إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثاني .

ما يخص ضرره المعامل .

فكل ما يستضر به المعامل فهو ظلم وإنما العدل لا يضر بأخيه المسلم والضابط الكلي فيه أن لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فكل ما لو عومل به شق عليه ، وثقل على قلبه فينبغي أن لا يعامل غيره به ، بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره .

قال بعضهم من باع أخاه شيئا بدرهم ، وليس يصلح له لو اشتراه لنفسه إلا بخمسة دوانق فإنه قد ترك النصح المأمور به في المعاملة ، ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه هذه جملته .

فأما تفصيله ، ففي أربعة أمور .

أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها وأن . لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئا أصلا وأن لا . يكتم في وزنها ومقدارها شيئا وأن . : لا يكتم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه .

أما الأول فهو : ترك الثناء فإن وصفه للسلعة إن كان بما ليس فيها فهو كذب فإن قبل المشتري ذلك فهو تلبيس وظلم ، مع كونه كذبا وإن لم يقبل فهو كذب ، وإسقاط مروءة ، إذ الكذب الذي لا يروج قد لا يقدح في ظاهر المروءة وإن أثنى على السلعة بما فيها فهو هذيان وتكلم بكلام لا يعنيه وهو محاسب على كل كلمة تصدر منه أنه لم تكلم بها .

؟ قال الله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد إلا أن يثني على السلعة بما فيها مما لا يعرفه المشتري ما لم يذكره كما يصفه من خفي أخلاق العبيد ، والجواري ، والدواب فلا بأس بذكر القدر الموجود منه ، من غير مبالغة ، وإطناب وليكن قصده منه : أن يعرفه أخوه المسلم ، فيرغب فيه وتنقضي بسببه حاجته ، ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة فإنه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع وإن كان صادقا فقد جعل الله تعالى عرضة لأيمانه ، وقد أساء فيه إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله ، من غير ضرورة وفي الخبر : ويل للتاجر من بلى والله ، ولا والله ، وويل للصانع من غد ، وبعد .

وفي الخبر : اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة .

وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عتل مستكبر ومنان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه .

فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروها ، من حيث إنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين وقد روي عن يونس بن عبيد وكان خزازا أنه طلب منه خز للشراء ، فأخرج غلامه سقط الخز ، ونشره ، ونظر إليه ، وقال : اللهم ارزقنا الجنة ، فقال لغلامه : رده إلى موضعه ، ولم يبعه ، وخاف أن يكون ذلك تعريضا بالثناء على السلعة فمثل هؤلاء الذين اتجروا في الدنيا ، ولم يضيعوا دينهم في تجاراتهم بل علموا أن ربح الآخرة أولى بالطلب من ربح الدنيا .


(القسم الثاني: ما يخص المعامل) *

فقط (وكل ما يستضر به العامل فهو ظلم) في حقه (وإنما العدل) في الحقيقة: (أن لا يضر بأخيه المسلم) أصلا (والضابط الكلي الجملي) أي: الإجمالي، الجامع لسائر الأفراد: (أن لا يحب له إلا ما يحب لنفسه) كما هو شأن الإيمان الكامل (فكل ما لو عومل به شق عليه، وثقل على قلبه) وعرف ذلك من نفسه (فينبغي أن لا يعامل غيره به، بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره) ; ولذلك (قال بعضهم) : من دخل السوق يشتري ويبيع، فكان درهمه أحب إليه من درهم أخيه، لم ينصح للمسلمين في المعاملة. وقال آخر: (من باع أخاه شيئا بدرهم، وليس يصلح له لو اشتراه لنفسه إلا بخمسة دوانق) جمع الدانق، وهو سدس درهم، وهو عند اليونان حبتا خرنوب، فإن الدرهم عندهم اثنا عشر حبة خرنوب، والدانق الإسلامي: حبتان وثلثا حبة، فإن الدرهم الإسلامي ستة عشر حبة (فإنه ترك النصح المأمور به في المعاملة، ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فينبغي له أن يستوي في قلبه درهمه ودرهم أخيه، ورحله ورحل أخيه، ليعدل فيما يبيعه أو يشتري منه سواء بسواء (هذه جملته) أي: على طريق الإجمال .

(فأما تفصيله، ففي أربعة أمور) : الأول: (أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها. و) الثاني: (أن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئا أصلا. و) الثالث: (أن لا يكتم من وزنها ومقدارها شيئا. والرابع: أن لا يكتم من سعرها ما لو عرفه العامل لامتنع منها.

أما الأول: وهو ترك الثناء) على سلعته (فإن وصفه لسلعته) لا يخلو من حالتين (إن كان بما ليس فيها فهو كذب) وتنفيق يزخرف الكلام، قال أبو ذر رضي الله عنه: وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها (فإن قبل [ ص: 484 ] المشتري ذلك فهو تلبيس) أي: تخليط (وظلم، مع كونه كذبا) ففيه ثلاثة مذام شرعية (وإن لم يقبل) ذلك منه (فهو كذب، وإسقاط مروءة، ففيه مذمتان، إذ الكذب الذي يروج) الشيء (قد يقدح في ظاهر المروءة) والمروءة على ما سبق: قوة للنفس، مبدأ لصدور الأفعال الحسنة، المستتبعة للمدح شرعا، وعقلا، وعرفا .

(وإن أثنى على السلعة بما فيها) من المحاسن (فهو هذيان) أي: هذر (وتكلم بما لا يعنيه) ولا ينبغي يقال هذى في كلامه إذا خلط وتكلم بما لا يعني (وهو محاسب) بين يدي الله (على كل كلمة تصدر منه) في الدنيا (أنه لم تكلم بها؟) وفيم تكلم بها؟ (قال الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ، قال البيضاوي: أي: ما يرمي به من فيه إلا لديه رقيب: ملك يرقب عليه، عتيد: معد، حاضر، يكتب عليه من فيه، من ثواب، أو عقاب (إلا أن يثني على السلعة بما فيها مما لا يعرفه المشتري) أو كاد أن يخفى عليه، إلا أن يذكر له (كما يصفه من خفي أخلاق العبيد، والجواري، والدواب) لما فيها (فلا بأس بذكر القدر الموجود منه، من غير مبالغة، وإطناب) وإلا ربما كان ذلك وسيلة للخداع، فينعكس عليه الأمر (ولكن قصده منه: أن يعرفه أخاه المسلم، فيرغب فيه) بصدق قصده (وتنقضي بسبب ذلك حاجته، ولا ينبغي أن يخاف عليه ألبتة) .

وقد كان السلف يشددون في ذلك (فإنه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس) ; سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم; لأنه حلف كاذبا على علم منه (وهي من الكبائر التي تذر) أي: تترك (الديار بلاقع) أي: خرائب، وقد ورد ذلك في حديث، بلفظ: اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع. قال الشهاب القليوبي: هو حسن (وإن كان صادقا فقد جعل الله تعالى عرضة لأيمانه، وقد أساء فيه) قال الله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ; (إذ الدنيا) من حيث هي أحسن، و (أقل من أن يقصد ترويجها) وتنفيقها (بذكر الله تعالى، من غير ضرورة) طارئة (وفي الخبر: ويل للتاجر من بلى والله، ولا والله، وويل للصانع من غد، وبعد غد) . هكذا هو في القوت .

وقال العراقي: لم أقف له على أصل، وذكر صاحب مسند الفردوس، من حديث أنس، بغير إسناد نحوه .

(وفي الخبر: اليمين الكاذبة منفقة للسلعة) أي: تحمل على إنفاقها ورواجها في عين المشتري (ممحقة للكسب) هكذا في القوت، وسائر نسخ الكتاب، أي: مظنة لمحقه وإذهابه .

قال العراقي: متفق عليه، من حديث أبي هريرة، بلفظ: الحلف. وهو عند البيهقي بلفظ المصنف، اهـ .

قلت: لفظ البخاري: الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة. ولفظ مسلم: اليمين منفقة للسلعة، ممحقة للربح. قال الزركشي: وهو أوضح، وما رواه المصنف فمثله أيضا عند أحمد، وهي أصرح، ومنفقة وممحقة مفعلة من النفق، والمحق، هكذا الرواية، وأسند الفعل إلى اليمين، أو الحلف إسنادا مجازيا، وحكاهما عياض بضم أولهما، بصيغة اسم الفاعل .

وفي معناه ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي قتادة، مرفوعا: إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه منفق ثم يمحق.

(وروى أبو هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم) نظر إنعام، وإفضال (يوم القيامة) الذي من افتضح فيه لم يفز، استهانة بهم، وغضبا عليهم، بما انتهكوا من حرماته: (عتل) بضم العين المهملة، والمثناة الفوقية، مع تشديد اللام، هكذا في النسخ، وهو الأكول، المنوع، الجافي، ولعله تصحيف، صوابه: عيل، بالياء التحتية، كسيد، أي: فقير، وهو المناسب لقوله: (مستكبر) ; لأن كبره مع فقد سببه فيه، من نحو مال، وجاه، يدل على كونه مطبوعا عليه، مستحكما فيه، فيستحق المقت. (ومنان بعطيته) قال الطيبي: يأول على وجهين، أحدهما: من المنة، التي هي الاعتداد بالصنيعة، وهي إن وقعت في صدقة أحبطت الثواب، أو في معروف أبطلت الصنيعة. وقيل: من المن، وهو النقص، يعني: النقص من الحق، والخيانة فيه، ومنه قوله تعالى: فلهم أجر غير ممنون ، أي: غير منقوص. (ومنفق) بتشديد الفاء المكسورة، على صيغة اسم الفاعل، أي: مروج (سلعته) أي: بيعها، وهي متاعه (بيمينه) الكاذبة، هكذا في القوت، قال أبو عمرو الشيباني، عن أبي هريرة: فساقه. وقال العراقي: رواه مسلم، من حديثه إلا أنه لم يذكر فيها إلا عائل مستكبر، ولهما: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم: رجل [ ص: 485 ] حلف على سلعته، لقد أعطى فيها أكثر مما أعطي، وهو كاذب. ولمسلم، من حديث أبي ذر: المنان، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. اهـ .

قلت: عند أحمد، والشيخين، والأربعة، من حديث أبي هريرة: ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك. ولفظ مسلم، والترمذي، من حديثه: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر. وهذه هي التي أشار إليها العراقي.

ولأحمد، ومسلم، والأربعة، من حديث أبي ذر: المسبل إزاره، والمنان: الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. وهذه هي التي أشار إليها العراقي.

وعند الطبراني، والبيهقي، من حديث سلمان: ورجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل. وعند أحمد، من حديث أبي ذر: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله، فذكر التاجر الحلوف، والفقير المختال، والبخيل المنان.

(فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروها، من حيث أنه فضول) وهذيان (لا يزيد في الرزق) المقسوم (فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين) والزجر الشديد فيه (وقد روي عن) أبي عبد الله (يونس بن عبيد) ابن دينار العبدي مولاهم، رأى إبراهيم النخعي، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة، روى له الجماعة، مات سنة تسع وثلاثين ومائة (وكان خزازا) أي: يبيع الخز (أنه طلب منه) ثوب (خز للشراء، فأخرج غلامه سقط خز، ونشره، ونظر إليه، وقال: اللهم ارزقنا الجنة، فقال لغلامه: رده إلى موضعه، ولم يبعه، وخاف أن يكون ذلك تعريضا للثناء على السلعة) .

ولفظ القوت: فجاء رجل يطلب ثوب خز، فأمر غلامه أن يخرج رزمة الخز، فلما فتحها، قال الغلام: أسأل الله تبارك وتعالى الجنة، فقال: شد الرزمة، ولم يبع منها، خشية أن يكون قد مدح، اهـ .

وفي الحلية لأبي نعيم، حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو، حدثنا رسته، قال: سمعت زهيرا يقول: كان يونس بن عبيد خزازا، فجاء رجل طلب ثوبا، فقال لغلامه: انشر الرزمة فنشر الغلام الرزمة، فضرب بيده على الرزمة، وقال: صلى الله على محمد، فقال: ارفعه وأبى أن يبيعه، مخافة أن يكون مدحه .

وحدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، قال: نشر يونس بن عبيد يوما ثوبا على رجل، فسبح رجل من جلسائه، ثم قال: ارفع، أحسبه، ثم قال لجليسه: ما وجدت موضع التسبيح إلا ههنا؟!

(فمثل هؤلاء هم الذين اتجروا في الدنيا، ولم يضيعوا دينهم في تجارتهم) بل حافظوا عليه، ولم يبالوا بحطام الدنيا (بل علموا أن ربح الآخرة أولى من طلب ربح الدنيا) وأربح .

التالي السابق


الخدمات العلمية