إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفائدة الثانية:

التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها .

غالبا بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة وهي أربعة : الغيبة والنميمة والرياء والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا .

أما الغيبة فإذا عرفت من كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلا الصديقون .

فإن عادة الناس كافة التمضمض بأعراض الناس والتفكه بها والتنفل بحلاوتها وهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستروحون من وحشتهم في الخلوة .

فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى وإن سكت كنت شريكا والمستمع أحد المغتابين وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى غيبة وربما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الاستخفاف والشتم .

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع ومن خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله به وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر إذ ربما يجره طلب الخلاص عنها إلى معاص هي أكبر مما نهى عنه ابتداء .

وفي العزلة خلاص من هذا ؛ فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق .

وقد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيبا وقال أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب .

وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الله ليسأل : العبد حتى يقول له : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله العبد حجته قال : يا رب رجوتك وخفت الناس .

وهذا إذا خاف من ضرب أو أمر لا يطاق ومعرفة حدود ذلك مشكلة وفيه خطر .

وفي العزلة خلاص وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إثارة للخصومات وتحريك لغوائل الصدور كما قيل:


وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح

ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالبا فإنه كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه فإذا سقط عليه يقول يا : ليتني تركته مائلا .

نعم لو وجد أعوانا أمسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان فدعهم وانج بنفسك .

وأما الرياء فهو الداء العضال الذي يعسر على الأبدال والأوتاد الاحتراز عنه .


(الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة والمعاشرة ويسلم منها في الخلوة) عنهم .

(وهي أربعة: الغيبة والرياء والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا) أي: التكالب على تحصيلها (أما الغيبة فإذا عرفت في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرر عنها مع المخالطة)أمر (عظيم لا ينجو منها إلا الصديقون) ومن عصمه الله تعالى من غيرهم (فإن عادة الناس) المستمرة في كل زمان (التمضمض بأعراض الناس) أي: إدارة اللسان بها (والتفكه بها) أي: جعلها كالفاكهة في لسانهم (والتنقل بحلاوتها فهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستريحون من وحشتهم في الخلوة) كأنهم يستأنسون بها مع الأحباب (فإن خالطتهم) وعاشرتهم (ووافقتهم) فيها فقد (أثمت) أي: وقعت في الإثم (وتعرضت لسخط الله (وغضبه (وإن سكت) ولم تفاوضهم فيها (كنت شريكا) لهم (والمستمع أحد المغتابين) كما ورد الخبر (وإن أنكرت) ما يقولون (أبغضوك) وجفوك (وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة وربما ازدادوا على الغيبة وانتهوا إلى الاستخفاف والشتم) والأذى الحاضر باليد .

(وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب) بشروط (كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع) أي: ربع العادات (إن شاء الله تعالى) على وجه التفصيل (ومن خالط الناس) في مجالسهم (فلا يخلو من مشاهدة المنكرات) الشرعية والعرفية (فإن سكت) عن الإنكار عليها (عصى الله به) أي: بسكوته (وإن أنكر) كما أمر (تعرض لأنواع) شتى (من الضرر) الحاصل في الحال والمآل (وربما يجره طلبه الخلاص منها إلى) ارتكاب معاص (أكثر مما هي عليه) وفي نسخة هي أكبر مما نهي عنه (ابتداء، وفي العزلة) عن الناس (خلاص منه؛ فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق) أي: ذو مشقة .

(وقد قام أبو بكر -رضي الله عنه- خطيبا) على المنبر (وقال) وعن قيس بن أبي حازم قال: لما ولي أبو بكر صعد المنبر فحمد الله ثم قال: (يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية) وهي في سورة المائدة ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإنكم تضعونها في غير موضعها) وفي نسخة على غير مواضعها (وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا رأى الناس المنكر) وفي لفظ: إن الناس إذا رأوا المنكر (فلم يغيروه) وفي لفظ: ولا يغيرونه (أوشك أن يعمهم الله بعقاب) .

قال العراقي: رواه أصحاب السنن قال الترمذي: حسن صحيح اهـ .

قلت: ورواه أيضا بهذا السياق أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف وأحمد وعبد بن حميد والعوفي وابن منيع والحميدي في مسانيدهم وأبو يعلى والكجي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني في الأفراد وابن منده في غرائب شعبة وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو ذر الهروي في الجامع وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة، كلهم من حديث قيس بن أبي حازم وقال الدارقطني في العلل: جميع رواته ثقات وفي لفظ لابن جرير: صعد أبو بكر منبر [ ص: 346 ] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشد منها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعقاب. وقال البزار في مسنده: حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت أبا بكر الصديق -رحمه الله- يقول: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن أمتي إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب.

قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ إلا عن أبي بكر عنه، وقد أسند هذا الحديث جماعة عن أبي بكر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ووافقه جماعة، فكان ممن أسنده شعبة وزائدة بن قدامة والمعتمر بن سليمان ويزيد بن هارون وغيرهم .

فأما حديث شعبة فحدثناه محمد بن معتمر، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة عن إسماعيل بن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما حديث زائدة فحدثناه محمد بن المثنى، حدثنا روح عن زائدة عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو حديث المعتمر، وأسنده شعبة عن معاذ بن جبل وروح بن عبادة وعثمان بن عمر ورواه بيان عن قيس عن أبي بكر موقوفا .

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يسأل العبد) أي: يوم وقوفه بين يديه (حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر في الدنيا أن تغيره) بيدك أو بلسانك (فإذا لقن الله العبد حجته فيقول: يا رب رجوتك وخفت الناس) .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد جيد (وهذا إذا خاف) الناس (من ضرب أوامر لا يطاق) كقلع عضو وغيره ممن له ولاية ذلك (ومعرفة حدود ذلك مشكل وفيه خطر) عظيم (وفي العزلة خلاص) من ذلك (وفي الأمر بالمعروف إثارة الخصومات) وتهييج الشر (وتحريك لغوائل الصدور) المستجنة (كما قيل:


وكم سقيت آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح



ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالبا فإنه) في المثال (كجدار مائل) إلى السقوط (يريد الإنسان أن يقيمه) عن ميلانه (فيوشك أن يسقط عليه فإذا سقط عليه فيقول: ليتني تركته مائلا) وما لي ولإقامته؟! وهذا حيث لا ينفعه الندم (نعم لو وجد أعوانا) أي: أنصارا (أمسكوا الحائط) وشدوه بأخشاب وحبال (حتى يحكمه) أي: يثبته (بدعامة) من حجارة أو خشب (استقام) أي: استوى قائما (وأنت اليوم لا تجد الأعوان) قط (فدعهم) ودع الحائط (وانج بنفسك) فهو أولى الأحوال بك (وأما الرياء فهو الداء العضال) أي: المشكل مداواته (الذي يعسر على) طائفة (الأبدال والأوتاد الاحتراز عنه) فكيف بغيرهم، أما الأبدال فقد تقدم ذكرهم، والأوتاد أربعة في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون قال الشيخ الأكبر قدس سره: رأيت منهم رجلا بمدينة فاس بنخل الحناء بالأجرة اسمه ابن جعدون أحدهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه والآخر المغرب والجنوب والآخر الشمال ويعبر عنهم بالجبال، فحكمهم في العالم حكم الجبال في الأرض، وألقابهم في كل زمن عبد الحي وعبد المريد وعبد العليم وعبد القادر .

التالي السابق


الخدمات العلمية