إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطا لا تحصل إلا بها ونحن نفصلها أما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال : أن يكون عاقلا حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا .

أما العقل فهو رأس المال وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت .

قال علي رضي الله عنه :


فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه     فكم من جاهل أردى
حليما حين آخاه     يقاس المرء بالمرء
إذا ما المرء ماشاه     وللشيء من الشيء
مقاييس وأشباه     وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه

كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري ولذلك قال الشاعر .

:

إني لآمن من عدو عاقل     وأخاف خلا يعتريه جنون
فالعقل فن واحد وطريقه     أدرى فأرصد والجنون فنون

ولذلك قيل : مقاطعة الأحمق قربان إلى الله .

وقال الثوري: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة، ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه وإما إذا فهم .

وأما حسن الخلق فلا بد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته .

وأما الفاسق المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض .

وقال تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وقال تعالى: فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه وقال تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وقال : واتبع سبيل من أناب إلي وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق .


(فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطها لا تحصل إلا بها ويخفى تفصيلها) وفي نسخة: ولا يخفى (وأما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر) أي: تختار (صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلا حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا) وفي القوت: وإياك أن تصحب من الناس خمسة: المبتدع والفاسق والجاهل والحريص على الدنيا والمغتاب؛ فإن هؤلاء مفسدة للقلوب مذهبة للأحوال، مضرة في الحال والمآل .

(أما العقل فهو رأس المال) أي: بمنزلته (وهو الأصل) وبتمامه تمام الدين فقد روى البيهقي من حديث أنس: "وما تم الدين إنسان قط حتى يتم عقله" (ولا خير في صحبة الأحمق) أي: فاسد العقل (فإلى القطيعة والوحشة ترجع عاقبتها) أي: تلك الصحبة (وإن طالت، قال علي -رضي الله عنه-) فيما نسب إليه .

وفي القوت روى الأصمعي عن مجالد عن الشعبي قال: قال علي -رضي الله عنه- لرجل وقد كره صحبة رجل أحمق، فقال:


( لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه     فكم من جاهل أردى
حكيما حين آخاه )

معنى أردى: أهلك

( يقاس المرء بالمرء     إذا ما المرء ماشاه )

وفي نسخة: "إذا ما هو ماشاه" والمماشاة الاستواء في المشي [ ص: 200 ]

( وللشيء من الشيء     مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب     دليل حين يلقاه )



(كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد منفعتك وإعانتك من حيث لا يدري) وروى جعفر الصادق عن أبيه: إياك والأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، (ولذلك قيل:


إني لآمن من عدو عاقل     وأخاف خلا يعتريه جنون
فالعقل فن واحد وطريقه     أدري فأرصد والجنون فنون



ولذلك قيل: مقاطعة الأحمق قربات من الله) تعالى، وقد جاء في بعض الأخبار: إياك أن تصحب جاهلا فتجهل بصحبته أو غافلا عن مولاه متبعا لهواه فيصدك عن سبيله فتردى، كما قال تعالى: فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون .

(وقال) سفيان (الثوري) رحمه الله تعالى (النظر في وجه الأحمق خطيئة مكتوبة) كذا في القوت (وتعني بالعاقل الذي يفهم الأمور) بنور عقله (على ما هي عليها أما بنفسه) أي: من جوهر طبعه وهو الوهب الإلهي (وأما إذا فهم وعلم) أي: علمه الغير وفهمه ففهم وعلم وهذا هو العقل المكتسب (وأما حسن الخلق فلا بد منه) في الصاحب (إذ رب عاقل يدرك الأشياء) بنفوذ بصيرته (على ما هي عليها ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو جبن) استرسل مع نفسه و (أطاع هواه وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته) الردية (وتقويم أخلاقه) السيئة (فلا خير في صحبته) أيضا .

(وأما الفاسق المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته) أيضا (لأن من يخاف الله) ويخشاه (لا يصر على كبره) أصلا (ومن لا يخاف الله) تعالى (لا تؤمن غائلته) أي: داهيته (ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض) ومنه قول العامة: الذي لا يخاف الله خف منه (وقال تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) أي: لا توافقه ولا ترافقه (وقال عز وجل:) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى أي: تكون رديا أو فتهلك، وقال تعالى: ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) ففي دليله الإقبال بالصحبة على من أقبل إلى ذكره والإعراض عمن أعرض عن وجهه، فلا تصحبن إلا مقبلا إليه (وقال تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي ) أي: رجع (وفي مفهوم ذلك زجر عن) مصاحبة (الفساق) والغافلين .

التالي السابق


الخدمات العلمية