إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الغائلة الأولى أن يظن السلطان بسبب أخذك أن ماله طيب ولولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه ولا تدخله في ضمانك ، فإن كان كذلك فلا تأخذه فإن ذلك محذور ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك من الجراءة على كسب الحرام .

. الغائلة الثانية : أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون أنه حلال فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به على جوازه ، ثم لا يفرقون ، فهذا أعظم من الأول فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة فالمقتدي والمتشبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز ، فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير .

وقد حكى وهب بن منبه إن رجلا أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل ، فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف ، فلم يأكل فقيل له في ذلك ، فقال : إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير فإذا خرجت سالما ، وقد أكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون .

ودخل وهب ابن منبه وطاوس على محمد بن يوسف أخي الحجاج وكان عاملا وكان في غداة باردة في مجلس بارز ، فقال لغلامه : هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن أي : طاوس وكان قد قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه فغضب محمد بن يوسف فقال وهب : كنت غنيا عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال : نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس ولا يصنع به ما أصنع به إذن ، لفعلت .

الغائلة الثالثة أن يتحرك قلبك إلى حبه لتخصيصه إياك وإيثاره لك بما أنفذه إليك ، فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك فإن من أحببته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه .

قالت عائشة رضي الله عنها جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .


(الغائلة الثالثة أن يتحرك قلبك إلى حبه) والميل إليه، (لتخصيصه إياك) دون غيرك، (وإيثاره لك بما أنفذه إليك، فإن كان كذلك فلا تقبل) منه أبدا، (فإن ذلك هو السم القاتل) [ ص: 147 ] لدقته، (والداء الدفين) الذي أعيا منه الأطباء (أعني ما يحبب الظلمة إليك فإن ما أحببته لا بد وأن تحرص عليه وتداهن فيه) بمقتضى الطبع البشري، (قالت عائشة رضي الله عنها ترفعه) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جبلت النفوس) أي: خلقت وطبعت، وفي رواية: القلوب، (على حب من أحسن إليها) بقول أو فعل، وبغض من أساء إليها، وذلك لأن الآدمي مركب على طبائع شتى وأخلاق متباينة، والشهوات فيه مركبة، ومن رؤوس الشهوات نيل المنى وقضاء الوطر، فمن بلغ نفس غيره مرامها، فلنفسه أقامها، فإذا أحسن إليها صفت وصارت طوعا له، وإلا فهي كالمكره، فاستبان أن الألفة إنما تتم ببر النفوس كأنها تقول: شأني اللذات لا الطاعات، فهل يبر بي أحد حتى أحبه .

قال ابن عطاء : من أحسن إليك، فقد استرقك بامتنانه، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه .

(تنبيه) :

قول المصنف: قالت عائشة إلى آخره: هذا غلط، فإنه ما روي إلا من حديث ابن مسعود ، ولم أر أحدا من الحفاظ نسبه إلى عائشة مطلقا، وقوله ترفعه مع غلطه فيه اختلاف، هل هو مرفوع أو موقوف على ابن مسعود من قوله كما سيأتي بيان ذلك، ثم وجدت بعد ذلك في كتاب المقاصد للحافظ السخاوي أن هذا الحديث أخرجه القضاعي مرفوعا من جهة ابن عائشة ، فظهر لي أن المصنف رحمه الله تعالى سبق نظره إلى عائشة ، فظن أنها هي أم المؤمنين، وليس كذلك، وابن عائشة رجل محدث من رجال أبي داود والترمذي والنسائي ، واسمه عبيد الله بن محمد بن حفص بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي ، يقال له: ابن عائشة نسبة إلى عائشة بنت طلحة ; لأنه من ذريتها، وسيأتي سياق القضاعي ، ولما رأى العراقي هذا مع ما فيه من الوقف والرفع لم يخرجه في كتابه المغني، وأما تخريجه فقد أخرجه هكذا بلفظ: جبلت القلوب، وبزيادة الجملة الأخيرة أبو نعيم في الحلية وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وابن حبان في روضة العقلا، والخطيب في التاريخ، وآخرون، كلهم من طريق إسماعيل بن أبان الخياط ، قال: بلغ الحسن بن عمارة أن الأعمش وقع فيه، فبعث إليه بكسوة، فمدحه الأعمش ، فقيل للأعمش : ذممته ثم مدحته، فقال: إن خيثمة حدثني عن ابن مسعود قال: جبلت، فذكره، وهكذا أخرجه ابن عدي في الكامل، ومن طريقه البيهقي في الشعب، وابن الجوزي في العلل، لكن مرفوعا وقال: لا يصح، فالخياط مجرح، وقال يحيى : كذاب، وقال الشيخان والدارقطني : متروك، وقال ابن حبان : يضع على الثقات، وفي اللسان قال الأزدي : هذا الحديث باطل، وإسماعيل الخياط كوفي زائغ، وقال الحافظ السيوطي في الجامع الصغير بعد أن أقر لابن عدي وأبي نعيم والبيهقي ، وصحح البيهقي وقفه اهـ، أي: على ابن مسعود ، وزاد فقال: إنه المحفوظ. وقال ابن عدي : المعروف وقفه، وتبعه الزركشي ، وأورده السيوطي في الجامع الكبير ورمز لأبي نعيم عن ابن مسعود قال: وأخرجه العسكري في الأمثال من حديث ابن عمر ، وقال الحافظ السخاوي في المقاصد: وقول ابن عدي ثم البيهقي أن الموقوف معروف عن الأعمش يحتاج إلى تأويل، فإنهما أورداه كذلك بسند فيه من اتهم بالكذب والوضع بسياق أجل الأعمش عن مثله، وهو أنه لما ولي الحسن بن عمارة مظالم الكوفة بلغ الأعمش فقال: ظالم ولي مظالمنا، فبلغ الحسن فبعث إليه بأثواب ونفقة، فقال الأعمش مثل هذا: ولي علينا يرحم صغيرنا ويعود على فقيرنا ويوقر كبيرنا، فقال له رجل: يا أبا محمد ما هذا قولك فيه أمس، فقال: حدثني خيثمة وذكره موقوفا، وأخرجه القضاعي مرفوعا من جهة ابن عائشة ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، رجل من قريش قال: كنت عند الأعمش ، فقيل: إن الحسن بن عمارة ولي المظالم فقال الأعمش : يا عجبا من ظالم، ما للحائك ابن الحائك والمظالم، فخرجت فأتيت الحسن فأخبرته، فقال: علي بمنديل وأثواب فوجه بها إليه، فلما كان من الغد بكرت إلى الأعمش فقلت: أجرى الحديث، قبل أن يجتمع الناس فأجريت ذكره فقال: بخ بخ هذا الحسن بن عمارة ولي العمل وما زانه فقلت: بالأمس قلت ما قلت، واليوم تقول هذا؟ فقال: دع هذا عنك .

حدثني خيثمة عن ابن مسعود مرفوعا، فقد كان رحمه الله زاهدا ناسكا تاركا للدنيا حتى وصفه القائل بقوله: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عنده مع فقره وحاجته. وقال آخر: صبور مع فقره مجانب للسلطان ورع عالم بالقرآن، اهـ. كلام السخاوي .

قلت: وأورده هكذا العسكري في الأمثال إلا أنه قال حدثني خيثمة عن [ ص: 148 ] ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: جبلت، وذكره، وفي رواية ذكر للأعمش الحسن بن عمارة فقال: بالأمس يطفف في المكيال والميزان واليوم ولي أمور المسلمين، فلما كان جوف الليل بعث إليه ابن عمارة بصرة وتخت ثياب، فلما أصبح أثنى عليه وقال: ما عرفته إلا من أهل العلم، فقيل له في ذلك، فقال: دعوني عنكم، ثم ذكره، وإذا عرفت ذلك ظهر لك أن الحديث له أصل. وطريق القضاعي والعسكري ليس فيه من اتهم بالوضع، فلا يكون باطلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية