إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين على حسب جاهه ومنزلته عند الله تعالى ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل الله عز وجل فلا يخلد في النار مؤمن ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان .

.


(وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (ثم العلماء ثم الشهداء) هكذا أخرج ابن ماجه من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- رفعه، وفيه: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"، وقد تقدم في كتاب العلم، واعلم أن الشفاعة لغة: الوسيلة والطلب، وعرفا: سؤال الخير للغير.

وهنا واجبات ثلاثة يتعين اعتقادها على كل مكلف:

الأول: كونه -صلى الله عليه وسلم- شافعا .

والثاني: كونه -صلى الله عليه وسلم- مشفعا، أي: مقبول الشفاعة .

والثالث: كونه -صلى الله عليه وسلم- مقدما على غيره من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة .

فيتعين اعتقاد أنه -صلى الله عليه وسلم- وإن كان له شفاعات إلا أن أعظمها شفاعته -صلى الله عليه وسلم- المختصة به؛ للإراحة من طول الموقف، وهي أول المقام المحمود، ثانيها: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهي مختصة به -صلى الله عليه وسلم- كما قاله النووي، ثالثها: فيمن استحق دخول النار ألا يدخلها، وتردد النووي في اختصاصها به -صلى الله عليه وسلم-، قال السبكي: لأنه لم يرد نص صريح بثبوت الاختصاص، ولا بنفيه، رابعها: في إخراج الموحدين من النار، ويشاركه في هذه الأنبياء والملائكة والمؤمنون، وفصل القاضي عياض فقال: إن كانت هذه الشفاعة لإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان اختصت به -صلى الله عليه وسلم- وإلا شاركه غيره فيها، خامسها: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وجوز النووي اختصاصها به - صلى الله عليه وسلم- سادسها: في جماعة من صلحاء أمته ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات، سابعها: فيمن دخل في النار من الكفار أن يخفف عنهم العذاب في أوقات مخصوصة، كما في حق أبي طالب وأبي لهب، ثامنها: في أطفال المشركين ألا يعذبوا، ذكره الجلال السيوطي .

وإياك واعتقاد امتناع شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في أهل الكبائر وغيرهم، لا قبل دخولهم النار، ولا بعده .

ومما يجب اعتقاده شفاعة غيره - صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء والمرسلين والملائكة (ثم سائر المؤمنين) ، يشفع (كل على حسب جاهه وقدر منزلته) ومقامه (عند الله تعالى) في أرباب الكبائر، كما جاء في الأخبار الدالة على ذلك (ومن بقي من المؤمنين) في النار (ولم يكن له شفيع) خاصة (أخرج بفضل الله عز وجل) ، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد: "فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط"، الحديث .

(فلا يخلد في النار مؤمن، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"، وفي رواية: "من خردل من خير"، وقد استنبط المصنف من قوله: "أخرجوا من كان.. إلخ"، نجاة من أيقن بالإيمان، وحال بينه وبين النطق به الموت، قال: وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فلا يخلد في النار، ويحتمل خلافه، ورجح غيره الثاني؛ فيحتاج إلى تأويل، ثم ينبغي أن يعلم أنه لا يشفع واحد ممن ذكر إلا بعد انتهاء مدة المؤاخذة .

(تنبيه)

هذه الأمور السمعية التي تقدم بيانها يتحد فيها المتكلم والصوفي والمحدث، إذ مباديها هو النقل، إذ النظر إنما هو في وقوعها، وأما جوازها فضروري، والعقل لا يهتدي إلى وقوع جائز، فاضطروا جميعا إلى السمع، وإن كان الصوفي يزيد عليهما بالكشف، إلا أن الكشف قاصر حكمه عليه؛ فلا يتعدى العلم المستفاد منه إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية