إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
كتاب آداب السماع والوجد .

وهو الكتاب الثامن من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم .

، الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنار محبته واسترق هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائه ومشاهدته ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته حتى أصبحوا من تنسم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملاحظة سبحات الجلال والهة حيرى فلم يروا في الكونين شيئا سواه ولم يذكروا في الدارين إلا إياه إن سنحت لأبصارهم صورة عبرت إلى المصور بصائرهم وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائرهم وإن ورد عليهم صوت مزعج أو .مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق أو مهيج لم يكن انزعاجهم إلا إليه ولا طربهم إلا به ولا قلقهم إلا عليه ولا حزنهم إلا فيه ولا شوقهم إلا إلى ما لديه ولا انبعاثهم إلا له ولا ترددهم إلا حواليه .

فمنه سماعهم وإليه استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم أولئك الذين اصطفاهم الله لولايته واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته .

والصلاة على محمد المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته وسلم كثيرا .


(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، الله ناصر كل صابر) ، الحمد لله الذي بذكره تطمئن القلوب وتنشرح الصدور، وتصفو النفوس من الهموم والأكدار، وبشكره على نعمائه ترفع أعلام الحضور، وتخفض رايات الشرور، وتنصب أسرة السرور لبلوغ الأوطار، أحمده على ما منحناه من الأسماع ومتعنا به من الأبصار، وأصلي على نبيه المبعوث على عموم الخلق في جميع الأقطار، المنعوت بالخلق العظيم في الكتاب الكريم وناهيك به من الشرف والفخار، صلى الله عليه صلاة متصلة بالعشي والإبكار، دائمة بدوام الليل والنهار، وعلى آله الأطهار، وأصحابه البررة الأخيار، الذين أضحى بهم الدين عالي المنار، وارتفع بهم الحق حتى صار أوضح من علم في رأسه نار، صلى الله عليه وعليهم ما طلع نجم وتعاقبت الأنوار، ونم النسيم بأسرار الأزهار، وترنم البلبل وغنى الهزار، ورقصت قضب البان على تشييب سمات الأسحار وتمايلت غصون الأشجار بالثمار، وسلم تسليما كثيرا [ ص: 454 ] كثيرا وبعد:

فهذا شرح (كتاب السماع والوجد) وهو الثامن من الربع الثاني من كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام أبي حامد قطب الأعلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي أحله الله فراديس الجنان ومتعه بالأنس الدائم مع الحور والولدان، يكشف النقاب عن مخدرات أبكاره، ويميط اللثام عن مخبآت أسراره، بوجه لطيف يحصل وجه المقصود، بعون الرب المعبود، ومن فيض فضله الغادي، جل اعتمادي وبه استمدادي، إنه خير مأمول، وولي كل سئول .

قال رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) تيمنا بذكره الكريم واتباعا للسنن المألوف القديم ثم أعقب بالحمد مع مراعاة البراعة اللفظية والمعنوية بذكر ما يناسب إيراده لما سيذكر ويشوق الراغب لمطالعته إلى معرفة ما يخبأ فيه ويضمر فقال: (الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنار محبته) بأن أحبهم بالحب الأزلي وأراهم شئونه، فولعت له قلوبهم وذلك مصداق قوله يحبهم ويحبونه (واسترق هممهم) أي: قواهم الراسخة في نفوسهم (وأرواحهم بالشوق للقائه) أي: معرفته وهم في هذا العالم (ومشاهدته) في حظيرة قدسه والاستيفاء الآخذ بالتمام والكمال، (ووقف أبصارهم) الظاهرة (وبصائرهم) الباطنة (على ملاحظة جمال حضرته) الجامعة للحضرات الخمس من الغيب المطلق والشهادة المطلقة والغيب المضاف بقسميها، والجامعة وهي مظهر الحضرة الأحدية وجمالها نعوتها الرحموتية وما بها من الألطاف الإلهية (حتى أضحوا) أي: صاروا (من تنسم روح الوصال) الروح بالفتح ما تلذ به النفس، والوصال حضرة الجمع (سكرى) جمع سكران والسكر عندهم غيبة بوارد قوي وهو يعطي الطرب والالتذاذ وهو أقوى من الغيبة وأتم منها .

(وأصبحت قلوبهم من ملاحظة سبحات الجلال) الجلال نعوت القهر من الحضرة الإلهية وسبحانه عظمته ونوره وبهاؤه (والهة) أي: مغيبة (حيرى) جمع حائر أي: متحيرة (فلم يروا في الكونين) هما عالم الغيب والشهادة (شيئا سواه) أي: لم يعتقدوا أو لم يقع بصرهم على شيء إلا رأوه قبله، (ولم يذكروا في الدارين) أي: الدنيا والآخرة (إلا إياه) قل الله ثم ذرهم (إن سنحت) أي: عرضت (لأبصارهم صورة) جسمية أو نوعية (عبرت) أي: جاوزت (إلى المصور) لها جل وعز (بصائرهم) وهذا هو الاعتبار المشار إليه بقوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار (وإن قرعت أسماعهم نغمة) أي: جرس من الكلام أو حسن الصوت في القراءة (سبقت إلى المحبوب سرائرهم) أي: خواطر نفوسهم .

(وإن ورد عليهم صوت مزعج) يقال: أزعجه والقلق الاضطراب (أو مطرب) من الطرب محركة خفة تصيبه لشدة حزن أو سرور، قال في المصباح: والعامة تخصه بالسرور (أو محزن) والحزن بالضم الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح (أو مهيج) أي: مثير من أهاج أو هيج للمبالغة (أو مشوق) من الشوق وهو نزاع النفس قد شاقه إليه وشوقه (لم يك انزعاجهم إلا إليه) قال بعض أئمة اللغة: لا يقال في مطاوع أزعجه فانزعج، وقال الخليل: لو قيل كان صوابا واعتمده الفارابي فقال: أزعجته فانزعج والمشهور أزعجته فشخص، (ولا طربهم إلا به ولا قلقهم إلا عليه ولا حزنهم إلا فيه) أي: لأجله (ولا شوقهم إلا إلى ما لديه) من النعيم الأبدي (ولا انبعاثهم) أي: حركتهم (إلا له) خاصة كما هو شأن المخلصين، (ولا ترددهم إلا حواليه) بفتح اللام على الظرفية أي: حوالي كرمه وفضله، إذ هو تعالى منزه عن الجهات الست (فمنه سماعهم وإليه استماعهم) ، وفي الحديث القدسي إشارة إلى ذلك حيث يقول: ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر... الحديث .

(فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم) أي: حجبت أبصارهم عن النظر لسواه وأسماعهم عن الاستماع من غيره (أولئك الذين اصطفاهم الله) أي: اختارهم (لولايته) وهي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه (واستخلصهم) أي: ميزهم (من بين أصفيائه وخاصته) فهم خلاصة الخلاصة وصفوة الخاصة (والصلاة) الكاملة (على) سيدنا ومولانا (محمد المبعوث برسالته) إلى عموم الخلق (وعلى آله وأصحابه أئمة الحق [ ص: 455 ] وقادته) أي: رؤسائه (وسلم) تسليما (كثيرا) كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية