إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإن انحرف عن حقيقة محاذاة القبلة ، ولكن لم يخرج عن جهتها لم يلزمه القضاء .

وقد أورد الفقهاء خلافا في أن المطلوب جهة الكعبة أو عينها وأشكل معنى ذلك على قوم إذ قالوا : إن قلنا إن المطلوب العين فمتى يتصور هذا مع بعد الديار ، وإن قلنا إن المطلوب الجهة فالواقف في المسجد إن استقبل جهة الكعبة وهو خارج ببدنه عن موازاة الكعبة لا خلاف في أنه لا تصح صلاته .

وقد طولوا في تأويل معنى الخلاف في الجهة والعين .

ولا بد أولا من فهم معنى مقابلة العين ومقابلة الجهة .

فمعنى مقابلة العين أن يقف موقفا لو خرج خط مستقيم من بين عينيه إلى جدار الكعبة لا تصل به وحصل من جانبي الخط زاويتان متساويتان ، وهذه صورته صورة بالأصل والخط الخارج من موقف المصلي يقدر أنه خارج من بين عينيه ، فهذه صورة مقابلة العين .

وأما مقابلة الجهة .

فيجوز فيها أن يتصل طرفا الخط الخارجي من بين العينين إلى الكعبة من غير أن يتساوى الزاويتان عن جهتي الخط بل لا يتساوى الزاويتان إلا إذا انتهى الخط إلى نقطة معينة هي واحدة .

فلو مد هذا الخط على الاستقامة إلى سائر النقط من يمينها أو شمالها كانت إحدى الزاويتان أضيق فيخرج عن مقابلة العين ، ولكن لا يخرج عن مقابلة الجهة كالخط الذي كتبنا عليه مقابلة الجهة فإنه لو قدر الكعبة على طرف ذلك الخط لكان الواقف مستقبلا لجهة الكعبة لا لعينها .

وحد تلك الجهة ما يقع بين خطين يتوهمهما الواقف مستقبلا لجهة خارجين من العينين فيلتقي طرفاهما في داخل الرأس بين العينين على زاوية قائمة فما يقع بين الخطين الخارجين من العينين فهو داخل في الجهة .

وسعة ما بين الخطين تتزايد بطول الخطين وبالبعد عن الكعبة وهذه صورته صورة بالأصل فإذا فهم معنى العين والجهة فأقول .

الذي يصح عندنا في الفتوى أن المطلوب العين إن كانت الكعبة مما يمكن رؤيتها وإن كان يحتاج إلى الاستدلال عليها لتعذر رؤيتها فيكفي استقبال الجهة .

فأما ، طلب العين عند المشاهدة فمجمع عليه .


(فإن انحرف عن حقيقة محاذاة القبلة، ولكن لم يخرج عن جهتها لم يلزمه القضاء، وقد أورد الفقهاء خلافا في أن المطلوب) بالاجتهاد (جهة الكعبة أو عينها) قولان أظهرهما الثاني، اتفق العراقيون والقفال على تصحيحه، فلو ظهر الخطأ في التيامن أو التياسر فإن كان ظهوره بالاجتهاد وظهر بعد الفراغ لم يؤثر قطعا، وإن كان في أثنائها انحرف وأتمها قطعا وإن كان ظهوره بالتيقن وقلنا الفرض جهة الكعبة فذاك وإن قلنا عينها ففي وجوب الإعادة بعد الفراغ والاستئناف في الأثناء القولان .

(وأشكل معناه على قوم إذ قالوا: إن قلنا إن المطلوب العين فمتى يتصور هذا مع بعد الديار، وإن قلنا المطلوب الجهة فالواقف في المسجد إن استقبل جهة الكعبة وهو خارج ببدنه عن موازاة الكعبة لا خلاف في أنه لا تصح صلاته) وقال صاحب التهذيب وغيره: ولا يستيقن الخطأ في الانحراف مع البعد عن مكة، وإنما يظن ومع القرب يمكن التيقن والظن وهذا كالتوسط بين اختلاف أطلقه العراقيون أنه هل يتيقن الخطأ في الانحراف من غير معاينة الكعبة من غير فرق بين القرب عن مكة والبعد، فقالوا قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: لا يتصور إلا بالمعاينة وقال بعض الأصحاب يتصور .

ثم اعلم أنه في اشتراط استقبال المصلي على الأرض له أحوال أحدها: أنه يصلي في جوف الكعبة فتصح الفريضة والنافلة يستقبل أي جدار شاء، والباب مردود أو مفتوح. الثاني: يقف على سطحها فإن لم يكن بين يديه شاخص لم يصح على الصحيح، وإن كان شاخص من نفس الكعبة فله حكم العتبة إن كان قدر ثلثي ذراع جاز، وإلا فلا على الصحيح، ولو استقبل خشبة أو عصا مغروزة غير مسمرة لم يكف على الأصح .

الثالث: أن يصلي عند طرف ركن الكعبة وبعض بدنه يحاذيه وبعضه يخرج عنه فلا تصح صلاته على الأصح، وهذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله: لا خلاف في أنه لا تصح صلاته، ولو وقف الإمام بقرب الكعبة عند المقام أو غيره ووقف القوم خلفه ومستديرين بالبيت جاز، ولو وقفوا في آخر باب المسجد وامتد صف طويل جاز، وإن وقفوا بقربه وامتد الصف فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة .

الرابع: أن يصلي بمكة خارج المسجد وإن عاين الكعبة كمن يصلي على أبي قبيس صلى إليها ولو بنى محرابه على العيان صلى إليه أبدا، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة، وفي معنى المعاين من نشأ بمكة وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة فإن لم يعاين ولا يتقن الإصابة فله اعتماد الأدلة والعمل بالاجتهاد إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل، وكذا إن كان الحائل طارئا كالبناء على الأصح للمشقة في تكليف المعاينة .

الخامس: أن يصلي بالمدينة فمحراب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نازل منزلة الكعبة فمن يعاينه يستقبله ويسوي محرابه عليه بناء على العيان، وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ضبط المحراب وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطريق التي هي جادتهم يتعين استقبالها ولا يجوز الاجتهاد، وكذا القرية الصغيرة إذا نشأ فيها قرون من المسلمين ثم هذه المواضع التي عليها الاجتهاد فيها في الجهة هل يجوز له التيامن أو التياسر إن كان محراب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجز بحال، ولو تخيل حاذق معرفة القبلة فيه تيامنا أو تياسرا فليس له ذلك وخياله باطل، وأما سائر البلاد فيجوز على الأصح الذي قطع به الأكثرون، والثاني لا يجوز، والثالث لا يجوز في الكوفة خاصة، والرابع لا يجوز في الكوفة والبصرة لكثرة من دخلها من الصحابة .

السادس: إذا كان بموضع لا يقين فيه، اعلم أن القادر على يقين القبلة لا يجوز له الاجتهاد وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها وجهان؛ الأصح المنع; لأن كونه من البيت غير مقطوع به بل هو مظنون ثم اليقين قد يحصل بالمعاينة وبغيرها كالناشئ بمكة العارف يقينا بأمارات، وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين لا يجوز اعتماد قول غيره، وأما غير القادر على اليقين فإن وجد من يخبره بالقبلة اعتمده ولم يجتهد، ثم قد يكون الخبر صريح لفظ، وقد يكون دلالة كالمحراب المعتمد، وإذا لم يجد العاجز [ ص: 444 ] من يخبره فتارة يقدر على الاجتهاد وتارة لا يقدر، فإن لزمه واستقبل ما ظنه القبلة (وقد طولوا في تأويل معنى الخلاف في الجهة والعين ولا بد أولا من فهم معنى مقابلة العين و) معنى (مقابلة الجهة ومعنى مقابلة العين أن يقف) المصلي (موقفا لو خرج خط مستقيم من بين عينيه إلى جدار الكعبة لاتصل به وحصل من جانبي الخط زاويتان متساويتان، وهذه صورته) المرسومة .

(والخط الخارج من موقف المصلي يقدر أنه خارج من بين عينيه، فهذه صورة مقابلة العين) وهي ظاهرة في الرسم كما ترى، وفي بعض النسخ هكذا صورته. (فأما مقابلة الجهة فيجوز فيها أن يتصل طرفا الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة من غير أن يتساوى الزاويتان عن جهتي) وفي نسخة: في جنبتي (الخط بل لا يتساوى الزاويتان إلا إذا انتهى الخط إلى نقطة معينة هي واحدة فلو مد هذا الخط على الاستقامة إلى سائر النقط من يمينها أو شمالها كانت إحدى الزاويتين أضيق فيخرج عن مقابلة العين، ولكن لا يخرج عن مقابلة الجهة كالخط الذي كتبنا عليه مقابلة الجهة) في الرسم الذي تقدم قبل هذا، (فإنه لو قدر الكعبة على طرف ذلك الخط لكان الواقف مستقبلا لجهة الكعبة لا لعينها، وحد تلك الجهة ما يقع بين خطين يتوهمهما الواقف مستقبلا لجهة خارجين من العينين يلتقي طرفهما في داخل الرأس بين العينين على) وفي نسخة: في (زاوية قائمة فما يقع بين الخطين الخارجين من العينين فهو داخل في الجهة، وسعة ما بين الخطين تتزايد بطول الخطين وبالبعد عن الكعبة) باتساع [ ص: 445 ] الجهة (وهذه صورته) كما تراها

ويوجد في بعضها هكذا

(فإذا فهم معنى العين والجهة فأقول الذي يصح عندنا في الفتوى أن المطلوب) بالاجتهاد (العين إن كانت الكعبة مما يمكن رؤيتها) وهو أظهر القولين، واتفق العراقيون على تصحيحه كما تقدم، (وإن كان يحتاج إلى الاستدلال عليها) بالأدلة (لتعذر رؤيتها) بأن حال بينه وبينها حائل أصلي كالجبل أو طارئ كالبناء (فيكفي استقبال الجهة، وأما طلب العين عند المشاهدة فمجمع عليه) وبه قال أصحابنا الحنفية ففي التجنيس للمرغيناني: من كان بمعاينة الكعبة فالشرط إصابة عينها ومن لم يكن بمعاينتها فالشرط إصابة جهتها وهو المختار، والمراد باستقبال الجهة عندنا أن يبقى شيء من سطح الوجه مسامتا للكعبة أو لهوائها; لأن المقابلة إن وقعت في مسافة بعيدة لا تزول به من الانحراف لو كانت في مسافة قريبة، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامتة مع انتقال مناسب لذلك البعد، فلو فرض خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل أو شماله لا تزول تلك المقابلة والتوجه بالانتقال إلى الشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة .

ولذا وضع العلماء قبلة بلد وبلدين وثلاث على سمت واحد فجعلوا قبلة بخارى وسمرقند ونسف وترمذ وبلخ ومرو وسرخس مواضع الغروب إذا كانت الشمس في آخر الميزان وأول العقرب كما اقتضته الدلائل الموضوعة لمعرفة القبلة ولم يخرجوا لكل بلد سمتها لبقاء المقابلة والوجه في ذلك القدر ونحوه من المسافة كذا في الدراية نقلا عن شيخه .

التالي السابق


الخدمات العلمية