إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الدليل على إباحة السماع .

اعلم أن قول القائل : السماع حرام معناه أن الله تعالى يعاقب عليه وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص .

وأعني بالنص ما أظهره صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله وبالقياس المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله .

فإن لم يكن فيه نص ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه وبقي فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات .

ولا يدل على تحريم السماع نص ولا قياس ويتضح ذلك في جوابنا عن أدلة المائلين إلى التحريم .

ومهما تم الجواب عن أدلتهم كان ذلك مسلكا كافيا في إثبات هذا الغرض لكن نستفتح ونقول : قد دل النص والقياس جميعا على إباحته .

أما القياس فهو أن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب ، فالوصف الأعم أنه صوت طيب .

ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره .

والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات .

أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس ، أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به وللإنسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة إدراك ، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة .

وللشم الروائح الطيبة وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة .

وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وهي في مقابلة المرارة المستبشعة .

، وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة ، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة .

وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلادة .

، فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها .

، فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها .

أما ، النص فيدل على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده إذ قال يزيد في الخلق ما يشاء فقيل هو الصوت الحسن وفي الحديث : ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت .

وقال صلى الله عليه وسلم : لله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة لقينته وفي الحديث في معرض المدح لداود عليه السلام .

أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه ، وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الإنس والجن والوحوش والطير لسماع صوته ، وكان يحمل في مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب منها في الأوقات .

وقال صلى الله عليه وسلم : في مدح أبي موسى الأشعري لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود .

وقول الله تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن .

ولو جاز أن يقال : إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن للزمه أن يحرم سماع صوت العندليب ; لأنه ليس من القرآن .

وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة وإن من الشعر لحكمة .

فهذا نظر في الصوت من حيث إنه طيب حسن .


(بيان الدليل على إباحة السماع)

(اعلم أن قول القائل: السماع حرام معناه أنه الله تعالى يعاقب عليه) لارتكابه الحرمة الممنوعة، (وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل) إذ هو معزول عن الاستقلال (بل بالسمع) من جهة الشارع (ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص) بإجماع فقهاء الأمصار ولا عبرة بمخالفة الظاهرية فيه، (وأعني بالنص) ما ازداد وضوحا على الظاهر (ما أظهره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله أو فعله وبالقياس) إلحاق معلوم بمعلوم في حكمه لمساواة الأول الثاني في علة حكمه وهو (المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله فإن لم يكن فيه نص ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بالتحريم ويبقى فعلا لا حرج فيه كسائر المبيحات) وهو الذي فهمه ابن جريج كما تقدم قريبا .

(ولا يدل على تحريم السماع نص ولا قياس ويتضح ذلك في جوابنا أدلة المائلين إلى التحريم ومهما تم الجواب عن أدلتهم كان ذلك مسلكا كافيا في إثبات هذا الغرض) ، وهو الإباحة (لكن نستفتح ونقول: قد دل القياس والنص جميعا على إباحته أما القياس هو أن الغناء) قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: هو مكسور الأول ولا يضم، وقال الهروي: ممدود ويقصر صوت مرتفع متوال، وقال ابن سيده: الغناء من الصوت ما طرب به، هذا قول أهل اللغة، وأما في الاصطلاح فقد أشار إليه المصنف بقوله (اجتمع فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيب [ ص: 470 ] موزون مفهوم محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب ينقسم إلى الموزون وغيره، والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار وإلى غير المفهوم كصوت الجمادات وسائر الحيوانات) ، وحاصله أنه رفع الصوت المتوالي بالشعر وغيره على الترتيب المرعي الخاص في الموسيقى، ويندرج فيه البسيط المسمى بالاستبداء وهو صوت مجرد من غير شعر ولا رجز، لكنه على ترتيب خاص مضبوط عند أهل الصنعة، وهو من أحسن أنواع الغناء عندهم، وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: لهم شيء يسمونه بالبسيط يبتدئون به يزعج النفوس على مهل . اهـ .

ويشمل البسيط الاستبداء وهو أصوات متوالية، والضرب مزدوج ويشمل البيشرد، والضرب فيه مطرد، وقال ابن الجوزي والغناء اسم يقع على أشياء منها غناء الحجيج في الطرقات وفي معناه الغزاة ينشدون أشعارا في الحرب، وقال: يطلق على الحداء، وقال ابن عبد البر في التمهيد: إن اسم الغناء يشمل غناء الركبان وهو رفع الصوت بالشعر كالتغني به ترنما، وغناء النعب والحداء. اهـ .

وهذا يشعر بأن غناء النعب غير الركبان والصحيح أنه هو، صرح به ابن الكلبي في كتابه: ابتداء الغناء والعيدان، وقال صاحب الأغاني: لم يكن للعرب إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه الركباني وقال بعضهم: هو صوت فيه تمطيط ورقة .

(أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص بها) ، وفي نسخة: به، (وللإنسان عقل وخمس حواس) السمع والبصر والشم والذوق والحس (ولكل حاسة) من هذه الخمس (إدراك، وفي مدركات تلك الحواس ما يستلذ، فلذة البصر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن) ، فقد روى الحاكم في تاريخه من حديث علي وابن عمر، وأبو نعيم في الطب من حديث عائشة، والخرائطي في اعتدال القلوب من حديث أبي سعيد بلفظ: ثلاث يجلين البصر: النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن.

وروى أبو حسن العراقي في فوائده من حديث بريدة: ثلاث يزدن في قوة البصر؛ الكحل بالإثمد والنظر إلى الخضرة، والنظر إلى الوجه الحسن.

(وبالجملة سائر الألوان الجميلة) فإنه يستلذه البصر، (وهي في مقابلة ما يكره من الألوان المكدرة القبيحة) الردية (وللشم الروائح الطيبة) من كل مشموم على تباين أنواعه، (وفي مقابلتها) وفي بعض النسخ وهي في مقابلة (الأنتان المستكرهة) جمع نتن محركة، وقد نتن الشيء فهو نتن ونتين نتونة ونتانة من حد ضرب وقتل وتعب، وأنتن مثله فهو منتن (وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وهي في مقابلة المرارة) والمزازة (المستبشع، وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة، وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلاد، فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت البلابل) جمع بلبل طير معروف (والمزامير) جمع مزمور (ومستكرهة كنهيق الحمار وغيره، فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها، وأما النص فيدل على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله على عباده به إذ قال) في كتابه العزيز: ( يزيد في الخلق ما يشاء قيل) في تفسيره هو (حسن الصوت) هكذا فسره الزهري.

أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن حاتم والبيهقي في شعب الإيمان كله بأسانيدهم عنه، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: الصوت الحسن .

(وفي الحديث: ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت) .

قال العراقي: روى الترمذي في الشمائل عن قتادة من قوله وزاد: وكان نبيكم حسن الوجه وحسن الصوت. وروينا متصلا في الغيلانيات من رواية قتادة عن أنس، والصواب الأول قاله الدارقطني، ورواه ابن مردويه في التفسير من حديث علي بن أبي طالب وطرقه كلها ضعيفة . اهـ .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: لله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) ، رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك من حديث فضالة بن عبيد، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقد تقدم هذا للمصنف في كتاب آداب تلاوة القرآن، والأذن محركة هو الاستماع [ ص: 471 ] والإنصات قال عدي بن زيد:


أيها القلب تعلل بدرن إن همي في سماع وأذن



أي: في سماع واستماع، قال صاحب الإمتاع: فالتمثيل بالقينة والتقييد بصاحبها فيه إشعار بذلك، وليقع التشبيه كاملا مستوفى شبه شدة الاستماع إلى القراءة بشدة الاستماع إلى القينة وجعل استماع القراءة أشد وجعل القارئ في مقابلة القينة ولا شك أن النفوس تستلذ سماع الغناء أكثر من مجرد رفع الصوت بالشعر، وكذلك يستلذ لسماع التغني بالقرآن أكثر من مجرد القراءة ورفع الصوت بها من غير لحن يعد تغنيا، فإن الألحان لها تأثير في رقة القلب وجريان الدمع .

(وفي الحديث في معرض المدح لداود -عليه السلام- أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه، وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الإنس والجن والوحوش والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب منها في الأوقات) هكذا أورده صاحب القوت وصاحب العوارف ولفظ القشيري في الرسالة: وقيل: إن داود -عليه السلام- كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يحمل كل يوم من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن يسمع قراءته. وقال العراقي: هذا الحديث لم أجد له أصلا . اهـ .

قلت: قال ابن بطال: قال أبو عاصم: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: كانت لداود -عليه السلام- معزفة يتغنى عليها ويبكي ويبكي، قال: وقال ابن عباس: إن داود -عليه السلام- كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا يلون فيهن ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، فإذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة بر أو بحر إلا أنصتن ويستمعن ويبكين.

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: في مدح أبي موسى الأشعري) -رضي الله عنه- (لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود) أخرجه الشيخان، وقد تقدم في كتاب تلاوة القرآن الكريم، وثبت أيضا أن معاذ بن جبل قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته تحبيرا، ومن ذلك أن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قرأ فرجع وقرأ أبو إياس وقال: لولا أني أخشى أن يجتمع علي الناس لقرأت بذلك اللحن الذي قرأ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصحيحين من رواية شعبة، (وقال الله تعالى: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير دل بمفهومه على مدح الصوت الحسن) ، فإنه في مقابلته (ولو جاز أن يقال: إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن) خاصة (للزمه أن يحرم صوت البلبل; لأنه ليس يقرأ القرآن، وإذا جاز السماع لصوت غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة و) في الخبر (إن من الشعر لحكمة) أخرجه البخاري من حديث أبي بن كعب وسيأتي قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية