إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يكون مع كافة الخلق مستبشرا طلق الوجه رفيقا .

قال صلى الله عليه وسلم : أتدرون على من حرمت النار ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : على اللين الهين السهل القريب .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب السهل الطلق الوجه .

وقال بعضهم : يا رسول الله ، دلني على عمل يدخلني الجنة ، فقال : إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام .

وقال عبد الله بن عمر إن البر شيء هين وجه طليق وكلام لين وقال صلى الله عليه وسلم : اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله قال : لمن ؟ : أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام .

وقال معاذ بن جبل قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح .

وقال أنس رضي الله عنه عرضت لنبي الله صلى الله عليه وسلم امرأة وقالت : لي معك حاجة ، وكان معه ناس من أصحابه فقال اجلسي في أي نواحي السكك شئت أجلس إليك ، ففعلت فجلس إليها حتى قضت حاجتها .

وقال : وهب بن منبه أن رجلا من بني إسرائيل صام سبعين سنة يفطر في كل سبعة أيام فسأل الله تعالى انه يريه كيف يغوي الشيطان الناس فلما طال عليه ذلك ولم يجب قال : لو اطلعت على خطيئتي وذنبي .

بيني وبين ربي لكان خيرا لي من هذا الأمر الذي طلبته فأرسل الله إليه ملكا ، فقال له : إن الله أرسلني إليك وهو يقول لك : إن كلامك هذا الذي تكلمت به أحب إلي مما مضى من عبادتك ، وقد فتح الله بصرك فانظر ، فنظر فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض وإذا ليس أحد من الناس إلا والشياطين حوله كالذئاب فقال : أي رب من ينجو من هذا قال ؟ : الورع اللين .


(ومنها أن يكون مع كافة الخلق مستبشرا طلق الوجه) سهل الخلق لين العريكة (رفيقا) أي: صاحب رق وشفقة (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتدرون على من حرمت النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:) حرمت (على الهين اللين السهل القريب) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث ابن مسعود ولم يقل: اللين، ذكرها الخرائطي من رواية محمد بن أبي معيقيب عن أبيه قال الترمذي: حسن غريب. اهـ. قلت: ورواه أيضا كرواية الخرائطي الطبراني في الكبير وفي الأوسط وفي رواية لابن مسعود "حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس".

(وقال أبو هريرة) [ ص: 261 ] -رضي الله عنه- (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يحب السهل) في أمور الدنيا والدين (الطليق) وفي رواية: الطلق، قال أبو زيد: رجل طليق الوجه متهلل بسام، وقال غيره: رجل طلق الوجه وطليقه؛ بمعنى قال العراقي: رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف، ورواه مورق العجلي مرسلا. اهـ. قلت: وكذلك رواه الشيرازي في الألقاب والديلمي وفي سند البيهقي أحمد بن عبد الجبار، أورده الذهبي في الضعفاء وقال: مختلف فيه وحديثه مستقيم، وجويبر البلخي قال الدارقطني وغيره: متروك .

(وقال بعضهم: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: إن من موجبات المغفرة) أي: من أسباب ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها (بذل السلام) أي: إفشاءه بين الناس (وحسن الكلام) أي: إلانته القول لإخوانه واستعطافهم على منهج المداراة .

قال العراقي: رواه ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له والبيهقي في شعب الإيمان من حديث هانئ بن يزيد بإسناد جيد. اهـ .

قلت: هو هانئ بن يزيد المذحجي ابن شريح له وفادة وهو جد يزيد بن القولم بن شريح، نزل الكوفة وهو الذي قال: دلني يا رسول الله، الخ. روى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي، وقد وقع هنا للمناوي في شرح الجامع أوهام فإنه قال: هانئ بن يزيد ابن شريح الأنصاري الأوسي الذي شهد بدرا والمشاهد كلها روى له البخاري حديثا واحدا. اهـ .

قلت: لم يشهد بدرا ولا المشاهد وإنما له وفادة وليس هو من الأوس ولا من أهل المدينة، وأوهم قوله: روى له البخاري .. إلخ أنه روى له في الصحيح وليس كذلك بل روى له في الأدب المفرد، ثم قال نقلا عن الهيثمي فيه أبو عبيدة بن عبيد الله الأشجعي روى له أحمد ولم يضعفه وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ .

وهو ذهول؛ فإن الأشجعي هذا من رجال الصحيحين. اهـ .

قلت: وقع له تحريف في والد أبي عبيدة ووهم في تعينه وكونه من رجال الصحيح، فإن الأشجعي هذا هو أبو عبيدة بن عبيد الله بن عبيد الرحمن بالتصغير فيهما، ويقال: اسمه عباد ولكنه مشهور بكنيته، وهو من رجال أبي داود وليس من رجال الصحيح، وهو مقبول من طبقة أتباع التابعين، والعجب من الشيخ كيف ذهل وعنده كتب الفن .

(وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) فيما يروى عنه (البر شيء هين وجه طليق وكلام لين) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، وسيأتي في آفات اللسان، وقد نظمه بعضهم فقال:


بني إن البر شيء هين وجه طليق وكلام لين



ويروى: المنطق اللين والطعيم (وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) متفق عليه من حديث عدي بن حاتم، وقد تقدم مشروحا مفصلا في كتاب الزكاة (وقال -صلى الله عليه وسلم-: إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها) أي: شفافة لا تحجب ما وراءها (فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام) أي: ألانه مع إخوانه (وأطعم الطعام) أي: للفقراء والأضياف والإخوان (وصلى بالليل والناس نيام) يعني: تهجد، قال العراقي: رواه الترمذي من حديث علي، وقال: حديث غريب، قلت: وهو ضعيف. اهـ .

قلت: لفظ الترمذي بعد قوله: غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق وقد تكلم فيه من قبل حفظه. اهـ. أي: فضعفه من قبله .

وقد رواه أيضا أحمد وابن حبان والبيهقي من حديث أبي مالك الأشعري وقال البيهقي: رجال أحمد رجال الصحيح، ثم إن لفظ الحديث عندهم "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام"، وفي رواية "واصل" وفي أخرى: "وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام" زاد البيهقي في روايته: قيل: يا رسول الله، وما إطعام الطعام؟ قال: من قات عياله، قيل: وما واصل الصيام؟ قال: من صام رمضان ثم أدرك رمضان فصامه، قيل: وما إفشاء السلام؟ قال: مصافحة أخيك، قيل: وما الصلاة والناس نيام؟ قال: صلاة العشاء الآخرة" اهـ. وهو وإن ضعفه ابن عدي لكن أقام له ابن القيم شواهد يعتد بها، ومع ملاحظته لا يمكن التعبير بغيره، والله أعلم .

(وقال معاذ بن جبل) -رضي الله عنه- (قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوصيك) يا معاذ (بتقوى الله تعالى وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم [ ص: 262 ] ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح) .

قال العراقي: رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في كتاب الزهد وأبو نعيم في الحلية ولم يقل البيهقي: "وخفض الجناح" وإسناده ضعيف. اهـ .

قلت: قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا إبراهيم ابن عيينة، عن إسماعيل بن رافع عن ثعلبة بن صالح عن رجل من أهل الشام عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا معاذ، انطلق فارحل راحلتك ثم ائتني أبعثك إلى اليمن، فانطلقت فرحلت راحلتي ثم جئت فوقفت بباب المسجد حتى أذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيدي ثم مضى معي فقال: "يا معاذ إني أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ورحم اليتيم وحفظ الجار وكظم الغيظ وخفض الجناح وبذل السلام ولين الكلام ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وقصر الأمل وحسن العمل وإياك أن تشتم مسلما أو تكذب صادقا أو تعصي إماما عادلا، يا معاذ اذكر الله عند كل حجر وشجر وأحدث مع كل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية". رواه ابن عمر نحوه .

وأخبرناه الحسن بن منصور الحمصي في كتابه، حدثنا الحسن بن معروف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثنا أبي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يبعث معاذا إلى اليمن ركب معاذ ورسول الله يمشي إلى جانبه يوصيه فقال: "يا معاذ، أوصيك وصية الأخ الشفيق أوصيك بتقوى الله" وذكر نحوه، وزاد "وعد المريض وأسرع في حوائج الأرامل والضعفاء وجالس الفقراء والمساكين وأنصف الناس من نفسك وقل الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم".

(وقال أنس) -رضي الله عنه- (عرضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة) كان في عقلها شيء (وقالت: لي معك حاجة، وكان معه ناس من أصحابه فقال) لها: (اجلسي في أي نواحي السكك) أي: سكك المدينة (شئت أجلس إليك، ففعلت فجلس إليها حتى قضى حاجتها) رواه مسلم في صحيحه وقال: حتى أقضي حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت حاجتها .

(وقال: وهب بن منبه) اليماني -رحمه الله تعالى- (إن رجلا من بني إسرائيل) أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا محمد بن سهل بن عسكر حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن رجلا من بني إسرائيل (صام سبعين سنة) ولفظ الحلية سبعين أسبوعا (يفطر كل سبعة أيام) يوما (فسأل الله) ولفظ الحلية وهو يسأل الله تعالى (أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس فلما طالت عليه ذلك) ولفظ الحلية: فلما أن طال ذلك عليه (ولم يجب قال: لو اطلعت) ولفظ الحلية: لو أقبلت (على خطيئتي و) على (ذنبي بيني وبين ربي لكان خيرا من هذا الأمر الذي طلبته) ولفظ الحلية: أطلب (فأرسل الله تعالى إليه ملكا، فقال له: إن الله -عز وجل- أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد فتح الله بصرك فانظر، قال: فنظر فإذا جنود إبليس لعنه الله) ولفظ الحلية: فإذا أحبولة إبليس (قد أحاطت بالأرض وإذا ليس أحد من الناس إلا والشياطين حوله كالذبان) جمع ذباب، ولفظ الحلية: "وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب" (فقال: أي رب من ينجو من هذا؟ فقال: الورع اللين) ولفظ الحلية: الوارع اللين .

التالي السابق


الخدمات العلمية