إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكل مذكور في العلم محصل له من زمان الصحابة إلى زماننا هذا لم يحصل العلم إلا بالسفر وسافر لأجله وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك أيضا مهم ، فإن طريق الآخرة لا يمكن سلوكها إلا بتحسين الخلق وتهذيبه ومن لا يطلع على أسرار باطنه وخبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها .

وإنما السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال وبه يخرج الله الخبء في السماوات والأرض وإنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق ولذلك قال عمر رضي الله عنه للذي زكى عنده بعض الشهود هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه ؟ فقال : لا ، فقال : ما أراك تعرفه .

وكان بشر يقول : يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب ، وإذا طال مقامه في موضع تغير .

وبالجملة فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة فإذا حملت وعثاء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعتادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها .


(وقل مذكور في العلم محصل) أي: ذو تحصيل (من زمان الصحابة إلى زماننا) هذا (إلا وحصل العلم بالسفر وسافر لأجله) وفي بعض النسخ: وكل مذكور في العلم محصل من زمان الصحابة إلى زمننا لم يحصل العلم إلا بالسفر وسافر لأجله، (وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك أيضا مهم، فإن طريق الآخرة لا يمكن سلوكه إلا بتحسين الخلق وتهذيبه) وتصفيته عن المذام، (ومن لا يطلع على أسرار باطنه وخبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها، وإنما السفر هو الذي يسفر عن الأخلاق) أي: يوضحها ويكشف عنها (وبه يخرج الله الخبء في السموات والأرض) ولفظ القوت: فيكون للمسافر في ذلك علوم وبصائر يعرف بها خفايا نفسه ومكامنها ويكون هذا من خبء الأرض الذي يخرجه الله -عز وجل- لمحبيه متى شاء، كما قال -جل وعلا- يخرج الخبء في السماوات والأرض .

(و) قيل (إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق) وفي القوت: عن أخلاق الناس قال: وأيضا يسفر عن آيات الله وقدره وحكمه في أرضه؛ (ولذلك قال عمر -رضي الله عنه- للذي كان يعرف عنده بعض الشهود) أي: يزكي عنده رجلا من الشهود ليقبل شهادته فقال: (هل في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا، فقال: ما أراك تعرفه) هكذا أورده هنا مختصرا تبعا لصاحب القوت، وقد تقدم له في كتاب آداب الصحبة بطوله وأخرجه الإسماعيلي في مناقب عمر مطولا .

(وكان) أبو نصر (بشر) ابن الحارث (الحافي) قدس سره (يقول: يا معشر القراء) يعني بهم العلماء (سيحوا في الأرض) أي: سافروا فيها (تطيبوا) أي: يطيب عيشكم (إن الماء إذا ساح) أي: جرى على وجه الأرض (طاب، وإذا طال مقامه في موضع تغير) ، ولفظ القوت: فإن الماء إذا كثر مقامه في موضع تغير، (وبالجملة فإن النفس في [ ص: 386 ] الوطن لا تظهر خبائث أخلاقها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة فإذا حملت وعثاء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعتادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها) ولفظ القوت: فلتكن نية هذا المسافر استصلاح قلبه ورياضة نفسه واستكشاف حاله وامتحان أوصافه; لأن النفس إنما أظهرت الإذعان والانقياد في الحضر، وربما استكانت وأجابت في المصر، فإذا وقعت عليها أثقال الأسفار ولزمتها حقائق الاستخبار وخرجت من مقاد ذلك المعيار فأسفرت حقيقتها وانكشفت دواعيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية