إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه فعند ذلك يكون هو خيرا منهم وقال ، أبو معاوية الأسود إخواني كلهم خير مني ، قيل وكيف ذلك قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ومن فضلني على نفسه فهو خير مني . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " المرء على دين خليله ولا " ، خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له .

" فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ .

ولذلك قال سفيان إذا قيل لك يا شر الناس فغضبت فأنت شر الناس أي ينبغي أن تكون معتقدا ذلك في نفسك أبدا .

وسيأتي وجه ذلك في كتاب الكبر والعجب .


[ ص: 243 ] (ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه) في القدر والمقام (ويحسن الظن بهم) في كل حال (ويسيء بنفسه) ويتهمها (فإذا رآهم خيرا من نفسه فعند ذلك يكون خيرا منه) ومن هنا قولهم: سيد القوم خادمهم، فلا تتم السيادة إلا باطراح النفس وترك الترفع على (الإخوان، قال أبو معاوية الأسود) هو من رجال الحلية: قال أبو نعيم في ترجمته: حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد بن الوديع يقول: سمعت أبا معاوية الأسود يقول: (إخواني كلهم خير مني، قيل) له: (وكيف) ذاك يا أبا معاوية؟ (قال: كلهم يرى لي الفضل عليه ومن فضلني على نفسه فهو خير مني .

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وتقدم الكلام عليه، وأما الشطر الثاني فقد رواه أيضا العسكري في الأمثال من طريق سليمان بن عمرو النخعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا ولفظه "المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الخير مثل الذي ترى له" ) وروي أيضا من حديث ليث عن مجاهد قال: كانوا يقولون: لا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له. ولأبي نعيم في الحلية عن سهل بن سعد رفعه: لا تصحبن أحدا إلا يرى لك من الفضل كما ترى له، ورواه ابن حبان في روضة العقلاء لكن بلفظ مجاهد، وشاهده ما ثبت في الأثر بأن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وقال الشاعر:


إن الكريم الذي تبقى مودته يرى لك الفضل إن صافى وإن صرما     ليس الكريم الذي إن زل صاحبه
أفشى وقال عليه كل ما كتما



وأنشد العسكري لأبي العباس المدغول


إذا كنت تأتي المرء تعرف حقه     ويجهل منك الحق فالصرم أوسع
ففي الناس أبدال وفي الأرض مذهب     وفي الناس عمن لا يؤاتيك مقنع
وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه     حقيقا بجدع الأنف والجدع أشنع



(فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ) وهو مقام عامة المؤمنين وفوقه مقام أفضل منه وهو أن لا يرى لنفسه فضلا أصلا وهو مقام الصادقين (ولذلك قال سفيان) الثوري -رحمه الله تعالى- (إذا قيل لك باشر الناس فغضبت) لذلك (فأنت شر الناس) كذا في القوت؛ إذ في رؤية الخيرية في نفسه واتباع هوى الشيطان في التغضب (أي ينبغي أن تكون معتقدا في نفسك ذلك أبدا وسيأتي وجه ذلك في كتاب الكبر والعجب) في ربع المهلكات إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية