إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان .


(وقال) أبو طالب المكي -رحمه الله- تعالى (قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي) كما تقدم بيانه (وتابعي بإحسان) وحسبك منهم سعيد بن المسيب، وبه يضرب المثل في الورع، وهو أفضل التابعين بعد أويس وأحد الفقهاء السبعة، وقد سمع الغناء واستلذ سماعه، قال ابن عبد البر: ذكر [ ص: 460 ] وكيع عن محمد بن خلف قال: حدثني عبد الله بن أبي سعيد حدثني الحسن بن علي بن منصور أخبرني أبو غياث عن إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر يغني في دار العاص بن وائل وهو يقول:


تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات



فضرب سعيد برجله فقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال سعيد:


وليست كأخرى أوسعت جيب درعها     وأبدت بنان الكف في الجمرات
وعلت بنات المسك وصفا مرجلا     على مثل بدر لاح في ظلمات
وفاضت ترائي يوم جمع فأفتنت     برؤيتها من راح من عرفات



قال: وكانوا يروون هذا الشعر لسعيد بن المسيب، قال ابن عبد البر: هذا من شعر النميري رويناه وليس فيه هذه الأبيات فهي لسعيد والنميري هو محمد بن عبد الله من بني ثقيف وليس من بني نمير، وهذا شعره في زينب أخت الحجاج، وقد ساق هذه الحكاية أيضا ابن الحوزي في تلبيس إبليس والطبراني وابن السمعاني في أوائل الذيل، وأما سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر: أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله الهمداني بها أخبرني عبد الله بن عيسى الخلقاني، حدثنا الحسين بن أحمد الصفار الهروي، حدثني أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي ثنا يموت بن المزرع، حدثنا محمد بن حميد بن يشجر، ثنا محمد بن سلمة، حدثني أبي قال: أتيت عبد العزيز بن عبد المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها فوجدته مستلقيا وهو يتغنى:


فما روضة بالحزن طيبة الثرى     يمد الندا جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا     وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقرة     وبالحسب المكنون صاف بخارها
فإن برزت كانت لعينك قرة     وإن عبث عنها لم يغمك عارها



فقلت: أصلحك الله أتغني بهذه الأبيات وأنت في جلالك وشرفك أما والله لأحدثن بها ركبان نجد، فوالله ما اكترث بي وعاد يتغنى بهذه الأبيات:


فما ظبية أدماء حفافة الحشى     تجوب بطليقها بطون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدللا     وأدمعها تذرين حشو المكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه     رهين بأيام الشهور الأطاول



قال فندمت على قولي له وقلت له: أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء؟ فقال: نعم حدثني أبي قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر وأشعب يغنيه بهذا الشعر:


مغيرية كالبدر سنة وجهها     مطهرة الأثواب والعرض وافر
لها حسب ذاك وعرض مهذب     وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة     ولم يستملها عن تقى الله شاعر



فقال له سالم زدني فقال:


ألمت بنا والليل دلج كأنه     جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت: أعطار ثوى في رحالنا     وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا



فقال سالم: أما والله لولا أن تداوله الرواة لأجزلت جائرتك فلك من هذا الأمر مكان، انتهى. وساقه ابن السمعاني في أوائل الذيل بأسانيده وعبد العزيز بن عبد المطلب هذا هو قاضي المدينة. وقيل: قاضي مكة، وأما خارجة بن زيد فهو أحد الفقهاء السبعة وعبد الرحمن بن حسان فروى صاحب الأغاني بسنده إلى خارجة بن زيد قال: دعينا إلى مأدبة فحضرنا وحضر حسان بن ثابت، وكان قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن فجلسنا [ ص: 461 ] جميعا على مأدبة، فلما فرغ الطعام أتونا بجاريتين مغنيتين إحداهما: ريعة، والأخرى: عزة الميلاء، فجلستا وأخذتا بمزهر وضربتا ضربا عجيبا وغنتا بشعر حسان:


فلا زال قصر بين بصري وحلق     عليه من الوسمي جود ووابل



فأسمع حسان يقول: قد أراني هناك سميعا بصيرا وعيناه تدمعان فإذا سكتتا سكتت عنه، وإذا غنتا يبكي، وكنت أرى عبد الرحمن ابنه إذا سكتتا يشير إليهما أن غنيا، وذكر ذلك أيضا صاحب التذكرة الحمدونية والمبرد في الكامل وابن المرزبان، وأما القاضي شريح فنقل عنه الأستاذ أبو منصور والبغدادي في مؤلفة في السماع أنه كان يصوغ الألحان ويسمعها من القيان مع جلالته وكبر شأنه، وأما سعيد بن جبير فقال الحافظ محمد بن طاهر بسنده إلى الأصمعي قال: حدثنا عمر بن أبي زائدة حدثتني امرأة عمر بن الأصم قالت: مررنا ونحن جوار بمسجد سعيد بن جبير ومعنا جارية تغني ومعها دف وهي تقول:


لئن فتنتني فهي بالأمس فتنت     سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم
وألقى مفاتيح القراءة واشترى     وصال الغواني بالكتاب المنمم



فقال سعيد: تكذبين تكذبين، ورواه أيضا الفاكهي في تاريخ مكة وابن السمعاني في أوائل الذيل، وهي في الأصمعيات فقد سمع سعيد الغناء بالدف ولم ينكر فعلها، ولما ذكرت ما لم يكن أنكر عليها القول ولم ينكر الفعل مع زهده وتقشفه ومبادرته إلى إنكار ما ينكرها، وأما الشعبي فهو من أكابر التابعين علما وعملا، فقد حكى عنه الأستاذ أبو منصور أنه كان يقسم الأصوات إلى الثقيل الأول وإلى الثقيل الثاني، وما بعدهما من المراتب، وقال الحافظ محمد بن طاهر في كتابه صفوة التصوف قال الأصمعي: حدثنا عمرو بن أبي زائدة قال مر الشعبي بجارية تغني: "فتن الشعبي لما"، فلما رأت الشعبي سكتت، فقال الشعبي قولي:" رفع الطرف إليها" .

وهو في الأصمعيات وساقه ابن السمعاني في أوائل الذيل بأسانيد وأما عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بابن أبي عتيق، فقال الأستاذ أبو منصور: كان فقيها ناسكا يغني ويعلم القينات الغناء، وقال الزبير بن بكار في الموفقيات: حدثنا طيبة مولاة فاطمة بن عمر بن مصعب بن الزبير عن أم سليمان بنت نافع أن ابن أبي عتيق دخل على جارية بالمدينة فسمعها تغني لابن سريج:


ذكر انقلب ذكره أم زيد     والمطايا بالشهب شهب الركاب
وبنعمان طاف منها خيال     يا لقومي من طيفها المنتاب
عللته وقربته بوعد     ذاك منها إلى مشيب الغراب
بت في نعمة وبات وسادي     بين كف حديثة بخضاب



فسألها ابن أبي عتيق أن تعيده فأبت فخرج من عندها وركب نجيبا فقدم مكة وأخذ ابن سريج وأدخله حماما وهيأه ثم جاء به إليها، وقال: هذا يغني أحب أن تسمعي منه وتسمعيه، قالت: نعم، فأمره بالغناء فغنى أبياتا ذكرها الزبير فسألته أن يعيده فقال له ابن أبي عتيق: خذ نعليك أتعرفين ابن سريج، وساق صاحب الأغاني منه جملة، وبالجملة فسماع ابن أبي عتيق كثير مشهور لا يختلف فيه أهل الأخبار، مروي بأسانيد جياد وكان كثير البسط والخلاعة مع عفة ونسك وزهد وعبادة .

وأخرج له الشيخان في الصحيحين، وأما عطاء بن أبي رباح فهو من أكابر التابعين وهو مع علمه وزهده وورعه وعبادته ومعرفته بالسنن والآثار، فقد قال الأستاذ أبو منصور: إنه كان يقسم الأصوات إلى الثقيل الأول، وإلى الثقيل الثاني وما بعدهما من المراتب .

وقال البيهقي بسنده إلى ابن جريج قال: سألت عطاء عن الغناء بالشعر فقال: لا أرى به بأسا ما لم يكن فحشا .

وروى ابن قتيبة بسنده إلى إبراهيم المخزومي قال: أرسلني أبي إلى عطاء بن أبي رباح أسأله عن مسألة فأتيته فوجدته في دار العقبي وعليه ملحفة معصفرة فقالوا له: يا أبا محمد لو أذنت لنا أرسلنا إلى العريض وابن سريج، فقال: افعلوا ما شئتم فبعثوا إليهما فحضرا وغنيا وعطاء يسمعهما حتى إذا مالت الشمس قام إلى منزله، قال ابن قتيبة: واختلف عند [ ص: 462 ] محمد بن إبراهيم في الغناء، فبعث إلى ابن جريج وإلى عمرو بن عبيد فأتياه فسألهما فقال ابن جريج: لا بأس به جئت عطاء بن أبي رباح وقد ختن ولده وعنده الأبجر يغني فكان إذا سكت لا يقول له: غن، وإذا غنى لا يقول له: اسكت، وإذا لحن رد عليه، فقال عمرو بن عبيد: فأيهما يكتب الغناء الذي على اليمين أو الذي على الشمال، فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما .

وقال ابن عبد البر بسنده إلى ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا، وقال محمد بن إسحاق الفاكهي في تاريخ مكة: حدثني عبد الله بن أحمد ثنا خلف بن سالم مولى ابن صيفي، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الحميد المخزومي عن عمه عيسى بن عبد الحميد، قال: ختن عطاء ولده فدعانا في وليمة في دار الأخنس فلما فرغ الناس جلس عطاء على المنبر يقسم بقية الطعام، ودعا الفتيان العريض وابن سريج فجعلا يغنيان، فقالوا لعطاء: أيهم أحسن غناء فقال: يغنيان حتى أسمع فأعادا واستمع، فقال أحسنهما الرقيق الصوت يعني ابن سريج.

وأما الزهري فنقله عنه الأستاذ أبو منصور وأما عمر بن عبد العزيز فقال ابن قتيبة سئل إسحاق عنه فقال: ما طن أذنه شيء بعد أن أفضت إليه الخلافة، وأما قبلها وهو أمير فكان يسمع من جواريه خاصة، ولا يظهر منه إلا الجميل وكان ربما صفق بيديه وتمرغ على فراشه طربا وضرب برجليه، وقال الزبير بن بكار في الموفقيات: أخبرني عمي قال: أدركت الناس بالمدينة يغنون لحنا وينسبونه إلى عمر بن عبد العزيز وهو:


كان قد شهدت الناس يوم تقسمت     خلائقهم فاخترت منهن أربعا
إعارة سمع كل مغتاب صاحب     ويأتي بعيب الناس إلا تتبعا
وأعجب من هاتين أنك تدعي السلامة     من عيب الخليقة أجمعا
وأنك لو حاولت فعل إساءة     فكوفيت إحسانا جحدتهم معا



وأما سعد بن إبراهيم فحكاه عنه ابن حرم وابن قدامة الحنبلي وغيرهما فهؤلاء جملة من التابعين .

(فصل)

وأما من بعد التابعين فمنهم عبد الملك بن جريج، وهو من العلماء الحفاظ والفقهاء العباد المجمع على جلالته وعدالته وكان يستمع الغناء ويعرف الألحان، حكى عنه الأستاذ أبو منصور أنه كان يصوغ الألحان ويميز بين البسيط والنشيد والخفيف، وقال ابن قتيبة: حكى عنه الأستاذ أبو منصور أنه كان يروح إلى الجمعة فيمر على مغن فيولج عليه الباب فيخرج فيجلس معه على الطريق ويقول له: غن فيغنيه أصواتا فتسيل دموعه على لحيته ثم يقول: إن من الغناء ما يذكر الجنة .

وقال صاحب التذكرة الحمدونية: قال داود المكي كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده جماعة منهم عبد الله بن المبارك وجماعة من العراقيين إذ مر به مغن فقال له: أحب أن تسمعني فقال له: إني مستعجل فألح عليه فغناه فقال له: أحسنت أحسنت ثلاث مرات ثم التفت إلينا فقال: لعلكم أنكرتم؟ فقالوا: إنا ننكره بالعراق، فقال: ما تقولون في الرجز يعني الحداء؟ قالوا: لا بأس به، قال: أي فرق بينه وبين الغناء، وأما محمد بن علي بن أبي طالب فقال ابن قتيبة: إنه سئل عن الغناء فقال: ما أحب أن أمضي إليه ولو دخل على ما خرجت منه، ولو في موضع لي فيه حاجة ما امتنعت من الدخول .

وأما إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فقد تقدم عنه قريبا، وأما ابن مجاهد فسيأتي قريبا، وأما عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة فكان من العلم والورع بمكان، وكان من مذهبه إباحة الغناء اتفقت النقلة على ذلك ونصب الفقهاء الخلاف معه فيه، وممن حكاه عنه زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الخلاف، وأبو بكر بن المنذر في الأشراف والقاضي أبو الطيب وغيرهم، وأما الإمام أبو حنيفة فحكى صاحب التذكرة الحمدونية أنه سئل هو وسفيان الثوري عن الغناء فقالا: ليس من الكبائر ولا من أسوأ الصغائر، وحكى ابن عبد ربه في العقد أيضا عن أبي حنيفة وذكر قصة جاره التي سنذكرها بعد، وذكر عن أبي يوسف أيضا أنه كان يحضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، وقال الحافظ في رسالته: وأما أبو حنيفة فحدثنا أصحابنا عنه منهم من حديث عن حفص بن غياث، ومنهم من حدث عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف قال: ذكر عند [ ص: 463 ] أبي حنيفة الغناء فقال: أما أنا فوددت أن لي غريما لازمني وحلف علي فأدخلني إلى موضع فيه سماع فأسمع، وذكر ابن قتيبة أنه ذكر عند أبي يوسف الغناء فذكر قصة أبي حنيفة التي نذكرها وهي ما حكاه ابن قتيبة وغيره عنه أنه كان له جار وكان كل ليلة يغني:


أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر



وكان أبو حنيفة يسمع إليه وأنه فقد صوته فسأل عنه، فقيل له أنه وجد في الليل وسجن في سجن الأمير عيسى فلبس عمامته وتوجه إلى الأمير وتحدث معه فقال: لا أعرف ما اسمه، فقال أبو حنيفة: اسمه عمرو، فقال الأمير يطلق كل من اسمه عمرو فأطلق الرجل، فلما خرج قال له أبو حنيفة أضعناك؟ فقال: بل حفظت، وتمام هذا أنه قال له: فصر إلى ما كنت عليه، وقد ضمن ذلك في قصيدته أبو عمر يوسف بن هارون الكندي المعروف بالرمادي على ما أورده الحافظ أبو محمد عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي صاحب كتاب المعجب في أخبار أهل المغرب أولها:


لخطب الشاربين يضيق صدري     ويوفقني تلقيهم بضر
فإن أبا حنيفة وهو عدل     وفر من القضاء مسير شهر
فقيه لا يدانيه فقيه     إذا ذكر القياس أتى بدر
وكان له من الشراب جار     يواصل مغربا منها بفجر
وكان إذا انتشى غنى ببيت     المضاع بسجنه من آل عمرو
أضاعوني وأي فتى أضاعوا     ليوم كريهة وسداد ثغر
فغيب صوت ذاك الجار سجن     ولم يكن الإمام بذاك يدري
فقال وقد مضى ليل وثان     ولم يسمع غناء ليت شعري
أجاري المؤنسي ليلا غناه     لخير قطع ذلك أم لشر
فقالوا إنه في سجن عيسى     أتوه به بليل وهو يسري
فنادى بالطويلة وهي مما     يكون برأسه لجليل أمر
ويمم جاره عيسى بن موسى     فلاقاه بإكرام وبشر
فقال سجنت لي جارا يسمى     بعمرو قال يطلق كل عمري



فقد تضمنت هذه الحكاية والقصيدة أنه كان يسمع إليه ولم ينهه عن الغناء، فدل على إباحته عنده، فإن استماعه كل ليلة مع ورعه وزهده ينبغي أن يحمل على الإباحة وما ورد عنه بخلافه يحمل على الغناء المقترن بشيء من الفحش ونحوه جمعا بين القول والفعل على أن التحريم أخذ من مقتضى قوله لا من نصه فيما عملت ورأيت في كتبهم ولا دلالة فيما أخذ منه لاحتماله وجوها. هذا لفظ الكمال الأدفوي في الإمتاع .

قلت: وذكر صاحب الهداية في باب الشهادة ولا تقبل شهادة نائحة ولا مغنية، وهذا أيضا لفظ القدوري فأطلق، ثم قال: ولا من يغني للناس فورد أنه تكرار يعلم ذلك من قوله مغنية .

قال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير: إن الوجه أن اسم مغنية ومغن إنما هو في العرف لمن كان الغناء حرفته التي يكتسب بها المال، فاللفظ المذكور هنا عام غير أنه خص المؤنث به ليوافق لفظ الحديث: "لعن الله النائحات لعن الله المغنيات، ومعلوم أن ذلك لوصف التغني لا لوصف الأنوثة، ولا للتغني مع الأنوثة; لأن الحكم المرتب على مشتق إنما يفيد أن وصف الاشتقاق هو العلة فقط لا مع زيادة أخرى نعم هو من المرأة أفحش لرفع صوتها وهو حرام .

ونصوا على أن المغني للهو أو جمع المال حرام بلا خلاف، ثم قال في التغني لإسماع نفسه ولدفع الوحشة خلاف بين المشايخ، منهم من قال: إنما يكره ما كان على سبيل اللهو احتجاجا بما روي عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك، وكان من زهاد الصحابة، وكان يتغنى وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي ومنهم من قال يكره [ ص: 464 ] جميع ذلك، وبه أخذ شيخ الإسلام، ويحمل حديث البراء بن مالك أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها الحكم والمواعظ كما أن لفظ الغناء يطلق على المعروف يطلق على غيره، وإنشاد المباح من الأشعار لا بأس به .

ومن المباح أن تكون فيه صفة امرأة مرسلة بخلاف ما إذا كانت بعينها حية فقد عرف أن التغني المحرم هو ما كان في اللفظ ما لا يحل كصفة المذكر والمرأة المعينة الحية ووصف الحية ووصف الخمر المهيج إليها. والهجاء لمسلم أو ذمي إذا أراد المتكلم به هجاءه إلا إذا أراد إنشاد الشعر للاستشهاد به أو لتعلم فصاحته، نعم إذا قيل ذلك على الملاهي امتنع وإن كان مواعظ وحكما للآلات نفسها لا لذلك التغني .

وفي المغني: الرجل الصالح إذا تغنى بشعر فيه فحش لا تبطل عدالته، وفي مغني ابن قدامة: الملاهي نوعان: محرم وهو الآلات المطربة، ومباح وهو الدف في النكاح وفي معناهما كان من حادث سرور ويكره غيره وفي الأجناس، وسئل محمد بن شجاع عن الذي يترنم مع نفسه قال: لا يقدح في شهادته، اهـ. كلام ابن الهمام، ثم قال الأدفوي: وأما الإمام مالك -رحمه الله- تعالى فقد ذكرنا في قصة إبراهيم بن سعد من مالك يعني أن الرشيد سأله هل بلغك عن مالك بن أنس في ذلك شيء؟ فقال: لا والله، إلا أن أبي أخبرني أنهم اجتمعوا في مدحاة كانت في بني يربوع وهم يومئذ جلة ومالك أقلهم من فقه وقدر، معهم دفوف وعيدان يغنون بها ويلعبون ومع مالك دف مربع وهو يغنيهم:


سليمى أزمعت بينا وأين لقاؤهم أينا     وقد قالت لأتراب
لها زهر تلاقينا     تعالين فقد طاب
لنا العيش تعالينا



وقد حكى صاحب الأغاني والتذكرة الحمدونية أنه سمع من يغني شيئا على غير الصواب فسأله ذلك الشخص أن يخبره بالصواب فأخرج رأسه من كوة وغناه على الصواب فسأله أن يعيده فقال حتى تقول أخذته عن مالك بن أنس.

وحكى الإباحة عنه أبو قاسم القشيري والأستاذ أبو منصور والقفال وغيرهم وسألت جماعة من فضلاء المالكية: هل له نص في تحريم الغناء؟ فقالوا: لا، وإنما أخذ من قوله أنه لا يصح بيع الجارية المغنية على أنها مغنية، ومن نصه في الجارية أنه إذا وجدها مغنية كان له الرد، وهذا لا يدل على التحريم فإنه يجوز أن يكون عنده حلالا ويمتنع البيع لأمر آخر إما لكونه غير منضبط وأنه لا يقابل بالعوضية شرعا كما أن عسيب الفحل جائز ولا يصح العقد عليه ببيع ولا إجارة، وقد ذكر القاضي عياض في التنبيهات منع إجارة الدف مع القول بإباحته، وقال ما كل مباح يجوز العقد عليه، وأما الرد بالعيب فقد حكى ابن رشد عنه في المقدمات في رواية زياد عنه أنه فرق بين أمة التسري وأمة الخدمة، فإن أمة التسري يعاير بها الولد، واختاره ابن رشد وقطع المواز بعدم الرد، وقال صاحب البحر: إن مالكا يرد الجارية بالغناء ولا يرد العبد، قال: لأن الغناء يدل على قلة صيانتها ولو كان الغناء حراما لرد العبد أيضا، ثم بتقدير تسليم ذلك كله يدل على تحريم غناء النساء خاصة لا لأجل أن الغناء نفسه حرام هو لأجل أن الغناء من النساء يعود إلى الفساد والإفساد .

ولذلك صرح ابن العربي المالكي أنه يجوز للرجل سماع جاريته وبالجملة فإذا لم يكن له نص في المسألة فما استنبطوه غير متجه إذ هو محتمل، وما نقل عنه بالإسناد أنه سئل عنه فقال: إنما يسمعه الفساق محتمل وأنه لا يجوز محمول على غناه يقترن به مسكر ونحوه جمعا بين النقول التي قدمناها التي هي صريحة، وأيضا فقوله إنما يسمعه الفساق محتمل أن الذين نعهدهم أو نعرفهم يسمعونه عندنا وصفهم كذا، فلا يدل أنه أراد التحريم، كما إذا قلت: ما قولك في المتفرجين في البحر؟ فتقول: إنما يفعله عندنا أهل اللعب وأهل الفساد فلا دلالة على تحريم فرجة البحر .

وقال ابن العربي: إن علماءنا بجملتهم قالوا: إذا وقع البيع فسخ، قال: ولو كان حراما لم يقولوا فسخ، وأما الإمام الشافعي -رحمه الله- تعالى فسيأتي الكلام على نصوص مذهبه أثناء سياق المصنف .

وأما الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- تعالى فقال أبو الوفاء ابن عقيل في كتابه المسمى بالفصول صحت الرواية عن أحمد أنه سمع الغناء عن ابنة صالح، وقد قال أبو حامد: إن فعله يضاف إليه مذهبا [ ص: 465 ] يكون كالقول وحكاه عن جماعة الأصحاب، وقد كان أبو بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز يحملان الكراهة من أحمد على غناء يقترن به ما يقتضي الكراهة، وقال شارح المقفى روي عن أحمد أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكره، فقال له ابنه: يا أبت ألست كنت تنكره أو تكرهه؟ فقال: قيل لي أنهم يستعملون المنكر معه، وما استنبطه ابن الجوزي غير متجه .

وأما منع بيع الجارية المغنية فتقدم الكلام عليه عند ذكر مالك، وأما أخذه ذلك من كسب المخنث على تقدير تسليم أن كسبه بالغناء فلا يدل أن أكثر من قال بإباحة الغناء أطلق القول بمنع أخذ الأجرة، وقد يجوز الشيء ويمتنع مقابله بالعوضية لمعنى آخر، وكيف يصبح استنباط ذلك من مقتضى قوله يخالطه، وقد علل هو المنع بأنه كان يقول: إنه يقترن به منكر وقول ابن الجوزي: إنه يحمل فعله وقوله على ما كان يغنى من زمنه من القصائد الزهديات كلام عجيب، فإن الكلام في التحريم والإباحة للغناء نفسه لا ما يقترن به وكون الشعر الذي يغنى به مما لا يجوز، وليس موضع النزاع فإنه يكون تحريمه لمعارض ولا نعلم أحدا قال بجواز الغناء بالقصائد الزهديات دون غيرها .

وابن الجوزي غلب عليه الوعظ والرواية والفقيه الغواص له مرتبة أخرى، وأما سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- فحكى عنه تلميذه الزبير بن بكار في الموفقيات أنه لما قدم ابن جامع مكة بمال جم قال سفيان لأصحابه: علام يعطى ابن جامع هذه الأموال؟ قالوا: على الغناء، قال: ما يقول فيه؟ قال يقول:


أطوف بالبيت مع من يطوف     وأرفع من مئزري المسبل



قال: هي السنة ثم ماذا؟ قالوا: يقول .


وأسجد بالليل حتى الصبح     وأتلو من المحكم المنزل

قال أحسن وأصلح، ثم ماذا؟ قالوا: يقول:


عسى فارج الهم عن يوسف     يسخر لي ربة المحمل

قال: أفسد الخبيث ما أصلح، لا سخرها الله تعالى له، وهكذا ساقه الماوردي في الحاوي وساقه أيضا المبرد في الكامل إلا أنه قال لما سمع البيت الثالث أشار بالسكوت وقال: حلالا حلالا، وهذا من سفيان صريح في الجواز، ألا ترى أنه استحسن أولا، وإنما أنكر آخرا لما اقترن به من ذكر ربة المحمل في طوافه .

وأما عبد العزيز بن المطلب القاضي فأخرج له مسلم في صحيحه، والترمذي وغيرهما واستشهد به البخاري في الصحيح، وقد قدمنا أنه كان يغني وما غنى به في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر ثم ذكر الأدفوي جماعة من المتأخرين ممن كان يجوز السماع كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق وأبي نصر السندي والحاكم أبي عبد الله والشيخ تاج الدين القزازي والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد، وأطال في النقول عنهم ورأيت إن نقلت ذلك برمته طال الكتاب، وسيأتي ذكر كلام بعضهم في أثناء السياق بحسب المناسبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية