إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن التخفيف وترك التكلف أن لا يعترض في نوافل العبادات .

كان طائفة من الصوفية يصطحبون على شرط المساواة بين أربع معان إن أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه : صم ، وإن صام الدهر كله لم يقل له : أفطر ، وإن نام الليل كله لم يقل له : قم ، وإن صلى الليل كله لم يقل له : نم ، وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان لأن ذلك إن تفاوت حرك الطبع إلى الرياء والتحفظ لا محالة .

وقد قيل : من سقطت كلفته دامت ألفته من خفت مؤنته دامت مودته .

وقال بعض الصحابة : إن الله لعن المتكلفين وقال صلى الله عليه وسلم : أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف .

وقال بعضهم : إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به :

إذا أكل عنده ودخل الخلاء وصلى ونام .

فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال : بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه ويجامعها ؛ لأن البيت يتخذ للاستخفاء في الأمور الخمس وإلا فالمساجد أروح لقلوب المتعبدين فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط .

وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك إذ يقول أحدهم لصاحبه : مرحبا وأهلا وسهلا ؛ أي : لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا ولك عندنا سهولة في ذلك كله أي لا يشتد علينا مما تريد .


(ومن) جملة (التخفيف وترك التكليف أن لا تعترضه في مداخل العبارات) الظاهر (لأن طائفة من الصوفية يصحبون على شروط المواساة وهي أربعة معان) ولفظ القوت: وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلا على استواء أربعة معان لا يترجح بعضها على بعض ولا يكون فيها اعتراض من بعض (إن أكل صاحبهم) ولفظ القوت: أحدهم النهار كله (لم يقل له صاحبه: صم، وإن صام الدهر كله لم يقل له: أفطر، وإن نام الليل كله لم يقل له: قم، وإن صلى الليل كله لم يقل له: نم، وتستوي حالته) وفي نسخة: الحالات (عنده لا مزيد) لأجل صيامه وقيامه (ولا نقصان) لأجل إفطاره ونومه، فإذا كان عنده يزيد بالعمل وينقص بترك العمل، فالفرقة أسلم للدين وأبعد من الرياء؛ (لأن ذلك إن تفاوت حرك الطبع إلى الرياء والتحفظ لا محالة) من قبل أن النفس مجبولة على حب المدح وكراهة الذم ومبتلاه بأن ترتب حالها التي عرفت فيه، وأن تظهر أحسن ما يحسن عند الناس منها، فإذا صحب من يعمل معه هذا فليس ذلك بطريق من الصادقين ولا بغية المخلصين، فمجانبة هؤلاء الناس أصلح للقلب وأخلص للعمل، وفي معاشرتهم وصحبة أمثالهم فساد للقلوب ونقصان الحال؛ لأن هذه أسباب الرياء وفي الرياء حبط الأعمال وخسر رأس المال والسقوط من عين ذي الجلال، نعوذ بالله سبحانه من ذلك .

(وقد قيل: من سقطت كلفته دامت) صحبته و (ألفته ومن خفت مؤنته دامت مودته) كذا في القوت إلا أنه قال: "ومن قلت" بدل "من خفت" .

(وقال بعض الصحابة: إن الله) عز وجل (لعن المتكلفين) هو من قول سلمان -رضي الله عنه- قال لمن استضاف عنده: لولا أنا نهينا عن التكلف لتكلفت لكم، وقد روي ذلك مرفوعا كما عند أحمد والطبراني وأبي نعيم في الحلية، ولكن الصحيح أنه موقوف قاله الحافظ ابن حجر، وقد تقدم هذا من قول يونس -عليه السلام- لما زاره إخوانه وقدم إليهم خبز شعير وجزلهم بقلا كان زرعه وقال: لولا أن الله تعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: أنا والأتقياء من أمتي برآء من التكلف ) وفي نسخة: أبرآء جمع بريء كنصيب وأنصباء وكريم وكرماء، هكذا هو في القوت، قال العراقي: رواه الدارقطني في الأفراد من حديث الزبير بن العوام "ألا إني بريء من التكلف وصالحو أمتي" وإسناده ضعيف، قلت: ونقل الحافظ السخاوي عن النووي أنه قال: ليس بثابت يعني بلفظ المصنف، ويروى من قول عمر -رضي الله عنه- نهينا عن التكلف. أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه- (وقال بعضهم: إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به: إذا أكل عنده ودخل الخلاء ونام وصلى) ووقع هذا في نسخة العراقي مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لم أجد له أصلا، وأنت خبير بأنه من قول بعض الصوفية، وهكذا هو في القوت أيضا فتنبه لذلك .

(فذكر ذلك لبعض المشايخ) ولفظ القوت: فذكرت هذه الحكاية لبعض أشياخنا (فقال:) صدق (بقيت) خصلة (خامسة) قلت: ما هي؟ قال: وجامع، فإذا فعل هذا فقد تم أنسه به (وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه ويجامعها؛ لأن البيت يتخذ للاستخفاء في هذه الأمور الخمسة) ولفظ القوت: إن هذه الخمس لأجلها تتخذ البيوت ويقع الاستخفاء لما فيه من التبذل وكشف العورة (وإلا فالمساجد أروح لقلوب المتعبدين) ، ولفظ القوت: ولولاها كانت بيوت الله أروح وأطيب، ففي الأنس بالأخ وارتفاع الحشمة من هذه الخمس مثال حال الأنس بالوحدة بالنفس من غير عيب من عائب ولا ضد لكن من اتفاق جنس وهذا لعمري نهاية الأنس .

(فإذا فعل هذه الخمسة فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط، وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك) ولفظ القوت: وأما الخامسة وهو قول شيخنا: "وجامع" فعله ذلك يصلح أن يستدل له بقول العرب في تسليمهم وترحيبهم (إذ يقولون: مرحبا وأهلا وسهلا؛ أي: لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان) فهو مصدر ميمي بمعنى الرحب (ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة منا ولك عندنا سهولة في ذلك كله أي) يسهل و (لا يشتد علينا شيء مما تريد) فهو سهولة اللقاء وسهولة في الأخلاق من الالتقاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية