إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وسأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه .

وسأل عمر رضي الله عنه وكل ذلك كان في موضع الريبة وحمله على الورع وإن كان ممكنا ، ولكن لا يحمل عليه إلا بقياس حكمي ، والقياس ليس يشهد بتحليل هذا ، فإن دلالة اليد والإسلام وقد عارضتها هذه الدلالات أورثت ريبة فإذا تقابلا فالاستحلال لا مستند له .

وإنما لا يترك حكم اليد والاستصحاب بشك لا يستند إلى علامة كما إذا وجدنا الماء متغيرا ، واحتمل أن يكون بطول المكث فإن رأينا ظبية بالت فيه ثم احتمل أن التغيير به تركنا الاستصحاب وهذا قريب منه .

ولكن بين هذه الدلالات تفاوت فإن طول الشوارب ولبس القباء وهيئة الأجناد يدل على الظلم بالمال .

أما القول والفعل المخالفان للشرع إن تعلقا بظلم المال ، فهو أيضا دليل ظاهر كما لو سمعه يأمر بالغصب والظلم أو يعقد عقد الربا .

فأما إذا رآه قد شتم غيره في غضبه أو اتبع نظره امرأة مرت به فهذه الدلالة ضعيفة ، فكم من إنسان يتحرج في طلب المال ولا يكتسب إلا الحلال ، ومع ذلك فلا يملك نفسه عند هيجان الغضب والشهوة فليتنبه لهذا التفاوت ، ولا يمكن أن يضبط هذا بحد فليستفت العبد في مثل ذلك قلبه .

وأقول : إن هذا إن رآه من مجهول فله حكم ، وإن رآه ممن عرفه بالورع في الطهارة والصلاة وقراءة القرآن ، فله حكم آخر إذا تعارضت الدلالتان بالإضافة إلى المال وتساقطتا وعاد الرجل كالمجهول إذ ليست إحدى الدلالتين تناسب المال على الخصوص ، فكم من متحرج في المال لا يتحرج في غيره ، وكم من محسن للصلاة والوضوء والقراءة ويأكل من حيث يجد فالحكم في هذه المواقع ما يميل إليه القلب فإن هذا أمر بين العبد وبين الله فلا يبعد أن يناط بسبب خفي لا يطلع عليه إلا هو ورب الأرباب وهو حكم حزازة القلب .

، ثم ليتنبه لدقيقة أخرى ، وهو أن هذه الدلالة ينبغي أن تكون بحيث تدل على أن أكثر ماله حرام بأن يكون جنديا أو عامل سلطان أو نائحة أو مغنية فإن دل على أن في ماله حراما قليلا لم يكن السؤال واجبا ; بل كان السؤال من الورع .


(وسأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه) الذي كان يتولى خراجه عن الطعام الذي أطعمه، (وسأل عمر رضي الله عنه ساقيه اللبن) من أين سقاه؟ (وكل ذلك كان في موضع الريبة) والشك، (وحمله على الورع وإن كان ممكنا، ولكن لا يحمل عليه إلا بقياس حكمي، والقياس ليس يشهد لتحليل هذا، فإن دلالة اليد والإسلام عارضتهما هذه الدلالات فإذا تقابلت) مع بعضهما (فالاستحلال لا مستند له، وإنما لا نترك حكم اليد والاستصحاب بشك لا يستند إلى علامة) ، فأما إذا استند إلى علامة ترك حكم اليد، (كما إذا وجدنا الماء) في فلاة (متغيرا، واحتمل أن يكون) [ ص: 82 ] تغيره (بطول المكث) بتثليث ميمه مع إسكان كافه، (أو بنجاسة) لاقته، (فإن رأينا ظبية بالت فيه ثم احتمل التغير به وبغيره تركنا الاستصحاب) لقوة الاحتمال الثاني; لكونه حدث عقيب المشاهدة، (وهذا الذي نحن فيه قريب منه، ولكن بين هذه الدلالات تفاوت) ظاهر، (فإن طول الشارب) ولبس (القباء وهيئة الأجناد) من الأتراك والأكراد، كل ذلك (يدل على الظلم بالمال، أما القول أو الفعل المخالفان للشرع إن تعلقا بظلم المال، فهو أيضا دليل ظاهر كما لو سمعه يأمر) آخر (بالغصب) من آخر، (والظلم أو يعقد عقد الربا) ، فكل ذلك حرام، (فأما إذا رآه شتم غيره في) حال (غصبه) بكلام قبيح، (أو) رآه قد (أتبع نظره امرأة مرت به) وهي أجنبية، (فهذه الدلالة ضعيفة، فكم من إنسان يتحرج في طلب المال) أي: يقع في الحرج بسببه (ولا يكتسب إلا الحلال، ومع ذلك فلا يملك نفسه عند هيجان الغضب، و) كذا عند هيجان (الشهوة) لثوران الدم في الأول، والمني في الثاني، (فللنفوس في هذا تفاوت) ; لأن بعضها أشد من بعض، (ولا يمكن أن يضبط هذا بحد) محدود، (فليستفت العبد في مثل ذلك قلبه) ، فإن أفتاه بالإقدام أقدم عليه، (وأقول: إن هذا إذا رآه من مجهول فله حكم، وإن رآه ممن عرفه بالورع) والاحتياط (في) أمور (الطهارة والصلاة وقراءة القرآن، فله حكم آخر إذا تعارضت الدلالتان بالإضافة إلى المال تساقطتا) ، كما هي القاعدة المقررة، (وعاد الرجل كالمجهول) حاله (إذ ليست إحدى الدلالتين تناسب المال على الخصوص، فكم من متحرج في المال لا يتحرج في غيره، وكم من محسن للصلاة والوضوء والقراءة) معتن بها (ويأكل من حيث يجد) من غير ورع، (فالحكم في هذه المواقع ما يميل إليه القلب) ولا ينفر عنه، (فإن هذا أمر) خفي (بين العبد وبين الله تعالى) لا يطلع عليه، (فلا يبعد أن يناط) أي: يعلق (بسبب خفي لا يطلع عليه إلا هو) جل شأنه، (وعالم الغيوب رب الغيوب وهو حكم حزازة القلوب، ثم ليتنبه) أيضا (لدقيقة أخرى، وهو أن هذه الدلالة ينبغي أن تكون بحيث تدل على أن أكثر ماله حرام بأن يكون جنديا) من جنود السلطان، (أو عامل سلطان) على بلدة، (أو نائحة) ، وهي الندابة على الموتى، (أو مغنيا) بآلة اللهو، فإن هؤلاء دلالتهم ظاهرة، (فإن دل على أن في ماله حراما قليلا لم يكن السؤال واجبا; بل كان السؤال من الورع) ، ومن باب الاستبراء للدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية