إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة .

وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به فلا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت .

وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فلا يزيل الموت أنسه؛ إذ لا يهدم الموت محل الأنس والمعرفة بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله عليه ورحمته كما قال الله تعالى في الشهداء؛ : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله وكل متجرد لله في جهاد نفسه فهو شهيد مهما أدركه الموت مقبلا غير مدبر فالمجاهد من جاهد نفسه وهواه .

كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والجهاد الأكبر جهاد النفس كما قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر يعنون جهاد النفس .

تم كتاب العزلة ويتلوه كتاب آداب السفر والحمد لله وحده .


(وليكن) المعتزل (كثير الذكر للموت ووحدة القبر مهما ضاق قلبه عن الوحدة) عن الناس بأنه سيموت ويضطجع في القبر طويلا متوحدا لا أنيس به إلا صالح عمله، فإذا ذكر ذلك وجعله في باله هان عليه أمر العزلة وطاب وقته واصطلح أمره (وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله تعالى ومعرفته ما يأنس به فلا يطيق الوحشة بعد الموت، وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فلا يزيل الموت أنسه؛ إذ لا يهدم الموت محل الأنس والمعرفة بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله تعالى) .

فالأنس بالله هو النافع وهو ثمرة المعرفة؛ إذ لا يحصل قبلها وقد يحصل له الأنس بالخلوة فيتوهم أنه الأنس بالله وليس كذلك، قال يحيى بن معاذ الرازي: انظر أنسك بالخلوة، فإن كان الأنس بالخلوة ذهب أنسك إذا خرجت منها، وإن كان أنسك به في الخلوة استوت بك الأماكن في الصحاري والبراري (كما قال تعالى في) حق (الشهداء؛ إذ قال: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله وكل متجرد) عن الدنيا (لله) تعالى (في جهاد نفسه) في تبديل الذمائم (فهو شهيد مهما أدركه الموت مقبلا غير مدبر) كارا غير فار، فالآية وإن كانت خاصة في شهداء المعركة فشهداء المحبة لهم [ ص: 379 ] حكم شهداء المعركة بشرط الإقبال وعدم الأدبار (فالمجاهد) ليس هو من جاهد الكفار بسيفه وسنانه فقط بل هو أيضا (من جاهد نفسه وهواه) بأن أماته بسيف تأديبه (كما صرح به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) .

قال العراقي: رواه الحاكم من حديث فضالة بن عبيد وصححه دون قوله: وهواه، وقد تقدم في الباب الثالث من آداب الصحبة اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد والترمذي وابن حبان والطبراني والقضاعي كلهم من حديث عمرو بن مالك الحنفي عن فضالة، ولفظهم جميعا: المجاهد من جاهد نفسه، وفي رواية بزيادة: في ذات الله، وفي الباب عن جابر بن عقبة بن عامر (والجهاد الأكبر جهاد النفس كما قال الصحابة -رضي الله عنهم-: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) والمراد بجهاد النفس قهرها على ما فيه رضا الله تعالى من فعل الطاعات وتجنب المخالفات، وسمي الأكبر؛ لأنه من لم يجاهدها لم يمكنه جهاد العدو الخارج، وكيف يمكنه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه وما لم يجاهد نفسه على الخروج لعدوه لا يمكنه الخروج له؛ فجهاد العدو الخارج بالنسبة إلى جهاد العدو الباطن أصغر .

(فصل)

قال الأستاذ أبو قاسم القشيري في رسالته: الخلوة صفة أهل الصفوة والعزلة من أمارات الوصلة، ولا بد للمريد في ابتداء حاله من العزلة عن أبناء جنسه ثم في نهايته من التحقق بأنسه، والعزلة في الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة والتأثير لتبديل الصفات لا للتنائي عن الأوطان؛ ولهذا قيل: من العارف؟ قالوا: كائن بائن، يعني: كائنا مع الخلق بائنا عنهم بالسر .

سمعت الأستاذ أبا علي يقول: البس ما يلبسون وتناول ما يأكلون وانفرد عنهم بالسر، وسمعته يقول: جاءني وقال: جئتك من مسافة بعيدة، فقلت: ليس هذا الحديث من حديث قطع المسافات ومسافات الأسفار ففارق نفسك بخطوة وقد حصل مقصودك .

وقيل: الانفراد بالخلوة أجمع لدواعي السلوة. سمعت محمد بن الحسين سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الوراق، فلما أراد أن يرجع قال: أوصني فقال: وجدت خير الدنيا والآخرة في الخلوة والقلة، وشرهما في الكثرة والاختلاط. وسئل الجريري عن العزلة فقال: هي الدخول بين الزحام وتحفظ سرك أن لا يزحموك فيه، وتعزل نفسك عن الأنام ويكون سرك مربوطا بالحق .

وقيل: من آثر العزلة حصل العزلة. وقال سهل: لا تصح العزلة إلا بأكل الحلال ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق الله تعالى، وقال ذو النون: لم أر شيئا أبعث في الإخلاص من الخلوة، وقال أبو عبد الله البرمكي: ليكن خدنك الخلوة وطعامك الجوع وحديثك المناجاة، فإما أن تموت بذلك أو تصل إلى الله تعالى، وقال ذو النون: ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله تعالى، وقال الجنيد: مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة، وقال مكحول: إن كان في مخالطة الناس أنس، فإن في العزلة السلامة، وقال يحيى بن معاذ: الوحدة جليس الصديقين، وقال شعيب ابن حرب: دخلت على مالك بن مغول بالكوفة وهو في داره وحده، فقلت له: ما تستوحش وحدك؟ فقال: ما كنت أرى أن أحدا يستوحش من الله تعالى.

وقال الجنيد: من أراد أن يسلم ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة. وقال أبو العباس الدامغاني: أوصاني الشبلي وقال: الزم الوحدة وامح اسمك عن القوم واستقبل الجدار حتى تموت. وجاء رجل إلى شعيب ابن حرب فقال: ما جاء بك؟ قال: أكون معك، قال: يا أخي العبادة لا تكون بالشركة، ومن يأتنس بالله لم يأتنس بشيء.

وقيل لبعضهم: ما هنا أحد تستأنس به؟ فقال: نعم؛ ومد يده إلى مصحف في حجره، وقال: هذا، وفي معناه أنشدوا:


وكتبك حولي ما تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم



وقال رجل لذي النون: متى تصح العزلة؟ فقال: إذا قويت على عزلة النفس، وقيل لابن المبارك: ما وراء القلب؟ قال: قلة الملاقاة للناس، وقيل: إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة، وبصر عيوب نفسه؛ فمن أعطي ذلك فقد أعطي خير الدنيا والآخرة.

(فصل)

وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثمانين من الفتوحات في العزلة: [ ص: 380 ]

إذا اعتزلت فلا تركن إلى أحد ولا تعرج على أهل ولا ولد     ولا توال إذا وليت منزلة
وغب عن الشرك والتوحيد بالأحد     وافزع إلى طلب العلياء منفردا
بغير فكر ولا نفس ولا جسد     وسابق الهمة العلياء تحظ بمن
سما بأسمائه الحسنى بلا عدد     واعلم بأنك محبوس ومكتنف
بالنور حبسا جليا لا إلى أمد



فلا يعتزل إلا من عرف نفسه، وكل من عرف نفسه عرف ربه، فليس له شهود إلا الله من حيث أسماؤه الحسنى وتخلقه بها ظاهرا أو باطنا، وأسماؤه الحسنى على قسمين: أسماء يقبلها العقل ويثبتها ويسمى بها الله تعالى، وأسماء أيضا إلهية لولا ورود الشرع ما قبلها فيقبلها إيمانا ولا يعقلها من حيث ذاته إلا إن أعلمه الحق بحقيقة نسبة تلك الأسماء إليه، فصاحب العزلة هو الذي يعتزل بما هو له من ربه من غير تخلق؛ فمن رأى التخلق بها فلا بد أن يظهر بها على الحد المشروع .

ولما رأى هذا المعتزل مزاحمة الحق في النعوت التي ينبغي أن تكون للعبد كما هي في نفس الأمر عنده قال: الأليق في أن أعتزل بأسماء ولا أزاحمه فيما يكون عارية عندي؛ إذ كانت العارية أمانة مؤداة، فاعتزل صاحب هذا النظر التخلق بالأسماء الحسنى وانفرد بفقره وذله وعجزه وقصوره وجهله في بيته، كلما قرع عليه الباب اسم إلهي قيل له ما هنا من يكلمك، فإذا انقدح له بهذا الاعتزال أن الله أزلي الوجود، فإما أن يعتزل عن الجميع وإما أن يتسمى بالجميع، فقلنا له اعتزل عن الجميع واترك الحق إن شاء سماك بالأسماء كلها فاقبلها ولا تعرض وإن شاء سماك ببعضها وإن شاء لم يسمك ولا بواحد منها. لله الأمر من قبل ومن بعد، فرجع العبد إلى خصوصيته التي هي العبودية فتحلى بها، وقعد في بيته ينتظر تصريف الحق فيه وهو معتزل عن التدبر في ذلك؛ فإن تسمى من هذه حالته بأي اسم كان فالله مسميه ما تسمى وليس له رد ما سماه به فتلك الأسماء هي خلع الحق على عباده، وهي خلع تشريف فمن الأدب قبولها؛ لأنها جاءته من غير سؤال ولا استشراف ووقف عند ذلك على أنه كان عاصيا لله فيما كان يزعم أنه له فإذا هو لله وهو قوله تعالى: وإليه يرجع الأمر كله فأخذ منه جميع ما كان يزعم إلا العبادة فإنه لا يأخذها إذ كانت ليست بصفة له تعالى؛ لما مال إليه وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وهو أصله الذي خلق لأجله فقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة اسم حقيقي، فهي ذاته ومواطنه وحاله وعينه ونفسه وحقيقته ووجهه، فمن اعتزل هذه العزلة فهي عزلة العلماء بالله لا هجران الخلائق ولا غلق الأبواب، وملازمة البيوت، وهي العزلة التي عند الناس أن يلزم الإنسان بيته ولا يعاشر ولا يخالط ويطلب السلامة ما استطاع بعزلته ليسلم من الناس ويسلم الناس منه؛ فهذا طلب عامة أهل الطريق بالعزلة.

ثم إن ارتقى إلى طور أعلى من هذا فيجعل عزلته رياضة بين يدي خلوته لتأليف النفس قطع المألوفات من الأنس بالخلوة؛ فإنه يرى الأنس بالخلوة من العلائق الحائلة بينه وبين مطلوبه من الأنس بالله والانفراد به، فإذا انتقل من العزلة بعد إحكامه شرائطها سهل عليه أمر الخلوة، هذا سبب العزلة عند خاصة أهل الله، فهذه العزلة نسبته لا مقام، والعزلة الأولى التي ذكرناها مقام مطلوب؛ ولذا جعلناها في المقامات من هذا الكتاب، وإذا كانت مقاما فهي من المقامات المستصحبة في الدنيا والآخرة وللعارفين من أهل الأنس .

والوصول في العزلة من الدرجة خمسمائة درجة وثمانية وثلاثون وللعارفين الأدباء الواقفين مائة وثلاثة وأربعون درجة للملامتية فيها من أهل الأنس خمسمائة درجة وسبع درجات وللملامتية من أهل الأدب الواقفين معهم مائة واثنتا عشرة درجة .

والعزلة المعهودة في عموم أهل الله من المقامات المقيدة بشرط لا يكون إلا به وهي نسبة في التحقيق لا مقام، وهذا كله في عزلة العموم وهي من عالم الجبروت والملكوت ما لها قدم في عالم الشهادة فلا تتعلق معارفها بشيء من عالم الملك .

ثم قال بعده في الباب الذي بعده وهو الحادي والثمانون في ترك العزلة: اعلم أيدنا الله وإياك لما كان مثير العزلة خوف القواطع في الوصلة [ ص: 381 ] بالجناب الإلهي أو رجاء الوصلة بالعزلة لما كان في حجاب نفسه وظلمة كونه وحقيقة ذاته يبعثها على طلب الوصلة ما هي عليه من الصورة الإلهية كما يطلب الرحم الوصلة بالرحمن لما كانت شجنة منه .

ثم إن العبد رأى ارتباط الكون بالله ارتباطا لا يمكن الانفكاك عنه لأنه وصف ذاتي له وتجلى له في هذا الارتباط، وعرف من هذا التجلي وجوبه به، وأنه لا يثبت لمطلوبه هذه الرتبة إلا به، وأنه بسرها الذي لو بطل بطلت الربوبية فلم يتمكن له الاعتزال فتأدب مع قوله مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فالنور العلمي منفر ظلمة الجهل من النفس، فإذا أضاءت ذات النفس أبصرت ارتباطها بربها في كونها وكون كل كون فلم تر عمن تعزل اهـ .

مع اختصار وحذف ما لا يحتاج إليه في المقام، وبه تم شرح كتاب العزلة، وكان ذلك عند أذان عصر يوم السبت ثامن عشر من شعبان من شهور سنة 1199 على يد مؤلفه العبد الفقير المضطر أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني، غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وأعانه بمنه مع إكمال بقية الكتاب إنه كريم جواد وهاب، والحمد لله رب العالمين على حال وحين، وصلواته وسلامه على حبيبه محمد وآله وصحبه أجمعين، آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية