إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأدب الثالث : أن يكون مصغيا إلى ما يقول القائل حاضر القلب قليل الالتفات إلى الجوانب متحرزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد .

مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره متحفظا عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم .

بل يكون ساكن الظاهر هادئ الأطراف ، متحفظا عن التنحنح والتثاؤب ويجلس مطرقا رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ، ما عنه بد ، فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم .

ومهما رجع إليه الاختيار فليعد إلى هدوئه وسكونه .

ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال انقطع وجده على القرب ولا أن يتواجد خوفا من أن يقال : هو قاسي القلب عديم الصفاء والرقة .

حكي أن شابا كان يصحب الجنيد فكان ، إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما إن : فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان بعد ذلك يضبط نفسه حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق فحكي أنه اختنق يوما لشدة ضبطه لنفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه .

وروي أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه أو قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل له : مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك .

قال أبو القاسم النصراباذي لأبي عمرو بن عبيد أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خيرا لهم من أن يغتابوا فقال أبو عمرو : الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالا ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك .

فإن قلت الأفضل : هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو الذي يظهر عليه فاعلم أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من الوجد فهو نقصان وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن لكن لا يظهر ، لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال وتارة يكون لكون حال الوجد ملازما ومصاحبا في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال .

فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده فمن هو في وجد دائم ثم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود فهذا لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا ، معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال ، فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديدا في حقنا طارئا علينا حتى تتأثر به .

فإذا قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته ، وإما لضعف ما يقابله ، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك ، فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجدا من الساكن باضطرابه بل رب ساكن أتم وجدا من المضطرب .

فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت ، والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة .

وقال أبو الحسن محمد بن أحمد ، وكان بالبصرة صحبت سهل بن عبد الله ستين سنة فما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر أو القرآن ، فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه فاليوم لا يؤخذ منكم فدية الآية فرأيته قد ارتعد وكاد يسقط فلما عاد إلى حاله سألته عن ذلك فقال : نعم يا حبيبي قد ضعفنا .

وكذلك سمع مرة قوله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن فاضطرب فسأله ابن سالم وكان من أصحابه فقال : قد ضعفت ، فقيل له : فإن كان هذا من ضعف فما قوة الحال ? فقال : أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يلتقيه بقوة حاله فلا تغيره الواردات ، وإن كانت قوية .

وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود .

كما حكي عن سهل رحمه الله تعالى أنه قال : حالتي قبل الصلاة وبعدها واحدة لأنه كان مراعيا للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال .

فكذلك يكون قبل السماع وبعده إذ يكون وجده دائما وعطشه متصلا وشربه مستمرا بحيث لا يؤثر السماع في زيادته .

كما روي أن ممشادا الدينوري أشرف على جماعة فيهم قوال فسكنوا فقال ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي .


(الأدب الثالث: أن يكون مصغيا) بأذنه (إلى ما يقول القائل حاضر القلب قليل الالتفات إلى الجوانب) أي: الأطراف (مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه) من أن يخطر به خاطر شيطاني فيفسده عليه، (ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره) أي: باطنه (متحفظا من حركة تشوش على أصحابه قلوبهم بل يكون ساكن الظاهر هادئ الأطراف، متحفظا عن التنحنح) إلا عن غلبة (و) عن التثاؤب، فإنه من الشيطان وينبئ عن فتور في الباطن (ويجلس مطرقا رأسه) إلى الأرض (كجلوسه في [ ص: 563 ] فكر مستغرق لقلبه) أي: كجلوسه في تلك الحالة، فإن الفكر إذا استغرق قلبه سكن باطنه وظاهره (متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة) للناس، (ساكنا عن النطق في أثناء القول، وبكل ما عنه بد، فإن غلبه الوجد وحركه من غير اختياره) ، فقام وتواجد وتكلم أو صرخ، (فهو فيه معذور غير ملوم) فيه .

(ومهما رجع إليه الاختيار) وذهب عنه ذلك (فليعد إلى هدوه وسكونه، ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال: هو قاسي القلب) جامد الطبع (عديم الصفاء والرقة) . وقال صاحب العوارف: مبنى التصوف على الصدق في سائر الأحوال وهو جد كله لا ينبغي للصادق أن يتعمد الحضور في مجمع يكون فيه سماع إلا بعد أن يخلص النية لله تعالى ويتوقع مزيدا في إرادته وطلبه، ويحذر من ميل النفس لشيء من هواها ثم يقدم الاستخارة للحضور، ويسأل الله تعالى إذا عزم البركة فيه، وإذا حضر يلزم الصدق والوقار بسكون الأطراف. قال أبو بكر الكتاني: يجب على المستمع أن يكون في سماعه غير مستروح إليه يهيج منه السماع وجدا أو شوقا أو غلبة، فالوارد إذا ورد عليه يغنيه عن كل حركة وسكون، فيتقي الصادق ادعاء الوجد ويجتنب الحركة فيه مهما أمكن سيما بحضرة الشيوخ .

(حكي أن شابا كان يصحب الجنيد، وكان) من شأنه (إذا سمع من الذكر شيئا يزعق) ويصيح ويتغير عليه في الحال، (فقال الجنيد يوما: إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني) هكذا هو نص الرسالة، قال الشارح: الأولى لا تصحبني أي: إخفاء الأحوال عن غير الله أفضل لمن قدر عليه، (فكان بعد ذلك) إذا سمع شيئا (يضبط نفسه) عن الزعيق (حتى) كان (يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق) مما يقاسيه في الكتم من الشدة، (فحكي أنه انخنق يوما لشدة ضبطه نفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه) ، وأورده القشيري في الرسالة فقال: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد.... فساقه. وفيه: فيوما من الأيام صاح صيحة فتلفت نفسه أي: لغلبة قوة الحال عليه، فكان ذلك سبب موته، وما قاله الجنيد هو شأنه في القوة كما سيأتي عنه، وأورده السهروردي في العوارف نحوه (وروي أن موسى -عليه السلام- قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه) ولفظ الرسالة: وسئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عند السماع فقال: بلغني عن موسى -عليه السلام-.. فساقه إلا أنه قال: قميصه بدل ثوبه، ولفظ العوارف بعد أن أورد إنكار جماعة من الصحابة والتابعين على أحوال تعتري البعض عند قراءة القرآن من غير غلبة، وهذا القول ليس إنكارا منهم على الإطلاق؛ إذ يتفق ذلك لبعض الصادقين، ويمكن للمتصنع المتوهم في حق الأ كثرين قد يكون ذلك في البعض تصنعا ورياء، ويكون من البعض لقصور علم ومخامرة جهل ممزوج بهوى يلم بأخذ يسير من الوجد فيتبعه بزيادات يجهل أن ذلك يضر بدينه، وقد لا يجهل أن ذلك من النفس ولكن النفس تسترق السمع استراقا خفيا يخرج الوجد عن الحد الذي ينبغي أن يقف عليه، وهذا بيان الصدق، ونقل أن موسى -عليه السلام- وعظ قومه فشق رجل منهم قميصه (فأوحى الله تعالى لموسى -عليه السلام- قل له: مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك) ولفظ الرسالة: ثيابك، ولفظ العوارف: فقيل لموسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ويشرح قلبه .

(قال أبو القاسم) إبراهيم بن محمد (النصراباذي) كان عالما بالحديث كثير الرواية، وصحب الشبلي وأبا علي الروذباري والمرتعش جاور بمكة وبها مات سنة 267، ترجمه القشيري في الرسالة (لأبي عمرو بن نجيد) جد أبي عبد الرحمن السلمي لأمه، له ذكر في الرسالة في مواضع كثيرة، ولفظ الرسالة: سمعت أبا علي الدقاق يقول: اجتمع أبو عمرو بن نجيد والنصراباذي والطبقة في موضع فقال النصراباذي: (أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خير من أن يغتابوا) ولفظ الرسالة: إذا اجتمع القوم فواحد يقول شيئا ويسكت الباقون خير من أن يغتابوا أحدا، أي: لما قام عنده من أن الغيبة أقبح من الرياء، (فقال أبو عمرو: الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالات ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك) ، ولفظ الرسالة: لأن تغتاب ثلاثين سنة أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لست به أي: لما قام عنده من أن الرياء أقبح من الغيبة، قال الشارح: [ ص: 564 ] وقيل: لا مخالفة، فكلام النصراباذي في السماع حقيقة، فهو دائر بين حرام ونفل; لأن الغيبة حرام والسماع نفل، وترك الحرام مقدم على كل نافلة، وكلام أبي عمر: وفي السماع المراءى به فهو دائر بين حرامين الرياء والغيبة، ورأى أن الرياء أقبح وأضر، والغرض من ذلك التحذير من آفات السماع من قيام وصياح وتكلم وتحرك بغير حق . اهـ .

وقال صاحب العوارف: ليس من الصدق إظهار الوجد من غير وجد نازل، أو ادعاء الحال من غير حال حاصل، وذلك عين النفاق، قيل: كان النصراباذي كثير الولع بالسماع فعوتب في ذلك فقال: نعم هو خير من أن تقعد وتغتاب، فقال أبو عمرو بن نجيد وغيره من إخوانه: هيهات يا أبا القاسم زلة في السماع شر من كذا وكذا سنة تغتاب الناس؛ ذلك أن زلة السماع إشارة إلى الله تعالى وترويح للحال بصريح المحال، وفي ذلك ذنوب متعددة منها أنه يكذب على الله أنه وهب له شيئا وما وهب له، والكذب على الله من أقبح الزلات، ومنها أن يغر على الحاضرين فيحسن به الظن والإغرار خيانة، قال -صلى الله عليه وسلم-: من غشنا فليس منا.

ومنها: أنه إذا كان مبطلا ويرى بعين الصلاح سوف يظهر منه بعد ذلك ما يفسد عقيدة المعتقد فيه فتفسد عقيدته في غيره ممن يظن به الخير من أمثاله فيكون متسببا إلى فساد العقيدة في أهل الصلاح، ويدخل بذلك ضرر على الرجل الحسن الظن من فساد عقيدته فينقطع عنه مدد الصالحين، وتتشعب من هذا آفات كثيرة يقف عليها من يبحث عنها منها أن يحوج الحاضرين إلى مواقف في قيامه وقعوده فيكون متكلفا مكلفا للناس ببطالة، ويكون في الجمع من يرى بنور الفراسة أنه مبطل، ويحمل على نفسه الموافقة للجمع مداريا، ويكثر شرح الذنوب في ذلك فليتق الله ربه ولا يتحرك إلا إذا صارت حركته كحركة المرتعش الذي لا يجد سبيلا إلى الإمساك، وكالعاطس الذي لا يقدر أن يرد عطسته وتكون حركته بمثابة النفس الذي يتنفس تدعوه إلى التنفس داعية الطبع. انتهى .

(فإن قلت: فالأفضل هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو) هو (الذي) يحركه السماع (ويظهر عليه) أثره، (فاعلم هداك الله تعالى أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من السماع) إما لجهله بمنزلة السماع أو لسواد قلبه من ارتكاب المعاصي، أو لجمود طبعه مع الوقوف على الإنكار (فهو نقصان) عن أهل العرفان، (وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن، ولكن لكمال القوة على ضبط الجوارح وهو كمال) ولا يشترط فيه ملازمة تلك القوة باطنه بدليل قوله (وتارة يكون لكون حال الواجد ملازما ومصاحبا في الأحوال كلها) أي: في سائر أوقاته (فلا يتبين مزيد تأثيره) منه (وهو غاية الكمال) ونهاية مراتب الرجال، (فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده) ، وإنما يعتريه أحيانا .

(فمتى هو في وجد دائم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود) ، والملازم لعين الشهود أتم من ملاحظة الشهود دائما، (فهو لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول الصديق -رضي الله عنه-) حين رأى بعض الأعراب يبكي عند سماع القرآن: (كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا، معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال، فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديدا في حقنا طارئا علينا حتى نتأثر به) ، وهذا المعنى الذي أورده المصنف وصدره بقوله: ولا يبعد هو أقرب للأفهام .

قال صاحب العوارف: الوجد وارد يرد من الحق سبحانه، ومن يريد الله لا يقنع بما عند الله، ومن صار في محل القرب متحققا به لا يلهيه ولا يحركه ما من عند الله، فالوارد من عند الله مشعر ببعد، والقريب واجد فما يصنع بالوارد، والوجد نار والقلب الواجد به نور، والنور ألطف من النار، والكثيف غير مسلط على اللطيف، فما دام الرجل البالغ مستمرا على عادة استقامته غير منحرف عن وجهة معهودة بنوازع وجوده لا يدركه الوجد بالسماع، فإن دخل عليه فتور أو عاقه قصور بدخول الابتلاء عليه من المبتلى المحسن يتألف من تفاريق صور الابتلاء وجود يدركه الوجد لعود العبد عند الابتلاء إلى حجاب القلب، فمن هو مع الحق إذا زل وقع على القلب ومن هو مع القلب إذا زل وقع على النفس .

ثم ذكر جواب سهل التستري للذي سأله عن القوة فقال: هي أن لا يرد عليه وارد إلا ويبتلعه بقوة حاله ولا يغيره الوارد، قال: ومن هذا القبيل قول الصديق -رضي الله عنه- حتى قست القلوب، أي [ ص: 565 ] تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره، فما استغربته حتى تتغير، والواجد كالمستطرب. اهـ .

(فإذا قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر) من الحركة، (وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته، وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك، فلا تظن أن الذي يضرب نفسه على الأرض) أي: يقع مغشيا عليه (أتم وجدا من الساكن) الساكت المطرق برأسه (باضطرابه) وانقلاب حاله، (بل رب ساكن أتم وجدا من المضطرب فقد كان الجنيد) قدس سره (يتحرك في السماع في بدايته) أي: في أول سلوكه، (ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت، والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة) لا تتحرك، وقول الجنيد هذا قد ذكره القشيري في الوجد والتواجد، قال أبو محمد الجزري: كنت عند الجنيد، وعنده جماعة كابن مسروق وغيره، وثم قوال فقاموا والجنيد ساكت فقلت: يا سيدي ما لك في السماع شيء؟ فقال الجنيد: وترى الجبال تحسبها الآية (وقال أبو الحسن) كذا في النسخ، والصواب أبو الحسين (محمد بن أحمد، وكان بالبصرة) ، ولفظ الرسالة: سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بالبصرة يقول: سمعت أبي يقول: (صحبت) ولفظ الرسالة: خدمت وبين الصحبة والخدمة فرق كبير (سهل بن عبد الله) التستري قدس سره (ستين سنة) كذا في النسخ، ولفظ العوارف: سنين، ولفظ الرسالة: سنين كثيرة، (فما رأيته تغير عند) سماع (شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن، فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه) ولفظ العوارف: قرئ بين يديه، قوله تعالى: ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا فرأيته قد) تغير و (ارتعد وكاد يسقط) على الأرض (فلما عاد) أي: رجع (إلى حاله) أي: حال صحوه (سألته عن) سبب (ذلك فقال: نعم يا حبيبي) لما كبرنا واستشعرنا قرب الأجل والوقوف بين يدي الله تعالى، وأنه لا يؤخذ ممن عليه حق فدية (ضعفنا) عن كتم أحوالنا فظهرت، ولفظ الرسالة: فقال: يا حبيبي ضعفنا، ولفظ العوارف: فقال نعم لحقني ضعف، (وكذلك سمع) سهل مرة أخرى (قوله تعالى: الملك يومئذ الحق للرحمن فاضطرب) كذا لفظ العوارف، ولفظ الرسالة: وحكى ابن سالم قال: رأيته مرة أخرى قرئ بين يديه: الملك يومئذ الحق للرحمن فتغير وكاد يسقط، (فسأله ابن سالم) عن سببه، (وكان من أصحابه) وهو أبو الحسن علي بن سالم البصري من مشايخ صاحب القوت، (فقال: قد ضعفت، فقيل له: فإن كان هذا من الضعف فما قوة الحال؟ فقال: أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يبتلعه بقوة حاله فلا تغيره الواردات، وإن كانت قوية) ولفظ العوارف بعد قوله لقوة حاله: ولا يغيره الوارد، ولفظ الرسالة بعد قوله ضعفت: وهذه صفة الأكابر لا يرد عليه وارد وإن كان قويا إلا وهو أقوى منه .

(وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود) ، فمن كان كذلك يطيق على ضبط ظاهره ولا يظهر عليه أثر الوجد، (كما حكي عن سهل) بن عبد الله (-رحمه الله تعالى- أن قال: حالتي في الصلاة وبعدها واحدة) ، ولفظ العوارف: حالتي قبل الصلاة كحالتي في الصلاة؛ (لأنه كان مراعيا للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال) أي: مستمرا على حالة الشهود، (فكذلك قبل السماع وبعده) كذا في سائر النسخ، والأولى قبل السماع، وفيه ويؤيده لفظ العوارف، فهكذا في السماع وقبل السماع، (إذ يكون وجده دائما وعطشه متصلا وشربه مستمرا بحيث لا يؤثر السماع في زيادته) أشار به إلى قول الحصري الذي تقدم ينبغي أن يكون ظمأ دائما وشربا دائما، فكلما زاد شربه زاد ظمؤه، (وكان) أبو علي (ممشاذ الدينوري) -رحمه الله تعالى- مات سنة 399 تقدم ذكره (أشرف على جماعة فيهم قوال فسكتوا) ، ولفظ العوارف: ومر ممشاذ بقوم فيهم [ ص: 566 ] قوال فلما رأوه أمسكوا، ولفظ الرسالة: سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن علي الكرخي الوجيهي يقول: كان جماعة من الصوفية مستجمعين في بيت الحسن القزاز ومعهم قوالون يقولون ويتواجدون، فأشرف عليهم ممشاذ الدينوري فسكتوا (فقال) لهم: (ارجعوا إلى ما كنتم عليه) ، ولفظ الرسالة والعوارف: فيه، (فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفى بعض ما بي) ، ومن هذا القبيل قول بعضهم: أنا ردم كله لا ينفذ في قول .

التالي السابق


الخدمات العلمية