إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالث : أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف واستخفاف وتطييب قلبها بهدية على سبيل الإمتاع والجبر لما فجعها به من أذى الفراق .

قال تعالى : ومتعوهن ، وذلك واجب مهما لم يسم لها مهرا في أصل النكاح .

كان الحسن بن علي رضي الله عنهما مطلاقا ومنكاحا ووجه ذات يوم بعض أصحابه لطلاق امرأتين من نسائه وقال : قل لهما : اعتدا وأمره أن يدفع إلى كل واحدة ، عشرة آلاف درهم ففعل فلما رجع إليه قال ماذا فعلتا قال : أما إحداهما فنكست ، رأسها وتنكست وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتها تقول : متاع قليل ، من حبيب مفارق فأطرق الحسن وترحم لها وقال : لو كنت مراجعا امرأة بعد ما فارقتها لراجعتها ودخل الحسن ذات يوم على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقيه المدينة ورئيسها ولم يكن له بالمدينة نظير وبه ضربت المثل ، عائشة رضي الله عنها حيث قالت : لو لم أسر مسيري ذلك ، لكان أحب إلي من أن يكون لي ستة عشر ذكرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فدخل عليه الحسن في بيته ، فعظمه عبد الرحمن وأجلسه في مجلسه وقال ، ألا أرسلت إلي فكنت أجيئك ؟! فقال الحاجة لنا .

قال: وما ، هي قال : جئتك خاطبا ابنتك ، فأطرق عبد الرحمن ، ثم رفع رأسه ، وقال : والله ما على وجه الأرض أحد يمشي عليها أعز علي منك ، ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني ، يسوءني ما ساءها ، ويسرني ما سرها وأنت مطلاق فأخاف أن تطلقها ، وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي في محبتك ، وأكره أن يتغير قلبي عليك فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن شرطت أن لا تطلقها زوجتك فسكت الحسن ، ، وقام وخرج وقال بعض أهل بيته .

سمعته وهو يمشي ويقول : ما أراد عبد الرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقا في عنقي .

وكان علي ، رضي الله عنه ، يضجر من كثرة تطليقه فكان يعتذر منه على المنبر ويقول في ، خطبته : إن حسنا مطلاقا فلا تنكحوه حتى قام رجل من همدان فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لننكحنه ما شاء ، فإن أحب أمسك ، وإن شاء ترك فسر ذلك عليا وقال .

لو

كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام

وهذا تنبيه على أن : من طعن في حبيبه من أهل وولد بنوع ، حياء فلا ينبغي أن يوافق عليه فهذه الموافقة قبيحة ، بل الأدب المخالفة ما ، أمكن ، فإن ذلك أسر لقلبه ، وأوفق لباطن ذاته والقصد من هذا بيان أنالطلاق مباح وقد وعد الله الغنى في الفراق والنكاح جميعا فقال: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال سبحانه وتعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .


(الثالث: أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف) أي: إظهار عنف (واستخفاف) بشأنها (وتطييب قلبها بهدية على سبيل [ ص: 399 ] الإمتاع والجبر) لما كسر من خاطرها (فى فجعها به من أذى الفراق، قال الله تعالى: ومتعوهن ، وذلك واجب مهما لم يسم لها مهرا في أصل النكاح) وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، وقال مالك، والليث، وابن أبي ليلى: هي مستحبة، قال الزيلعي في شرح الكنز: ولها المتعة إن طلقها قبل الوطء، فيما إذا لم يسم لها مهرا، أو نفاه، ويشترط أن يكون قبل الخلوة أيضا; لأنها كالدخول، وهذه المتعة واجبة; لقوله تعالى: ومتعوهن ، أمر به، وهو للوجوب، ثم قال: والمتعة: درع، وخمار، وملحفة. وهو مروي عن عائشة، وابن عباس، ويعتبر فيها حالها; لقيامها مقام نصف المهر، وهو قول الكرخي، وقيل: حاله، وقال صاحب الهداية: هو الصحيح، عملا بالنص، وقيل: يعتبر بحالهما، حكاه صاحب البدائع، وهذا القول أشبه .

(كان الحسن بن علي) -رضي الله عنه- (مطلاقا) أي: كثير الطلاق (منكاحا) أي: كثير التزوج، يقال: تزوج زيادة على مائتي امرأة، وكان ربما عقد على أربع في عقد واحد، وربما طلق أربعا في وقت واحد، واستبدل بهن، كما تقدم ذلك للمصنف، يقال: (وجه ذات يوم بعض أصحابه بطلاق امرأتين) له (وقال: قل لهما: اعتدا) أي: عدة الطلاق (وأمره أن يدفع إلى كل واحدة، عشرة آلاف درهم) أي: متعة لهما (ففعل الرسول ما أمره) به (فلما رجع إليه قال ما فعلتا) ؟ ولفظ القوت: ماذا قالتا؟ (فقال: أما إحداهما فسكتت، ونكست رأسها) أي: خفضته إلى الأرض (وأما الأخرى فبكت وانتحبت) أي: رفعت صوتها بالبكاء (وسمعتها تقول: متاع قليل، من حبيب مفارق) قال: (فأطرق الحسن ورحمها) ولفظ القوت: ورحم لها، ثم رفع رأسه (وقال: لو كنت مرتجعا امرأة بعد ما أفارقها لراجعتها) ولفظ القوت: لكنت أراجعها .

(ودخل الحسن) -رضي الله عنه- (ذات يوم على) أبي محمد (عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي (فقيه المدينة ورئيسها) التابعي الثقة، وهو أحد الرهط الذين أمرهم عثمان بكتابة المصاحف، قال الدارقطني: مدني، جليل، محتج به، ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ابن عشر سنين، قاله الواقدي، وقال أبو سعد: كان من أشرف قريش، والمنظور إليه، وله دار بالمدينة ربة، أي: كثيرة الأهل، وقال في موضع: كان رجلا شريفا، مسخيا، سريا (ولم يكن له بالمدينة نظير) يماثله، وكان قد شهد الجمل، مع عائشة، رضي الله عنها (وبه ضربت المثل، عائشة رضي الله عنها) ولفظ القوت: وهو الذي كانت عائشة تضرب به المثل في قولها (حيث قالت: لو لم أسر مسيري ذلك، لكان أحب إلي من أن يكون لي ستة عشر ذكرا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل عبد الرحمن بن الحارث) هكذا هو في القوت. وذكر ابن سعد في الطبقات ما نصه: وكانت عائشة تقول: لأن أكون قعدت في منزلي عن مسيري إلى البصرة، أحب إلي من أن يكون لي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة من الولد، كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث، فقالت: كان سريا، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وقال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن بن الحارث من أشراف قريش، وشهد الدار، فارتث جريحا، وكان قد تزوج مريم ابنة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فولدت له جارية، سماها مريم، قال: فكان له خمس عشرة بنتا، فلما أتي به صحن، وصاح معهن غيرهن، مات سنة ثلاث وأربعين، في خلافة معاوية، روى له الجماعة، سوى مسلم، وروى عنه بنوه (فدخل عليه الحسن في بيته، فعظمه عبد الرحمن) بأن قام له (وأجلسه في مجلسه، فقال) عبد الرحمن: (ألا أرسلت إلي) يا ابن رسول الله (فكنت أجيئك؟! فقال) الحسن: إن (الحاجة لنا، فقال) عبد الرحمن: و (ما هي) ؟ أي: الحاجة (فقال: جئتك خاطبا ابنتك، فأطرق عبد الرحمن، ثم رفع رأسه، وقال: والله ما على وجه الأرض أحد يمشي عليها أعز علي منك، ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني، يسوءني ما أساءها، ويسرني ما أسرها) وأين هذا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها؟ (وأنت مطلاق) أي: كثير الطلاق (فأخاف أن تطلقها، وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي في محبتك، وأكره أن يتغير قلبي عليك) ولفظ القوت: أن يغير شيء قلبي عليك; (لأنك بضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن شرطت) ولفظ القوت: فإن [ ص: 400 ] ضمنت لي (أن لا تطلقها زوجتك) ولفظ القوت: فقد أنكحتك (فسكت الحسن، رضي الله عنه، وقام) من المجلس (فخرج فقال) : ولفظ القوت: ثم قام فانصرف، فتوكأ على (بعض أهل بيته) قال: (سمعته يقول وهو مول) بظهره يمشي (يقول: ما أراد عبد الرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقا في عنقي) . هكذا نقله صاحب القوت بتمامه، وهذا الرجل مع جلالة قدره ونبله، لم يوفق إلى أن يغلب حبه الاختياري على حبه الاضطراري، مع كثرة بناته، فصرف ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير إجابة، وتعلل بما لا يفيده، هلا فعل مثل بني همدان، كما سيذكره المصنف، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

(وكان علي، رضي الله عنه، يضجر من كثرة تطليقه) النساء; حياء من أهلهن (فكان يعتذر منه على المنبر، إلى أن قال) يوما (فى خطبته: إن) ابني (حسنا مطلاق فلا تنكحوه) أي: لا تزوجوه (فقام رجل من) بني (همدان) بفتح، فسكون، وإهمال الدال، قبيلة كبيرة من اليمن (فقال: والله يا أمير المؤمنين، لننكحنه ما شاء، فإن أحب أمسك، وإن أحب ترك) ولفظ القوت: من كره فارق (فسر ذلك عليا) -رضي الله عنه- (فقال) منشدا:

( فلو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام )



هكذا رواه صاحب القوت بتمامه، وذكر السخاوي في المقاصد، ما لفظه: وجاء عن الضحاك، عن علي، أنه قال: يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن، يعني: ابنه، فإنه رجل مطلاق، فقال له رجل: والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق.

(وهذا تنبيه على أن: من طعن في حبيبه من أهل وولد، لنوع حياء) أو أمر آخر، يريد بذلك تأديبه، وتوبيخه (فلا ينبغي أن يوافق على ذلك) فإنه لا يهون عليه، ولو فعل ما فعل (فهذه الموافقة قبيحة، بل الأدب المخالفة، مهما أمكن، فإن ذلك أسر لقلبه، وأوفق لباطن رأيه) هذا هو الحق، وقد غلط فيه كثيرون .

(والقصد من هذا) الذي ذكره: (بيان أن الطلاق مباح) لا محظور فيه، خلافا لمن تأوله على غير المعنى، والدليل عليه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق حفصة، وسودة. والصحابة كانوا يطلقون، فلا ينكر عليهم، وكان الحسن كثير الطلاق، فلو كان محظورا ما فعلوا ذلك .

(وقد وعد الله الغنى في النكاح والفراق جميعا، فقال) في الفراق: ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) وأما في النكاح، فقوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ، فقد يكون الغنى بالمال، ويكون الغنى في القلب، ويكون الغنى بالدين، ويكون: أن يستغني كل واحد منهما عن صاحبه، بما يخصه به الله من خفي لطفه .

التالي السابق


الخدمات العلمية