إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن هذا ما روي عن ذي النون المصري أنه كان جائعا محبوسا فبعثت إليه امرأة صالحة طعاما على يد السجان فلم يأكل ، ثم اعتذر وقال : جاءني على طبق ظالم يعني أن القوة التي أوصلت الطعام إلي لم تكن طيبة وهذه الغاية القصوى في الورع .

ومن ذلك أن بشرا رحمه الله كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء فإن النهر سبب لجريان الماء ووصوله إليه ، وإن كان الماء مباحا في نفسه فيكون كالمنتفع بالنهر المحفور بأعمال الأجراء ، وقد أعطوا الأجرة من الحرام ولذلك امتنع بعضهم من العنب الحلال من كرم حلال ، وقال لصاحبه :

أفسدته إذ سقيته من الماء الذي يجري في النهر الذي حفرته الظلمة وهذا أبعد عن الظلم من شرب نفس الماء ; لأنه احتراز من استمداد العنب من ذلك الماء .

وكان بعضهم إذا مر في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملتها الظلمة مع أن الماء مباح ، ولكنه بقي محفوظا بالمصنع الذي ، عمل به بمال حرام ، فكأنه انتفاع به .


(ومن هذا ما روي عن ذي النون المصري ) رحمه الله تعالى (أنه كان جائعا محبوسا) أي: كان حبسه بعض الأمراء بفتوى بعض العلماء لكلام بلغه عنه، ولفظ القوت: إنه لما سجن لم يأكل ولم يشرب أياما، (فبعثت له امرأة صالحة طعاما على يد السجان فلم يأكل منه، ثم اعتذر وقال: جاءني على طبق ظالم يعني يد السجان) ، ولفظ القوت: فوجهت أخته له من المتعبدات بطعام إلى السجن وقالت له: هذا من مغزلي ومن طعامي وهو حلال، فلم يأكل، فقالت له بعد ذلك، فقال: كان الطعام من حلال إلا أنه جاء في طبق حرام، فلم آكله، قالت: وكيف ذلك؟ قال: جاء في يد السجان وهو ظالم فلذلك لم آكله اهـ. (وروي أن القوة التي أوصلت الطعام إليه لم تكن طيبة وهذه الغاية القصوى من الورع) ، ولفظ القوت: وهو حال الورعين، والورع أول باب من الزهد ، فهو عموم الورع أول عموم الزهد، وخصوصه أول خصوص الزهد، (ومن ذلك أن بشرا) الحافي رحمه الله تعالى (كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء) ، والذي في القوت: أنه كان لا يشرب من النهر الذي حفره طاهر بن الحسين صاحب المأمون ، وهو الخندق المعترض في الجانب الغربي، ولم يكن يمشي على الجسر، وقال في موضع آخر عن عبد الله بن مقاتل قال: كتب إلينا أي: وكتب في كتابه: أن بشرا كان لا يشرب بعبادان من الحياض التي اتخذها الملوك، وكان يشرب من ماء البحر اهـ .

(فإن النهر سبب لجريان الماء ووصوله إليه، وإن كان الماء مباحا في نفسه فيكون كالمنتفع بالنهر المحفور بأعمال الأمراء، وقد أعطيت أجورهم من الحرام) ، ولهذا كان بعض السلف يمتنع من شرب عيون مكة أيام إقامته في الحج، ويقول: هي من حفر زبيدة ، وكان يؤتى له الماء من آبار في الحل، (ولذلك امتنع بعضهم من) أكل (العنب الحلال) المتحصل (من الكرم الحلال، وقال لصاحبه: أفسدته إذ سقيته بماء يجري في النهر الذي حفره الظلمة) ، قلت: المراد بالبعض هنا هو بشر الحافي ، ففي القوت: وحدثنا أن امرأة أهدت إلى بشر بن الحارث سلة عنب فقالت: هذه من ضيعة أبي، فردها، فقالت: سبحان الله تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه، وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء، فقال: صدقت ملك أبيك صحيح، ولكنك أفسدت الكرم، فقالت: بماذا؟ قال: سقيته من نهر طاهر ، يعني: طاهر بن الحسين أبا عبد الله صاحب المأمون ، (وهذا أبعد من الظلم من شرب نفس الماء; لأنه احتراز من استمداد العنب من ذلك الماء، وكان بعضهم إذا مر في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملها الظلمة) ، وهي مجامع الماء نحو البركة والصهريج، واحدها مصنع، (مع أن الماء مباح، ولكنه بقي محفوظا بالمصنع، والمصنع عمل بمال حرام، فكأنه انتفاع به) ، ومن ذلك في القوت: وكان خالد القسري لما ولي مكة بعد ابن الزبير أجرى نهرا في طريق اليمن إلى مكة ، فكان طاوس ووهب بن منبه اليمانيان إذا مرا عليه لا يتركان دوابهما تشرب منه، وقد كان سفيان التيمي ترك أكل الحنطة، فقيل له في ذلك، فقال: من قبل إنها تطحن على هذه الأرحاء، قيل له: وما تكره من طحن الأرحاء؟ فقال: المسلمون شركاء في الماء، وهؤلاء يأخذون خروجها دون عامة الناس اهـ .

ومن ذلك روي عن عباس الغبري عن رجل قال: كنت مع عبد الرحمن [ ص: 31 ] ابن مهدي بعبادان ، وكنا نغسل أيدينا من ماء السبيل، وكان هو لا يغسل، يأمر غلامه فيجيء من ماء البحر اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية