إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال عليه السلام : اللهم لا تجعل لفاجر عندي يدا فيحبه قلبي .

بين صلى الله عليه وسلم إن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك .

وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم ، فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال : ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق قال : سل أصحابي فقالوا : أخرجه كله فقال :

أنشدك الله أقلبك أشد حبا له الآن أم قبل أن أرسل إليك لا ؟ : بل الآن قال: إنما كنت أخاف هذا .

وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره عزله ونكبته وموته ، وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله ، وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم .

قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا قيل: لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حبالهم بذلك فلا بأس بالأخذ .

وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالا ويفرقها فقيل له : ألا تخاف أن تحبهم فقال : لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ، ثم عصى ربه ، ما أحبه قلبي ; لأن ما الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكرا له على تسخيره إياه .

وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم ; لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل .


وأما الجواب عن الأعمش وإنه لا يليق بمقامه فقد يقال: إن هذا كان في أوائل أمره، وقد يستأنس له بالذي أورده المصنف فقال: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل لفاجر عندي يدا فيحبه قلبي ) قلت: ويروى: اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة يرعاه بها قلبي .

وقال العراقي : رواه ابن مردويه في التفسير من رواية كثير بن عطية عن رجل لم يسم، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ وأبو موسى المديني في كتاب تضييع العمر والأيام من طريق أهل البيت مرسلا، وأسانيده كلها ضعيفة اهـ .

(بين صلى الله عليه وسلم أن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك) لما قدمنا ذكره، ويستأنس له أيضا بما أخرجه الطبراني من حديث عصمة بن مالك : الهدية تذهب بالسمع والقلب والبصر .

(وروي أن بعض الأمراء) يعني أمراء البصرة (أرسل إلى مالك بن دينار) بن يحيى البصري العابد (بعشرة آلاف، فأخرجها كلها) بأن فرقها على الحاضرين، (فأتاه محمد بن واسع) بن جابر بن الأخنس الأزدي أبو بكر أبو عبد الله البصري، ثقة عابد، كثير المناقب، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، وقد تقدم ذكره مرارا، (فقال له: ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق) يعني: الأمير ولم يسمه بالأمير، (فقال: سل أصحابي) ، فسألهم (فقالوا: أخرجه كله) وفرقه، (فقال: أنشدك الله أقلبك أشد حبا له الآن أم قبل أن أرسل إليك؟ فقال: بل الآن، فقال: كنت أخاف هذا) .

وقد أخرج هذه القصة أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا هارون بن هارون ، حدثنا حمزة عن ابن شوذب ، قال: قسم أمير من أمراء البصرة على قراء البصرة ، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل، فأتى محمد بن واسع فقال: يا مالك ، قبلت جوائز السلطان، قال: فقال: يا أبا بكر سل جلسائي فقالوا: يا أبا بكر اشترى بها رقابا فأعتقها، فقال له محمد : أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجزيك؟ قال: اللهم لا، قال: ترى أي شيء دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع اهـ .

(وقد صدق) محمد بن واسع ، (فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره عزله ونكبته) ، أي: مصيبته (وموته، وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله، وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم) ، ولذا قال مالك ما قال، واعترف لنفسه بالتقصير في مقام المعرفة بالله تعالى .

(وقال سلمان) الفارسي (وابن مسعود) رضي الله عنهما: ( من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده ) وعاينه، (وقال الله تعالى) في كتابه العزيز: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) أي: لا تميلوا إليهم بقلوبكم، (وقيل) في بعض التفاسير، أي: (لا ترضوا بأعمالهم) ، أي: فمن رضي بأعمالهم كان كالعامل لها فيحشر معهم، (فإن كنت) أيها المريد (في القوة) والطاقة (بحيث لا تزداد حبا بذلك) ، وتكون كما كنت عليه قبل، (فلا بأس بالأخذ) ، وهذا مقام طاوس وأضرابه، (وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ) من الأمراء (أموالا ويفرقها) لمستحقيها، (فقيل له: ألا تخاف أن تحبهم) ، فإن المال يميل القلوب، (فقال: لو أخذ رجل بيدي فأدخلني الجنة، ثم عصى ربه، ما أحبه قلبي; لأن الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكرا له على تسخيره إياه) لي، (وبهذا يتبين أن أخذ المال منهم الآن وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم; لأنه لا يسلم) الآخذ، (من هذه الغوائل) ، وفي نسخة: لأنه لا بد له من هذه الغوائل، وهذا دقيق جدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية