إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثاني أن يعرف الحل ويشك في المحرم فالأصل الحل وله الحكم .

كما إذا نكح امرأتين رجلان وطار طائر ، فقال أحدهما : إن كان هذا غرابا فامرأتي طالق ، وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق .

والتبس أمر الطائر فلا يقضى بالتحريم في واحدة منهما ولا ، يلزمهما اجتنابهما ، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما حتى يحلا لسائر الأزواج وقد أمر مكحول بالاجتناب في هذه المسألة وأفتى الشعبي بالاجتناب في رجلين كانا قد تنازعا ، فقال أحدهما للآخر : أنت حسود فقال الآخر : أحسدنا زوجته طالق ثلاثا فقال الآخر : نعم ، وأشكل الأمر ، وهذا إن أراد به اجتناب الورع فصحيح ، وإن أراد التحريم المحقق ، فلا وجه له إذ ثبت في المياه والنجاسات والأحداث والصلوات أن اليقين لا يجب تركه بالشك وهذا في معناه .

فإن قلت وأي : مناسبة بين هذا وبين ذلك ؟ فاعلم أنه لا يحتاج إلى المناسبة ، فإنه لازم من غير ذلك في بعض الصور ، فإنه مهما تيقن طهارة الماء ، ثم شك في نجاسته جاز له أن يتوضأ به ، فكيف لا يجوز أن يشربه ، وإذا جوز الشرب فقد سلم أن اليقين لا يزال بالشك إلا أن ههنا دقيقة وهو أن وزان الماء أن يشك في أنه طلق زوجته أم لا ، فيقال الأصل أنه ما طلق ووزان مسألة الطائر أن يتحقق نجاسة أحد الإناءين ويشتبه عينه فلا يجوز أن يستعمل أحدهما بغير اجتهاد لأنه قابل يقين النجاسة بيقين الطهارة فيبطل ، الاستصحاب فكذلك ههنا قد وقع الطلاق على إحدى الزوجين قطعا ، والتبس عين المطلقة بغير المطلقة ، فنقول : اختلف أصحاب الشافعي في الإناءين على ثلاثة أوجه ، فقال قوم : يستصحب بغير اجتهاد وقال قوم بعد حصول يقين النجاسة في مقابلة يقين الطهارة : يجب الاجتناب ولا يغني الاجتهاد .

وقال المقتصدون يجتهد وهو الصحيح ولكن وزانه أن تكون له زوجتان فيقول : إن كان غرابا فزينب طالق ، وإن لم يكن فعمرة طالق ، فلا جرم لا يجوز له غشيانهما بالاستصحاب ، ولا يجوز الاجتهاد إذ لا علامة ونحرمهما عليه لأنه لو وطئهما كان مقتحما للحرام قطعا ، وإن وطئ إحداهما وقال : أقتصر على هذه ، كان متحكما بتعيينها من غير ترجيح .

ففي هذا افترق حكم شخص واحد أو شخصين ; لأن التحريم على شخص واحد متحقق بخلاف الشخصين .

إذ كل واحد شك في التحريم في حق نفسه .


(القسم الثاني أن يعرف الحل ويشك في المحرم )

(فالأصل الحل والحكم له) ، ولا اعتداد بالشك (كما إذا نكح رجلان امرأتين وطار طائر، فقال أحدهما: إن كان هذا) الطائر (غرابا فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق، والتبس أمر الغراب) هل هو أو غيره، (فلا يقضى بالتحريم في واحد منهما، ولم يلزمهما اجتنابهما، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما حتى يحلا لسائر الأزواج) ، وإذا علق الطلاق على كون الطائر غرابا فادعت أنه كان غرابا وأنها طلقت، فعليه أن يحلف على البت أنه لم يكن غرابا ولا يكفي أن يقول: لا أعلم كونه غرابا. نقله الرافعي ، (وقد أمر مكحول) الشامي أبو عبد الله، ثقة فقيه مشهور، مات سنة بضع عشرة ومائة، روى له البخاري في جزء القراءة ومسلم والأربعة، (بالاجتناب في هذه المسألة) لما ذكرت له (وأفتى) به عامر بن شراحيل (الشعبي) التابعي الجليل تقدمت ترجمته، (في رجلين كانا قد تنازعا، فقال أحدهما للآخر: أنت حسود فقال الآخر: أحسدنا) ، أي: أكثرنا حسدا، (زوجته طالق ثلاثا فقال الآخر: نعم، وأشكل الأمر) ، والتبس في معرفة (أيهما أحسد، وهذا إن أراد به) الشعبي (اجتناب الورع فصحيح، وإن أراد به التحريم المحقق، فلا وجه له إذ) قد (ثبت في المياه والنجاسات والأحداث والصلوات أن اليقين لا يجب تركه بالشك) ، ولا يزول به، (وهذا في معناه) فينبغي أن لا تحرم، (فإن قلت: فأي مناسبة بين هذا وبين ذلك؟ فاعلم أنه لا يحتاج إلى المناسبة، فإنه لازم من غير ذلك في بعض الصور، فإنه مهما تيقن طهارة الماء، ثم شك في نجاسته جاز له أن يتوضأ به، فكيف لا يجوز له أن يشربه، وإذا جوز الشرب فقد سلم أن اليقين لا يترك بالشك إلا أن ههنا دقيقة) يتفطن لها، (وهو أن وزان) مسألة (الماء) المذكورة (أن يشك) الرجل (في أنه طلق زوجته أم لا، فيقال) إذا سئل عنه: (الأصل أنه ما طلق) ، فلا تأثير للشك هنا، (ووزان مسألة الطائر) المذكورة (أن يتحقق نجاسة أحد الإناءين) من غير تعين (ويشتبها عليه) ، أي: يلتبس أمرهما لكنه متحقق نجاسة أحدهما [ ص: 36 ] (فلا يجوز له أن يستعمل أحدهما بغير اجتهاد) في المشتبهين منهما، بل لا بد من الاجتهاد لكل صلاة أرادها بعد الحدث وجوبا، إن لم يقدر على طاهر بيقين موسعا إن لم يضق الوقت ومضيقا إن ضاق، وجوازا إن قدر على طاهر بيقين كأن كان على شط نهر أو بلغ الماءان قلتين بالخلط، فلا تغير لجواز العدول إلى المظنون مع وجود المتيقن، وأصل الاجتهاد بذل الجهد في طلب المقصود، وفي معناه التحري; (لأنه قابل يقين النجاسة بيقين الطهارة، فبطل الاستصحاب) هو إبقاء ما كان على ما كان، (وكذلك ههنا قد وقع الطلاق على إحدى الزوجين قطعا، والتبس عين المطلقة بغير المطلقة، فنقول: اختلف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى) ، وهم أصحاب الوجوه والاختيارات (في) مسألة (الإناءين) المشتبهين (على ثلاثة أوجه، فقال قوم: يستصحب) الأصل (بغير اجتهاد) ، فإن الأصل في الماء الطهارة، وكذلك إذا قدر على طهور بيقين، فلا يجوز له الاجتهاد كأن كان على شط نهر .

(وقال قوم بعد حصول يقين النجاسة في مقابلة يقين الطهارة: يجب الاجتناب ولا يغني الاجتهاد) ، أي: لا يفيد، (وقال المقتصدون) منهم: بل (يجتهد وهو الصحيح) ، وعليه مشى المصنف في كتبه، وتبعه الرافعي والنووي والمتأخرون، ففي الوجيز مهما اشتبه إناء تيقن نجاسته بمشاهدة أو سماع من عدل بإناء طاهر لم يجز أخذ أحد الإناءين إلا باجتهاد وطلب علامة تغلب ظن الطهارة، وإن غلب على ظنه نجاسة أحد الإناءين فهو كاستيقان النجاسة على أحد القولين الظاهر منهما استصحاب الأصل .

ثم للاجتهاد شرائط : الأول أن يكون للعلامة مجال في المجتهد فيه الثاني أن يتأيد الاجتهاد باستصحاب الحال الثالث أن يعجز عن الوصول إلى اليقين. الرابع: أن تلوح علامة النجاسة اهـ .

وقال الشربيني في شرح المنهاج: لو اغترف من إناءين في كل منهما ماء قليل أو مائع في إناء واحد، فوجد فيه فأرة ميتة لا يدرى من أيهما هي، اجتهد، فإن ظنها من الأول واتحدت المغرفة، ولم تغسل بين الاغترافين حكم بنجاستهما، وإن ظنها من الثاني أو من الأول، واختلفت المغرفة أو اتحدت وغسلت بين الاغترافين حكم بنجاسة ما ظنها فيه، ولو اشتبه إناء بول بأواني بلد ماء أو ميتة بمذكياته أخذ منها ما شاء من غير اجتهاد إلا واحدا، كما لو حلف لا يأكل تمرة بعينها، فاختلطت بتمر فأكل الجميع إلا تمرة لم يحنث اهـ .

(ولكن وزانه أن يكون له زوجات فيقول: إن كان) هذا الطائر (غرابا فزينب طالق، وإن لم يكن) غرابا (فعمرة طالق، فلا جرم لا يجوز له غشيانهما بالاستصحاب، ولا يجوز الاجتهاد إذ لا علامة) هنا تغلب الظن على الجواز (ونحرمهما عليه) أي: الزوجتين على الرجل; (لأنه لو وطئهما) بعد ذلك (كان مقتحما) أي: مرتكبا (للحرام قطعا، وإن وطئ إحداهما وقال: أقتصر على هذه، كان متحكما بتعيينها من غير ترجيح، ففي هذا افتراق حكم شخص واحد وشخصين; لأن التحريم على شخص واحد متحقق) في نفسه (بخلاف الشخصين إذ كل واحد يشك في التحريم في حق نفسه) ، فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية