إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الحق الخامس :

العفو عن الزلات والهفوات وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة .

أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله ويعيد إلى الصلاح والورع حاله .

فإن لم تقدر وبقي مصرا فقد اختلفت طرق الصحابة والتابعين في إدامة حق مودته أو مقاطعته .

فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى الانقطاع وقال : إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض في الله .

وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة فذهبوا إلى خلافه ، فقال أبو الدرداء إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى .

وقال إبراهيم النخعي لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه ؛ فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدا .

وقال أيضا : لا تحدثوا الناس بزلة العالم فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها وفي الخبر اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته .

وفي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال : ما فعل أخي قال ذلك ؟ : أخو الشيطان ، قال مه قال : إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر .

قال : إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب الآية ثم عاتبه تحت ذلك وعذله فلما قرأ الكتاب بكى وقال : صدق الله ونصح لي عمر فتاب ورجع .


(الحق الخامس:

العفو من الزلات) أي: السقطات (والهفوات وهفوة [ ص: 227 ] الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية) لله تعالى (أو) تكون (في حقك بتقصيره في الأخوة) أي: في أداء حقوقها (أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها) وعدم الإقلاع عنها (فعليك التلطف في نصحه) أي: تنصحه بلطافة (بما يقيم أوده) أي: عوجه (ويجمع شمله) المتفرق (ويعيد إلى الصلاح والورع حاله فإن لم تقدر) على ذلك (وبقي مصرا) على حاله (فقد اختلفت طرق الصحابة) رضوان الله عليهم (والتابعين) رحمهم الله تعالى (في إدامة حق مودته أو مقاطعته) مطلقا (فذهب أبو ذر) الغفاري -رضي الله عنه- (إلى الانقطاع فقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه) من الاستقامة (فأبغضه من حيث أحببته ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض في الله) ، ولفظ القوت: قد اختلف مذهب الصحابة في الأخ يحب أخاه في الله -عز وجل- ينقلب الآخر عما كان عليه ويتغير هل يبغضه بعد ذلك أم لا؟ فكان أبو ذر -رضي الله عنه- يقول فساقه (وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة) رضي الله عنهم (فذهبوا إلى خلافه، فقال أبو الدرداء) - رضي الله عنه- (إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه) أي: لا تترك صحبته (لأجل ذلك) أي: تغييره عما كان عليه (فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى) نقله صاحب القوت، وزاد: وكان يقول: دار أخاك ولا تطع فيه حاسدا فتكون مثله .

(وقال) إبراهيم بن زيد (النخعي) التابعي: (لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب يذنبه؛ فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدا) نقله صاحب القوت والعوارف (قال أيضا: لا تحدث الناس بزلة العالم يزل الزلة ثم يتركها) كذا في القوت، إلا أنه قال: لا تحدثوا بلفظ الجمع، زلة العالم فعلته الخطيئة جهرا؛ إذ بزلته يزل عالم كثير لاقتدائهم به .

(وفي الخبر) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (اتقوا زلة العلم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته) كذا في القوت؛ أي: رجوعه وتوبته عما لابسه من الزل، قال العراقي: رواه البغوي في المعجم وابن عدي في الكامل من حديث عمرو بن عوف المزني وضعفاه. انتهى .

قلت: وكذلك رواه الخلواني والبيهقي كلهم عن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، والحديث ضعيف لضعف كثير، ففي الكاشف: واه، وقال أبو داود: كذاب، وفي الميزان عن الشافعي: ركن من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة؛ وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه .

(وفي حديث عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- وقد سأل عن أخ كان) قد (آخاه) أي: عقد الأخوة بينه وبينه فخرج إلى الشام (فسأل عنه بعض من قدم عليه) من الشام (فقال: ما فعل أخي؟ فقال: ذاك أخو الشيطان، قال: إنه قارف الكبائر) أي: ارتكبها (حتى وقع في) شرب (الخمر، قال: إذا أردت الخروج إلى الشام فآذني) أي: أعلمني بخروجك، قال: (فكتب معه عند خروجه إليه) بسم الله الرحمن الرحيم ( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب الآية) أي: إلى آخرها (ثم عاتبه بعد ذلك وعذله) أي: نصحه فوصل إليه، (فلما قرأ الكتاب بكى وقال: صدق الله -عز وجل- ونصحني عمر فتاب ورجع) هكذا أورده صاحب القوت .

وهذه القصة في تفسير "غافر" من الكشاف بلفظ: روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، قيل له أنه يتابع الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب: من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، بسم الله الرحمن الرحيم، إلى قوله: "المصير" وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى يكون صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء بالتوبة له فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عذابه، ولم يزل يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا من قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له بالتوبة ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.

وقال الشهاب السهروردي في العوارف بعد أن أخرج هذه الحكاية: وهذا الخلاف في المقارفة ظاهرا أو باطنا، والملازمة باطنا إذا وقعت المباينة ظاهرا تختلف باختلاف الأشخاص، ولا يطلق القول فيه إطلاقا من غير تفصيل فمن الناس من كان تغيره رجوعا [ ص: 228 ] عن الله تعالى وظهور سر السابقة فيجب بغضه وموافقة الحق فيه، ومن الناس من كان تغيره عثرة حدثت وفترة وقعت يرجى عوده، فلا ينبغي أن يبغض ولكن يبغض عمله في الحالة الحاضرة ويلحظ بعين الود منتظرا له الفرج والعود إلى أوطان الصلح. انتهى. وهذا التفصيل حسن، وعلى الأول يحمل قول أبي ذر -رضي الله عنه- وسيأتي للمصنف ما يشهد لهذا التفصيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية