إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فذلك يضاهي النظر في أن الأفضل هو العزلة أو المخالطة .

، وقد ذكر منهاجه في كتاب العزلة فليفهم هذا منه فإن السفر نوع مخالطة مع زيادة تعب ومشقة تفرق الهم وتشتت القلب في حق الأكثرين .

والأفضل في هذا ما هو الأعون على الدين ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة الله تعالى وتحصيل الأنس بذكر الله تعالى ، والأنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر .

ومن لم يتعلم طريق الفكر والذكر لم يتمكن منهما .

والسفر هو المعين على التعلم في الابتداء .

والإقامة هي المعينة على العمل بالعلم في الانتهاء
وأما ، السياحة في الأرض على الدوام فمن المشوشات للقلب إلا في حق الأقوياء فإن المسافر وماله لعلى قلق إلا ما وقى الله فلا يزال المسافر مشغول القلب تارة بالخوف على نفسه وماله وتارة بمفارقة ما ألفه واعتاده في إقامته .

وإن لم يكن معه مال يخاف عليه فلا يخلو عن الطمع والاستشراف إلى الخلق فتارة يضعف قلبه بسبب الفقر وتارة يقوى باستحكام أسباب الطمع .

ثم الشغل بالحط والترحال مشوش لجميع الأحوال فلا ينبغي أن يسافر المريد إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به في سيرته وتستفاد الرغبة في الخير من مشاهدته فإن اشتغل بنفسه واستبصر وانفتح له طريق الفكر أو العمل فالسكون أولى به إلا أن أكثر متصوفة هذه الأعصار لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى وبذكره في الخلوة وكانوا بطالين غير محترفين ولا مشغولين قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد واستسخروا الخدم المنتصبين للقيام بخدمة القوم واستخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعللا بكثرة الأتباع فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم نافذ ولا تأديب للمريدين نافع ولا حجر عليهم قاهر فلبسوا المرقعات واتخذوا في الخانقاهات متنزهات وربما تلقفوا ألفاظا مزخرفة من أهل الطامات فينظرون إلى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في خرقتهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وعبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم فيظنون بأنفسهم خيرا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ويعتقدون أن كل سوداء تمرة ويتوهمون أن المشاركة في الظاهر توجب المساهمة في الحقائق وهيهات فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم فهؤلاء بغضاء الله فإن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ .

ولم يحملهم على السياحة إلا الشباب والفراغ إلا من سافر لحج أو عمرة في غير رياء ولا سمعة أو سافر لمشاهدة شيخ يقتدى به في علمه وسيرته ، وقد خلت البلاد عنه الآن .

والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت إلا التصوف فإنه قد انمحق بالكلية وبطل لأن العلوم لم تندرس بعد والعالم وإن كان عالم سوء فإنما فساده في سيرته لا في علمه فيبقى عالما غير عامل بعلمه والعمل غير العلم .


(وأما النظر في أن السفر هو الأفضل [ ص: 394 ] أو الإقامة) في الوطن هو الأفضل (فذلك يضاهي النظر في أن الأفضل هو العزلة والمخالطة، وقد ذكرنا مناهجه في كتاب العزلة فليفهم هذا منه فإن السفر نوع مخالطة مع زيادة تعب ومشقة تفرق الهم وتشتت القلب في حق الأكثرين، والأفضل في هذا ما هو الأعون في الدين) ، وقال القشيري في رسالته: هذه الطائفة مختلفون فمنهم من آثر الإقامة على السفر ولم يسافر إلا لغرض كحجة الإسلام، والغالب عليهم الإقامة مثل الجنيد وسهل بن عبد الله وأبي يزيد البسطامي وأبي حفص الحداد وغيرهم، ومنهم من آثر السفر وكانوا على ذلك إلى أن خرجوا من الدنيا مثل أبي عبد الله المغربي وإبراهيم بن أدهم وغيرهم، وكثير منهم سافروا في ابتداء أمورهم في حال شبابهم أسفارا كثيرة ثم قعدوا عن السفر في آخر أحوالهم مثل أبي عثمان الحيلي والشبلي وغيرهما ولكل واحد منهم أصول بنوا عليها طريقتهم. انتهى .

(ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة الله تعالى وتحصيل الأنس بذكر الله تعالى، والأنس يحصل بدوام الذكر) حتى يغمر قلبه، (والمعرفة تحصل بدوام الفكر) بالمراقبة (ومن لم يتعلم طريق الفكر والذكر لم يتمكن منهما) أي: لم يكن له نصيب منهما (والسفر هو المعين على التعلم في الابتداء والإقامة هي المعينة على العمل بالعلم في الانتهاء، فأما السياحة في الأرض على الدوام فمن المشوشات للقلب إلا في حق الأقوياء) مثل إبراهيم بن أدهم وأضرابه، (فإن المسافر وماله) كل منهما (لعلى قلق) محركة أي: تعب وهلاك (إلا ما وقى الله) وحفظه (فلا يزال المسافر مشغول القلب تارة بالخوف على نفسه) من الأعداء (وماله) من السراق (وتارة بمفارقة ما ألفه واعتاده) وأنس به (في إقامته وإن لم يكن معه مال يخاف عليه) من التلف (فلا يخلو عن الطمع والاستشراف) والتطلع (إلى الخلق فتارة يضعف قلبه بسبب الفقر فيعتريه فتور وتارة يقوى باستحكام أسباب الطمع) فيه فتنزرع فيه أنواع الخبائث (ثم الشغل بالحط والترحال) من بقعة إلى بقعة (مشوش بجميع الأحوال) مشتت للبال (فلا ينبغي أن يسافر المريد إلا في طلب علم) واجب (أو مشاهدة شيخ يقتدى به في سيرته) الظاهرة والباطنة (وتستفاد الرغبة في الخير من مشاهدته) وملاقاته، (فإن اشتغل بنفسه) بمداومة الذكر القلبي (واستبصر) فيه (وانفتح له) باب (طريق الفكر) الصحيح (والعمل) المطابق بالسنة (فالسكون) في حقه في مستقره (أولى به وأرفق) لحاله وهذا هو الحق الصريح الذي أشار إليه السادة النقشبندية .

(إلا أن أكثر متصوفة هذه الأعصار لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال) لفترات عرضتها ولم يقدروا على إزالتها (ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى بذكره في الخلوة) ووقفوا عن السير ومالوا إلى الغير (وكانوا بطالين) أي: من أهل البطالة (غير محترفين ولا مشغولين قد ألفوا البطالة) ومالت نفوسهم إليها (واستثقلوا العمل واستوعروا طريق الكسب) أي: وجدوها وعرة المسلك (واستلانوا جانب السؤال) والتكفف (والكدية) أي: الاستجداء من الناس (واستطابوا) سكنى (الرباطات) والخانقاهات (المبنية لهم) أي: باسمهم (في) سائر (البلاد واستسخروا الخدم) أي: جعلوهم مسخرين منقادين (المنتصبين للقيام بخدمة القوم واستخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن لهم قصد من الخدمة إلا الرياء والسمعة) للناس (وانتشار الصيت) بينهم والشهرة (واقتناص الأموال بطريق السؤال) وأنواع الاحتيال (تعللا بكثرة الأتباع) والواردين (فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم نافذ ولا تأديب للمريدين نافع ولا حجر عليهم قاهر) يقهرهم [ ص: 395 ] عما لا يليق (فلبسوا المرقعات) أي: الخرق الملفقة من أنواع الصوف والخز وغيره (واتخذوا في الخانقاهات متنزهات) من مياه جارية وأشجار مغروسة وفرش مبسوطة (وربما تلقفوا ألفاظا مزخرفة من الطامات) وهي ما فيها شطح .

(فينظرون إلى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في خرقهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وفي عبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم فيظنون بأنفسهم خيرا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ويعتقدون أن كل سوداء تمرة) وأن كل بيضاء شحمة (ويتوهمون أن المشاركة) لهم (في الظاهر) من الأقوال والأفعال (توجب المساهمة) أي: المقاسمة (في الحقائق) الباطنة (وهيهات فما أغزر حماقة) أي: قلة عقل (من لا يميز بين الشحم والورم) كلاهما ككتف أي: فيستسمن كل ذي ورم يظن أن به شحما (فهؤلاء بغضاء الله تعالى فإن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ) أخرج سعيد بن منصور في سننه من قول ابن مسعود: إني لأكره الرجل فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة. رواه أحمد وابن المبارك والبيهقي كلهم في الزهد وابن أبي شيبة من طريق المسيب بن رافع.

قال: قال ابن مسعود: إني لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة. وهو عند الزمخشري في صورة الانشراح من قول عمر - رضي الله عنه- بلفظ: إني لأكره أحدكم سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة. ويحتمل أن يكون المراد بالشاب هنا الصحيح، فقد قال العسكري في الأمثال: الصحة عند بعضهم الشباب، والعرب تجعل مكان الصحة الشباب كما قالوا: القلب الفارغ والشباب المقبل يكسب الآثام، وكان يقال: إن لم يكن الشغل محمدة فالفراغ مفسدة والقلب الفارغ يبحث عن السوء .

(ولم يحملهم على السياحة) من أرض إلى أرض (إلا الشباب والفراغ إلا من سافر لحج أو عمرة في غير رياء ولا سمعة أو سافر لمشاهدة شيخ يقتدى به في علمه وسيرته، وقد خلت البلاد عنه الآن) هذا في زمن المصنف فكيف بزماننا الآن وقد كمل المائتان بعد الألف، (والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت إلا التصوف فإنه قد أمحق) وزال حتما رسمه (بالكلية وبطل) أمره (لأن العلوم لم تندرس بعد) ففي طلابها كثرة (والعالم وإن كان عالم سوء فإنما فساده في سيرته لا في علمه فيبقى عالما غير عامل بعلمه و) لا يخفى أن (العمل غير العلم) فالعلم شيء والعمل شيء ولا يلزم من فساد العمل فساد العلم، ولكن لما كان المقصود من العلم هو العمل أطلقوا اسم الفساد على العلم بوجود الفساد في العمل وقالوا: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل .

التالي السابق


الخدمات العلمية