إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
[ ص: 2 ] كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الكتاب التاسع من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا تستفتح الكتب إلا بحمده .

.

ولا تستمنح النعم .

إلا بواسطة كرمه ورفده .

والصلاة على سيد الأنبياء محمد رسوله وعبده .

وعلى آله الطيبين ، وأصحابه الطاهرين من بعده .

أما بعد ؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين .

وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين .

ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون .

إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلا بعملها أو متقلدا لتنفيذها مجددا لهذه السنة الداثرة ناهضا بأعبائها ومتشمرا في إحيائها كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها .


[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد، الله ناصر كل صابر، الحمد لله الذي لا يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولا يستنجح بأحسن من صنعه مرام، الوهاب المنان، متبع الإحسان بالإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، سيد البشر، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الوافي عهده، الصادق وعده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المخصوصين بعلو الهمة، والحائزين الفضائل الجمة، صلاة تشرق إشراق البدور، وتتردد تردد أنفاس الصدور، وسلم وكرم، وشرف وعظم، وبعد؛ فهذا شرح (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو التاسع من الربع الثاني من كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام بحر العلوم الزاخر، الجامع لأنواع المفاخر، أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، سقى الله ثراه صوب غيث رحمته المتوالي، يشرح ظاهر ألفاظه، ويلوح بالتنبيه على مسارح ألحاظه، ويفسر مدارج تحقيقاته المهمة، ويكشف عن معضلات مباحثه المدلهمة، على وجه رائق يسهل طريق المفاد، ونهج شائق يتوسط للوصول إلى المراد، والله أسأل أن يمدنا بمنائح نفحاته، ويعيد علينا من نوافح بركاته، وهو الموفق لا إله غيره، ولا خير إلا خيره .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) واستفتح به كتابه تيمنا باسمه الكريم، واقتفاء لآثار حبيبه الرسول الكريم، ثم قفاه بقوله: (الحمد لله) جمعا بين الآثار، ورعاية لسياق الأخبار، وفي كل من الجملتين كلام تقدم بعضه في الكتب السالفة من هذا الكتاب، واشتهرت مباحثهما بين أولي الألباب (الذي لا تستفتح الكتب) جمع كتاب، وهو في الأصل اسم الصحيفة مع المكتوب فيه (إلا بحمده) أي: ثنائه عليه بما أثنى به على نفسه على لسان أنبيائه ورسله .

والاستفتاح: [ ص: 3 ] الاستبداء "استفعال" من الفتح، الذي هو إزالة الانغلاق والإشكال، أي: لا تكون مبدوءة إلا بذكره .

(ولا تستمنح النعم) أي: لا تستعطى، والاستمناح: "استفعال" من المنح، بفتح فسكون، وهو العطاء والنعم، بكسر ففتح، جمع نعمة .

(إلا بواسطة كرمه ومجده) والكرم: إفادة ما ينبغي، لا لغرض، والمجد سعة الكرم، فمن كان واسعا في كرمه تستمنح منه الرغائب، وجليل العطايا، فكأن سعة كرمه صارت واسطة للطلب .

(والصلاة) والسلام (على سيدنا محمد رسوله وعبده) أشار به إلى وجهي النبوة، فمن حيث الحق: وجه العبودية، ومن حيث الخلق: وجه الرسالة. والعبودية أشرف المقامات، ولذا ذكر بها في جملة آي من القرآن، وإليه أشار الشاعر:


لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائيا



وذكر الصلاة غير مقرونة بالسلام فيه اختلاف بين العلماء، وقد تقدمت الإشارة إليه في أول كتاب العلم .

(وعلى آله الطيبين، وأصحابه الطاهرين من بعده) طيبهم الله تعالى، وطهرهم من كل دنس ورجس، حتى صارت صلاحيته لأهليته وقرابته وصحبته .

(أما بعد؛ فإن الأمر بالمعروف) وهو ما قبله العقل، وأقره الشرع، ووافقه كرم الطبع، (والنهي عن المنكر) وهو ما ليس فيه رضا الله تعالى من قول أو فعل، (هو القطب الأعظم في الدين) وأصل القطب هو الخط المستقيم الواصل من جانب الدائرة إلى الجانب الآخر، بحيث يكون وسطه واقعا على المركز .

(وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين) يقال: بعث له، وإليه، وابتعث: بعثه أيضا، وابتعثه: وجهه، والمهم من الأمور ما قصد إليه ببذل الهمة، والغرض من بعثة الأنبياء إصلاح أمور الدنيا وأمور الآخرة; فإصلاح أمور الآخرة بمعرفة الله تعالى، وتلقي شرائعه التي شرعها الله لعباده، وإصلاح أمور الدنيا بانتظام معايشهم، واتفاقهم على كلمة الحق، وحسن معاملتهم، وكل ذلك لا يتم إلا بائتمار المعروف بينهم، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه وأنكره .

(ولو طوي بساطه) وهو كناية عن الإعراض عنه (وأهمل) أي: ترك (علمه وعمله) أي: معرفته بحدوده وأركانه والعمل به. (تعطلت النبوة) أي: شعائرها (واضمحلت الديانة) أي: انمحى أثرها، (وعمت الفترة) أي: السكون والهدوء، (وشاعت الضلالة) أي: ظهرت، (واستشرى الفساد) أي: طار شرره، وقوي، وفي نسخة: انتشر، أي: ظهر، (واتسع الخرق) على راقعه (وخربت البلاد) باختلاف كلمة أهلها، (وهلك العباد) بتعدي القوي على الضعيف، (وإن لم يشعروا بالهلاك) ؛ لانغماسهم في بحر الحيرة، (إلى يوم التناد) أي: يوم القيامة، حيث ينادي بعضهم بعضا، (وقد كان) أي: وجد ووقع (الذي خفنا) منه (أن يكون) ، فما يسع إلا النطق بكلمة الاسترجاع (إنا لله وإنا إليه راجعون) . هذا قاله المصنف في رأس الخمسمئة، فكيف لو أدرك زماننا ونحن على رأس المئتين بعد الألف؟! ولا قوة إلا بالله، ثم شرع يبين ما حق له به الاسترجاع .

فقال: (إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه) أي: انطمس أثر العامل به، وكذا العالم بقوانينه وحدوده (وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه) فلم يبق إلا اسمه، (واستولت على القلوب مداهنة الخلق) فيرى أحدهم منكرا يقدر على دفعه فلا يدفعه حفظا لجانب مرتكبه، أو لقلة مبالاته في الدين، (وانمحت عنها مراقبة الخالق) جل جلاله، (واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات) أي: أرسلوا نفوسهم في اتباع ما تميل وتنزع إليه من مستلذات الشهوات من غير داعية الشرع (استرسال البهائم) في مراعيها، (وعز على بساط الأرض) أي: وجهها أي: قل وندر وجود (مؤمن صادق) في إيمانه، كامل في إحسانه ممن (لا تأخذه في الله) أي: لأجله (لومة لائم) وعذلة عاذل، (فمن سعى في تلافي) أي: تدارك (هذه الفترة وسد هذه الثلمة) بالضم، أي: الخلل الواقع فيه، كثلمة الحائط (إما متكفلا بعلمها) بأن يعلم الناس بما أعطاه من بيان قوانينها ورسومها وحدودها إن لم يكن أهلا للعمل بها (أو متقلدا لتنفيذها) وإمضائها إن كان قادرا على ذلك (مجددا لهذه السنة الداثرة) أي: المندثرة (ناهضا) أي: قائما (بأعبائها) أي: بإثباتها (ومتشمرا في إحيائها) أي: مجتهدا (كان مستأثرا) أي: مخصوصا (من بين الخلق) أي: من دونهم (بإحياء سنة أفضى الزمان) أي: [ ص: 4 ] أهله (إلى إماتتها، ومستبدا) أي: مشتغلا (بقربة) أي: طاعة (تتضاءل) أي: تتصاغر (درجات القرب دون) البلوغ إلى (ذروتها) أي: أعلاها، والمراد بدرجات القرب هي المقامات التي يعطى العبد في سلوكه إلى الله تعالى، ويخصص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الحق بها، فكل مقام منها عن درجة، وهي أعلى من التي فارقها .

التالي السابق


الخدمات العلمية