إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات قال ابن عباس رضي الله عنهما للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام .

وقال عز وجل : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال تعالى : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وقال تعالى : قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به تنبيها على أنه اقتدر بقوة العلم .

وقال عز وجل : وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم .

وقال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم رد حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله .

وقيل في قوله تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم يعني العلم وريشا يعني اليقين ولباس التقوى يعني : الحياء .

وقال عز وجل : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، وقال تعالى : فلنقصن عليهم بعلم ، وقال عز وجل : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وقال تعالى : خلق الإنسان علمه البيان وإنما ذكر ذلك في معرض الامتنان .


(وقال الله تعالى) : يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) والله بما تعملون خبير .

تنبيه على تفاوت منازل العلوم، وتفاوت أربابها، ورفعة درجات أهل العلم والإيمان، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه برفعة الدرجات في أربعة مواضع:

أحدها: هذا، والثاني قوله تعالى: أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ، والثالث قوله: درجات منه ومغفرة ورحمة والرابع قوله: فأولئك لهم الدرجات العلا فهذه أربعة مواضع في ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لأهل الإيمان، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، والرابع الرفعة بالجهاد، فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين .

(قال) عبد الله (بن عباس -رضي الله عنهما-) في تفسير هذه الآية: (للعلماء درجات فوق درجات المؤمنين بسبعمائة درجة) ولفظ القوت: وقال ابن عباس في قوله تعالى: يرفع الله الذين الآية، قال: درجات العلماء فوق درجات الذين آمنوا بسبعمائة درجة (ما بين الدرجتين خمسمائة عام) اهـ .

والدرجة هي نحو المنزلة، لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيطة كدرجة السطح والسلم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، وهي المراد هنا، وروي: "للأنبياء على العلماء فضل درجة، وللعلماء على الشهداء فضل درجتين".

(وقال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) قال البيضاوي: نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيها باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل: تقرير للأول على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. اهـ .

قال الشهاب في حاشيته: قوله: "وقيل: تقرير للأول" عطف على ما قبله بحسب المعنى؛ إذ التقدير: والذين يعلمون والذين لا يعلمون هم القانتون وغيرهم، فيتحدان بحسب المعنى، أو المراد بالثاني غير الأول، وإنما ذكر على طريق التشبيه كأنه قيل: لا يستوي القانت وغيره، كما لا يستوي العالم والجاهل، فيكون ذكره على سبيل التمثيل، ففيه تأكيد من وجه آخر .

(وقال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء ) إن الله عزيز غفور الخشية أشد الخوف، وقيل: خوف يشوبه تعظيم المخوف منه، وأكثر ما يكون ذلك من علم ما يخشى منه؛ ولذلك خص العلماء في هذه الآية، أي: إنما يخافه من عباده العلماء الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أعلم كان أخشى لله .

وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: أي: من علم سلطانه وقدرته وهم العلماء، وقال الزمخشري: المراد العلماء الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، فعظموه وقدروه وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا .


على قدر علم المرء يعظم خوفه فلا عالم إلا من الله خائف     وآمن مكر الله بالله جاهل
وخائف مكر الله بالله عارف

قال النعماني في شرح البخاري: لأن من يفعل ما يريد من غير مبالاة يجب أن يخاف منه، قال الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون اهـ .

ويروى عن ابن مسعود: "رأس الحكمة مخافة الله" أي: لأنها تمنع النفس عن المخالفات، وعنه أيضا: "كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا" وورد أيضا: "إنما أخشاكم لله وأتقاكم أنا" وقرئ: {إنما يخشى الله} برفع الجلالة ونصب العلماء، وهي قراءة عمر بن عبد العزيز، وأبي حنيفة الإمام، ولا عبرة بقول الحلبي: وفي حفظي عن بعض العلماء أنه أبو حنيفة الدينوري صاحب كتاب النيات؛ فإن صاحب كتاب النيات ليست عنه قراءة مشهورة، ولا غيرها، ولم يشتهر بها .

ثم إن وجه هذه القراءة أن [ ص: 69 ] الخشية فيها تكون استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، ومن لوازم الخشية التعظيم، فيكون هذا من قبيل الملزوم وإرادة اللازم .

قال العيني: وفي أيام اشتغالي على الإمام العلامة شرف الدين أبي الروح عيسى السرماوي حضر رجل في الدرس فقال: خشية الله مقصورة على العلماء بقضية الكلام، وقد ذكر الله في آية أخرى أن الجنة لمن يخشى الله، وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي ربه فيلزم من ذلك أن لا تكون الجنة إلا للعلماء خاصة، فسكت جميع من حضر من المتعلمين، فأجاب الشيخ أن المراد من العلماء الموحدون، وأن الجنة ليست إلا للموحدين الذين يخشون الله تعالى .

وفي القوت: قال المهدي لسفيان بن الحسين لما دخل عليه وكان أحد العلماء: أعالم أنت؟ فسكت، فأعاد عليه، فسكت، فقيل: ألا تجيب أمير المؤمنين؟ فقال: سألتني عن مسألة لا جواب لها، إن قلت: لست بعالم وقد قرأت كتاب الله كنت كاذبا، وإن قلت: إني عالم كنت جاهلا؛ إذ روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في قول الله عز وجل: إنما يخشى الله من عباده العلماء قال: من لم يخش الله عز وجل فليس بعالم .

(وقال الله تعالى: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) أي: لا يفوت علمه شيء، قال البيضاوي: كفى بمعنى أقام من الحجج على صحة نبوتك ... عن الاستشهاد بغيره .

وقال السمين: في كفى قولان:

أحدهما: اسم فعل .

والثاني: وهو الصحيح أنها فعل .

وفي فاعلها قولان:

أحدهما: وهو الصحيح أنه المجرور بالباء، والباء زائدة، وفي فاعل مضارعه نحو أولم يكف بربك باطراد الاكتفاء، وبالله على هذا في موضع نصب; لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأي ابن السراج، ورد هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة .

وقال الزجاج: الباء دخلت مؤكدة للمعنى، أي: اكتفوا بالله في شهادته، وقوله: "شهيدا" في نصبه وجهان:

أحدهما: وهو الصحيح أنه تمييز، يدل على ذلك صلاحية دخول "من" عليه .

والثاني: أنه حال .

وتمام هذا البحث في حاشية عبد القادر عمر البغدادي على شرح بانت سعاد لابن هشام.

( ومن عنده علم الكتاب ) هو العلم الخاص الخفي على البشر، الذي يرونه ما لم يعرفوه منكرا، بدليل ما رآه موسى -عليه السلام- من الخضر لما تبعه، فأنكره بظاهر شريعته حتى عرفه .

(وقال تعالى: قال الذي عنده علم من الكتاب ) وهو وزير سيدنا سليمان -عليه السلام- واسمه آصف بن برخيا بن أشموئل ( أنا آتيك به ) أي: بالعرش (تنبيها على أنه اقتدر عليه) أي: على إتيان العرش في طرفة عين (بقوة) ذلك (العلم) الذي بيناه .

(وقال الله تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ) أتاهم الله العلم والحكمة ( ويلكم ثواب الله خير لمن آمن ) أي: جزاؤه بالعمل الصالح في الآخرة خير من هذه الزخارف (بين) في هذه الآية (أن عظيم قدر الآخرة) وما فيها من الثواب والعقاب لا (يعلم) إلا (بالعلم .

وقال تعالى: وتلك الأمثال ) المضروبة ( نضربها ) نبينها ( للناس وما يعقلها ) أي: تلك الأمثال وحسنها وفائدتها ( إلا العالمون ) بكسر اللام، أي المتدبرون، فأخبر الله تعالى عن أمثاله التي يضربها لعباده، يدلهم على صحة ما أخبر به أن أهل العلم المنتفعون بها المختصون بعلمها، وفي القرآن بضعة وأربعون مثلا، وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يعرفه يبكي، ويقول: لست من العالمين .

(وقال تعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ) هم العلماء بما أنزل على الأنبياء ( لعلمه الذين يستنبطونه ) أي: يستخرجونه (منهم) فانظر كيف (رد حكمه في الوقائع) والنوازل (إلى استنباطهم) أي: العلماء (وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء) عليهم السلام في ذكرهم بعد الرسول (في كشف حكم الله) عز وجل .

(وقيل في قوله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري ) يستر ( سوآتكم يعني العلم) عبر به عنه بضرب من المجاز؛ لأنه يغطي عن قبيح الجهل، وأصل اللباس ما يلبس ويستتر به، وقد يعبر عنه أيضا بالعمل الصالح، وبستر العورة، وهذا بطريق التلميح، فإنه يدل على أن جل المقصد من اللباس إنما هو ستر العورة، وما زاد فتحسن وتزين، إلا ما كان لدفع حر أو برد ( وريشا يعني اليقين) مستعار من ريش الطائر .

وقال: [ ص: 70 ] أبو المنذر القارئ: الريش الزينة، وقال غيره: هو الجمال ( ولباس التقوى أي: الحياء) نقله ابن القطاع، أو: الإيمان، نقله السدي .

(وقال تعالى: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة ، وقال تعالى: فلنقصن عليهم بعلم ، وقال تعالى: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وقال تعالى: خلق الإنسان علمه البيان ) سمى الكلام بيانا; لأنه يكشف المقصود، وهو أعم من النطق; لأن النطق مختص باللسان، وفي الكشاف: البيان المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير .

(وإنما ذكر ذلك في معرض الامتنان) وتعداد نعمه عليه .

وفي كتاب الله -عز وجل- آيات دالة على فضل العلم سوى التي ذكرها المصنف، منها قوله تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، وقوله تعالى: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم الآية، وقوله تعالى: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وقوله تعالى: وقل رب زدني علما وكفى بهذا شرفا للعلم؛ إذ أمر نبيه أن يسأله المزيد منه، وقوله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فسر فضل الله بالإيمان ورحمته بالقرآن، وهما العلم النافع والعمل الصالح .

وقوله تعالى: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ، وقوله تعالى: ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وقوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها الآية، وفيها شرف العلم من وجوه كثيرة، وقوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال ابن قتيبة: الحكمة إصابة الحق، والعمل به .

وقوله تعالى: اقرأ باسم ربك الآية، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على فضل العلم، وفي هذا القدر كفاية، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية