خفياته إلا من كشف غطاؤه ورفع غشاؤه، وأزيل وقره وأيضا فالمعقولات كالحياة التي بها الإبصار والإسماع، والقرآن كالمدرك بالسمع والبصر، وكما أنه من المحال أن يسمع ويبصر الميت قبل أن يجعل الله فيه الروح، ويجعل له السمع والبصر كذلك من المحال أن يدرك من لم يحصل المعقولات حقائق الشرعيات اهـ، (ولا يلتفت إلى من يقول إنه) أي الشرع، (يدرك بعين اليقين ونور الإيمان) وصفائه (لا بالعقل) كما ذهب إليه يعني الصوفية، (فإنا نريد بالعقل ما نريده بعين اليقين، ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك [ ص: 470 ] بها) بتلك الصفة (حقائق الأمور) وشاهد عرائس الستور فقولهم: إنه يدرك بعين اليقين، ونور الإيمان صحيح، وقوله: لا بالعقل غير صحيح، وهذا الذي أنكر عليهم الشيخ، (وأكثر هذه التخبيطات) والتعسفات (إنما تأثرت) وحصلت (من جهل أقوام طلبوا الحقائق) المعنوية (من) ظاهر (الألفاظ فتخبطوا) تخبطا واسعا، (التخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ) لكون كلهم تكلم في الحقائق على مشربه وذوقه الذي أدركه، فنزلها في قوالب الألفاظ، كابن عربي والقاشاني تراهما يفسران الألفاظ بحسب ما عندهم، فقد يكون مطابقا لما عند غيره، وقد يكون مخالفا، وهذا الحراني وابن الكمال تكلما في حدود الألفاظ، وحقائقها فترى هذا يشرق، وهذا يغرب ومن أحاط بكلامهم وجد ذلك فيه، (وهذا القدر) الذي ذكرته (كاف في بيان العقل) وشرفه وجلالته وثمرته، (والله أعلم) .

وبه تم كتاب العلم .

وهنا مهمات هي للباب متمات لم يشر إليها المصنف، أردت أن أختم بها الباب .

الأولى: بيان منازل العقل واختلاف أسبابها بحسبها اعلم أن العقل اسم عام لما يكون بالقوة وبالفعل، ولما يكون غريزيا ومكتسبا، كما تقدم ذلك، وهو في اللغة: قيد البعير; لئلا يندر وسمي هذا الجوهرية تشبها على عادتهم في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات، ويخص بناء المصدرية لما كان يستعمل مرة للحدث ومرة للفاعل، نحو عدل وصوم، وزور ومرة للمفعول، نحو: خلق وأمر لكن يتصور منه كونه سببا ليتقيد الإنسان به، وكونه مقيدا له عن تعاطي ما لا يجمل وكونه مقيدا به من بين الحيوان، وأشار ابن الهمام في التحرير أنه مأخوذ من المعقل، وهو الملجأ لالتجاء صاحبه إليه، والنهى في الأصل جمع نهية اسم مفرد نحو جعل وصرد، أو وصف نحو دليل ختع وسائق حطم، وجعل اسما للعقل الذي انتهى من المحسوسات إلى معرفة ما فيه من المعقولات، ولهذا أحيل أربابه على تدبر معاني المحسوسات في قوله: أولم يهد لهم كم أهلكنا الآية، وقال: وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى إلى قوله: لأولي النهى .

والحجر أصله من الحجر أي المنع، وهو اسم لما يلزم الإنسان من خطر الشرع والدخول في أحكامه وعلى ذلك قوله تعالى: هل في ذلك قسم لذي حجر وسمي العقل حجا من حجاه أي قطعه، سمي بذلك لكونه للإنسان قاطعا عما يقبح، وأما اللب فهو الذي خلص من عوارض الشبه، وترشح لاستفادة الحقائق من دون المفزع إلى الحواس ولذلك علق الله في كل موضع ذكره بحقائق المعقولات دون المحسوسة، ومن أسمائه القلب لأنه لما كان مبدأ تأثير الروحانيات، والفضائل سمي به، ولذلك عظم الله أمره لاختصاصه بما قد أوجده الله لأجله، وقال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فنبه أن القلب إنما يكون في الحقيقة قلبا إذا كان متخصصا بما أوجد لأجله وما أوجد لأجله هو المعارف الحقيقية، ولما كان أشرف المعارف هو ما يتخصص به القلب، قال تعالى: نزل به الروح الأمين على قلبك فخصه بالذكر ومن أسمائه النور والروح، وقد تقدم ذكرهما. والماء في قوله تعالى: وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى على قول بعض المفسرين .

الثانية: أشار المصنف إلى فضائل العقل الكثيرة، فما يقول في حديث : "أكثر أهل الجنة البله" وهو جمع أبله من لا عقل له فكيف يكون من لا عقل له من أكثر أهل الجنة؟ والجواب عنه بوجوه:

الأول: أن المراد بالبله الجاهلون بأمر الدنيا العالمون بأمر الآخرة .

الثاني: أن من عبد الله للجنة فهو أبله في جنب من يعبده لكونه ربا مالكا .

الثالث: المراد بهم أهل المعاصي الذين عفا الله عنهم، وأما العقلاء المطيعون فهم أهل الدرجات العلى .

الثالثة: العقل المتكسب ضربان: أحدهما التجارب الدنيوية، والثاني: المعارف الإلهية، وطريقاهما متنافيان، ومن تصور اختلاف الطريقين لم يتعرض له الشبهة التي اعترضت لقوم وقالوا: لو أن ما هنا حق لما جهله الذين لا يلحق شأوهم في تدبير الدنيا، ودقائق الصناعات ووضعوا الحكم والسياسات، وذلك أنه كما من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما لا يوجد إلا في طريق المغرب، أو يظفر سالك طريق المغرب بما لا يوجد إلا في طريق المشرق، كذلك من المحال أن يظفر سالك طريق معارف الدنيا بمعارف طريق الآخرة، ولا يكاد يجمع بين معرفة طريق الدنيا والآخرة معا على التحقيق [ ص: 471 ] والتصديق إلا من وشحهم الله لتهذيب الناس في أمور معاشهم ومعادهم، كالأنبياء جميعا، وبعض الحكماء .

الرابعة: المعقول، اختلف فيه هل هو مصدر أو صفة، فالأول ظاهر سياق اللغويين يقولون: عقل الرجل عقلا، ومعقولا ويقولون: ذهب طولا وعدم معقولا وما لفلان منقول ولا معقول، وأنشد ابن بري:


فقد أفادت لهم حلماء موعظة لمن يكون له إرب ومعقول

ونكر سيبويه ذلك وقال: هو صفة، وكان يقول: إن المصدر لا يأتي على بناء مفعول ألبتة ويتأول المعقول، فيقول: كأنه عقل له شيء أي حبس عليه، وأيد وسدد، قال: ويستغنى بهذا عن الفعل، الذي يكون مصدرا كما في الصحاح والعباب .

الخامسة: في بيان منازعة الهوى للعقل، اعلم أن مثل الإنسان في بدنه كمثل وال في بلدة وقواه وجوارحه بمنزلة صناع وعملة والعقل له كمشير ناصح عالم والشهوة فيه، كعبد سوء جالب للميرة والحمية له كصاحب شرطة، والعبد الجالب للميرة خبيث، ماكر يتمثل للوالي بصورة الناصح، وفي نصحه دبيب العقرب، ويعارض الوزير في تدبيره ولا يغفل ساعة عن منازعته ومعارضته، وكما أن الوالي في مملكته متى استشار في تدبيراته وزيره دون هذا العبد الخبيث، وأدب صاحب شرطته وجعله مؤتمرا لوزيره وسلطه على هذا العبد وتباعه حتى يكون ه العبد مسوسا لا سائسا ومدبرا لا مدبرا استقام أمر بلده، كذا النفس متى استعانت بالعقل في التدبير وأدبت الحمية وسلطتها على الشهوة وقوتها استتب أمرها وإلا فسدت، ولهذا حذرنا الله تعالى غاية الحذر من اتباع الهوى، فقال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وقال في ذم من اتبعه: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ، وقال تعالى: أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ، وقال في مدح من عصاه: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى والعقل وإن كان أشرف القوى، وبه صار الإنسان خليفة الله في العالم فليس دأبه إلا الإشارة إلى الصواب، كطبيب يشير إلى المريض بما يرى فيه برأه، فإن قيل منه وإلا سكت عنه، ولذلك جعل له الحمية لتكون نائبة عنه في المدافعة، ولهذا لا تتبين فضيلة العقل لمن لا حمية له، وبهذا النظر قيل: المهين من لا سفيه له، وقال الشاعر:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له     وتتقي مربض المستأسد الحامي

وأيضا مثل النفس في البدن مثل المجاهد بعث إلى ثغر لكي يرعى أحواله وعقله، خليفة مولاه ضم إليه ليسدده ويرشده، ويشهد له وعليه فيما يفعله إذا دعا إلى حضرة الملك، وبدنه بمنزلة فرس دفع إليه ليركبه وشهوته كسائس حيث ضم إليه ليتفقد فرسه، ولا قدر لهذا السائس عند المولى والقرآن بمنزلة كتاب أتاه من مولاه وقد ضمن كل ما يحتاج إليه عاجلا وآجلا، والنبي صلى الله عليه وسلم آتاه الكتاب وبين له ما يشكل عليه مما يقرؤه من الكتاب ويقبح أن ينسى هذا الولي مولاه ويهمل خليفته فلا يراجعه فما يبرمه وما ينقضه ويصرف همه كله إلى تفقد فرسه وسائسه، ويقيم سائس فرسه مقام خليفة ربه، ومن وجه آخر إن الإنسان من حيثما جعله الله عالما صغيرا وجعل بدنه كمدينة والعقل كملك مدبر فيها، وقواه من الفكرة والخيال والحواس، كجنده وأعوانه، والأعضاء كرعيته والشهوة كعدو ينازعه في مملكته، ويسعى في إهلاك رعيته صار بدنه كرباط وثغر ونفسه كمقيم فيه مرابط فإن جاهد عدوه فهزمه فأسره وقهره، على ما يجب وكما يجب جمد أثره، إذا عاد إلى حضرته وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره، إذا عاد إليه كما جاء في الحديث: إن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم ترد الضالة، ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم منك، وأيضا مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقا وفرسه مروضا وكلبه معلما فقمين بإدراك حاجته من الصيد، ومتى كان أخرق وفرسه جموحا أو حرونا وكلبه عقورا فلا فرسه تحثه منقادا ولا كلبه يستكين معه مطيعا فهو قمن أن يعطب فضلا عن أن يدرك ما طلب، وهذه الأمثلة ما عدا الثاني ستأتي للمصنف في شرح عجائب القلب [ ص: 472 ] وللإنسان مع هواه ثلاثة أحوال:

الأولى: أن يغلبه الهوى فيهلكه .

الثانية: أن يغالبه فيقهرها مرة وتقهره مرة .

الثالثة: أن يغلب هواه ككثير من الأنبياء وبعض صفوة الأولياء، وهذا المعنى قصد بقوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى الآية، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من أحد إلا وله شيطان، وإن الله قد أعانني على شيطاني، حتى ملكته فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه" .

السادسة في الفرق بين ما يسومه العقل، وما يسومه الهوى: اعلم أن من شأن العقل أن يرى ويختار أبدا الأفضل والأصلح في العواقب، وإن كان على النفس في المبدأ مؤنة ومشقة والهوى على الضد من ذلك فإنه يؤثر ما يدفع به المؤذي في الوقت وإن كان يعقبه مضرة من غير نظر منه في العواقب كالصبي الرمد الذي يؤثر أكل الحلوات واللعب في الشمس على أكل الهليلج والحجامة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"، وأيضا فإن العقل يري صاحبه ما له وما عليه، والهوى يريه ما له دون ما عليه، ويعمي عليه وما يعقبه من المكروه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم" ولذلك ينبغي للعاقل أن يتهم رأيه أبدا في الأشياء التي هي له لا عليه، ويظن أنه هوى لا عقل، ويلزمه أن يستقصي النظر فيه قبل إمضاء العزيمة، وحتى قيل: إذا عرض لك أمران فلم تدر أيهما أصوب فعليك بما تكرهه لا بما تهواه، فأكثر الخير في الكراهة، قال الله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، وقال: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وأيضا فإن ما يرى العقل يتقوى عليه إذا فزع فيه إلى الله عز وجل بالاستخارة، وتساعد عليه العقول الصحيحة، إذا فزع إليها بالاستشارة وتنشرح له الصدور إذا استعين فيه بالعبادة وما يشير به الهوى فبالضد من ذلك، وأيضا فإن العقل يرى ما يرى بحجة وعذر، والهوى يرى ما يرى بشهوة وميل، وربما تشبه الهوى بالعقل، فيتعلق بشبهة مزخرفة ولمعة مموهة، كالعاشق إذا سئل عن عشقه، والمتناول لطعام رديء إذا سئل عن فعله، قال بعض العلماء: إذا مال العقل نحو مؤلم جميل، والهوى نحو ملل قبيح، فتنازعا بحسب عرضيهما وتحاكما إلى القوة المدبرة بادر نور الله إلى نصرة العقل، ووساوس الشيطان إلى نصرة الهوى، كما قال الله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، فمن كانت القوة المدبرة فيه من أولياء الشيطان ومحبيه، لم تر نور الحق، فعميت عن نفع الآجل واغترت بلذة العاجل، فجنحت إلى الهوى، كما قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الآية، ومتى كانت من حزب الله وأوليائه اهتدت بنوره واستهانت بلذة العاجل، وطلبت الآجل، كما قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف الآية، ومما نبه على فساد الهوى قوله تعالى: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لو أعطي كل إنسان ما يهواه مع أن كل واحد يهوى أن يكون أغنى الناس وأعلاهم منزلة، وأن ينال في الدنيا الخير الأبدي بلا مزاولة ولا تعلم لكان في ذلك فساد العالم .

وقيل في قوله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة الآية، ضرب الله الشجرة الطيبة مثلا للعقل، والخبيثة مثلا للهوى، ففرع الطيبة النور والإسلام، وفرع الخبيثة الكفر والضلال، إن قيل: ما الفرق بين الشهوة والهوى؟ قيل: الشهوة ضربان: محمودة ومذمومة، فالمحمودة من فعل الله تعالى، وهي قوة جعلت في الإنسان لينبعث بها النفس لنيل ما يظن فيه صلاح البدن، والمذمومة من فعل البشر، وهي استجابة النفس لما فيه لذتها البدنية والهوى هو هذه الشهوة الغالبة، إذا استتبعت الفكرة وذاك أن الفكرة بين العقل والشهوة، والعقل فوقها والشهوة تحتها، فمتى ارتفعت الفكرة ومالت نحو العقل صارت رفيعة، فولدت المحاسن، وإذا اتضعت ومالت نحو الهوى والشهوة صارت وضيعة، فولدت القبائح والنفس قد تريد ما تريد بمشورة العقل تارة وبمشورة الهوى تارة، ولهذا قد تسمى الهوى إرادة .

السابعة: قال بعض الحكماء: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه [ ص: 473 ] فإن لم يكن فخوف يقمعه، فإن لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه، فتريح منه العباد والبلاد، وتحقيقه أن البواعث على فعل الخيرات الدنيوية ثلاث أدناها الترغيب والترهيب، ممن يرجى نفعه ويخشى ضره .

والثاني: رجاء الحمد وخوف الذم ممن يعتد بحمده وذمه .

والثالث: تحري الخبر وطلب الفضيلة .

وكذلك البواعث إلى الخيرات الأخروية ثلاث:

الأولى: الرغبة في ثواب الله والمخافة من عقابه، وتلك منازل العامة .

والثانية: رجاء حمده ومخافة ذمه وتلك منزلة الصالحين .

والثالثة: طلب مرضاة الله في المتحريات وتلك منزلة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهي أعزها وجودا؛ ولذلك قيل لرابعة: ألا تسألين في دعائك الجنة؟ فقالت: الجار قبل الدار، وبهذا النظر، قال بعضهم: من عبد الله بعوض فهو لئيم .

الثامنة: أورد المصنف في فضل العقل أحاديث من الكتاب المذكور ومن غيره لم يوردها .

فمن ذلك ما رواه المذكور في كتابه، حدثنا عباد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي سعيد مرفوعا: "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه فلا عقل له، حسن المعرفة بالله وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله"، وهكذا أخرجه الحارث في مسنده من طريقه .

ورواه أبو نعيم من طريقين إحداهما من رواية سليمان بن عيسى، عن ابن جريج به، والثانية، من رواية عبد العزيز بن أبي رجاء، حدثنا ابن جريج به، وأخرجه الترمذي الحكيم في نوادره عن مهدي بن ميمون، حدثنا الحسن بن منصور عن ابن جريج به، وفي طرق الكل مقال .

وقال داود أيضا: حدثنا ميسرة عن موسى بن جابان عن لقمان، عن عامر، عن أبي الدرداء مرفوعا: "إن الجاهل لا تكشفه إلا عن سوأة وإن كان حصينا طريفا عند الناس والعاقل لا تكشفه إلا عن فضل وإن كان عيبا مهينا عند الناس" موضوع آفته ميسرة، وقد تقدم التعريف بحاله .

وقال داود أيضا: حدثنا ميسرة عن موسى بن عبيدة، عن الزهري عن أنس رفعه: "من كانت له سجية من عقل وغريزة يقين لم تضره ذنوبه شيئا، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتوب توبة تمحو ذنوبه، ويبقى له فضل يدخل به الجنة، فالعقل نجاة للعاقل بطاعة الله، وحجة على أهل معصية الله" موضوع، آفته ميسرة، وأخرجه العقيلي في الضعفاء من طريقه، وأخرجه الترمذي الحكيم في النوادر عن مهدي بن عامر، حدثنا الحسن بن حازم، عن منصور، عن الربذي وهو موسى بن عبيدة، به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية سليمان بن عيسى، حدثنا مالك، عن ابن شهاب عن أنس، قال: قلت: يا رسول الله: ما تقول في القليل العمل الكثير الذنوب؟ فقال: "كل ابن آدم خطاء فمن كانت له سجية عقل وغريزة يقين لم تضره ذنوبه شيئا"، وذكر بقية الحديث .

قال أبو نعيم: تفرد به سليمان بن عيسى وهو السنجري وفيه ضعف، قلت: وقد تقدم التعريف بحاله، وقال داود أيضا في كتابه: حدثنا عباد بن كثير عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس: أنه دخل على عائشة فقال: أم المؤمنين، الرجل يقل قيامه، ويكثر رقاده، وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده، أيهما أحب إليك؟ قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: "أحسنهما عقلا، فقلت: يا رسول الله، أسألك عن عبادتهما، فقال: يا عائشة إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة"، وقال داود أيضا في كتابه: حدثنا عباد بن كثير عن أبي إدريس، عن وهب بن منبه، إني وجدت في بعض ما أنزل الله تعالى على أنبيائه أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل، وإن يكابد مائة ألف جاهل فيشدهم حتى يركب رقابهم فينقادون له حيث شاءوا ويكابد المؤمن العاقل فيصعب عليه حتى ينال منه شيئا من صاحبه، وبهذا الإسناد قال وهب أيضا: لإزالة الجبل صخرة صخرة، وحجرا حجرا، أيسر على الشيطان من مكابدة المؤمن العاقل; لأنه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فلهو أثقل على الشيطان من الجبال وأصعب من الحديد وإنه ليزاوله بكل حيلة، فإذا لم يقدر على أن يستزله قال: يا ويله، ما له ولهذا لا حاجة لي بهذا ولا طاقة لي بهذا فيرفضه ويتحول إلى الجاهل فيستأسره ويتمكن من قياده حتى يسلمه إلى الفضائح التي يتعجل بها في عاجل الدنيا، وإن الرجلين ليستويان [ ص: 474 ] في أعمال البر فيكون بينهما كما بين المشرق والمغرب، أو أبعد إذا كان أحدهما أعقل من الآخر، أخرجه أبو نعيم في الحلية، هكذا من طريق الحارث بن أبي أسامة عن داود المذكور، وأما من غير كتاب داود فأخرج الخطيب من رواية أبي سمعان عن الزهري، والطبراني من رواية منبه بن عثمان، حدثني عمر بن محمد بن زيد، كلاهما عن سالم، عن أبيه عن عمر مرفوعا: إن لكل شيء معدنا ومعدن التقوى قلوب العارفين، وأخرج الخطيب أيضا من رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، رفعه: إن الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام، ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يجزى يوم القيامة إلا على قدر عقله ومن أهل الصلاة والصيام، ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يجزى يوم القيامة إلا على قدر عقله.

وأخرج الخطيب أيضا من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن نافع عن ابن عمر رفعه: لا تعجبوا بإسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله.

وأخرج البيهقي في الشعب من رواية خليد بن دعلج عن معاوية بن قرة رفعه: الناس يعملون بالخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم.

خليد ضعيف، وأخرج ابن عدي من رواية الربيع الجيزي، حدثنا محمد بن وهب الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مالك بن أنس عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه: "أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته، وأنقص الناس عقلا أطوعهم للشيطان، وأعملهم بطاعته". قال ابن عدي: هو باطل منكر .

وأخرج البيهقي وابن عدي من رواية أحمد بن بشير، حدثنا الأعمش، عن سلمة بن كهيل عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، رفعه: "تعبد رجل في صومعته فمطرت السماء وأعشبت الأرض، فرأى حمارا له يرعى فقال: يا رب، لو كان لك حمار رعيته، مع حماري فبلغ ذلك نبيا من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه، إنما أجازي العباد على قدر عقولهم"، قال البيهقي: تفرد به أحمد بن بشير، وقد روي من وجه آخر موقوفا على جابر وهو الأشبه، وقد ورد في فضل العقل، غير ما حديث، وهذا الذي ذكرت فيه كفاية .

التاسعة: قال الزين العراقي: وهذه الأحاديث التي ذكرها المصنف في العقل كلها ضعيفة، وتعبير المصنف في بعضها بصيغة الجزم مما ينكر عليه، وبالجملة فقد قال غير واحد من الحفاظ: إنه لا يصح في العقل حديث ذكره عمر بن بدر الموصلي في كتاب له سماه المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب، وبعض ما ذكره فيه منتقض، وقد ورد في العقل أحاديث صححها بعض الأئمة، والله أعلم .

إلى هنا انتهى بنا الكلام على شرح كتاب العلم من إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام الغزالي قدس الله سره، ونفع به، وأرجو من فضل الله وحسن توفيقه ومعونته، أن يعينني على إتمام شرح باقي الكتاب إنه جواد مفضال وهاب، والحمد لله رب العالمين على نعمائه، والصلاة والسلام على سيد أنبيائه وعلى آله وأصحابه وسائر أوليائه، نجز ذلك في يوم الجمعة بعد الصلاة لخمس بقين من محرم الحرام افتتاح سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف على يد مؤلفه أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني أفاض الله عليه حامدا لله ومصليا ومسلما ومستغفرا

(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أوله كتاب قواعد العقائد) .

/////

التالي السابق


الخدمات العلمية