إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الشرط الرابع : أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد ، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار ، إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم ، لو رأى الشافعي شافعيا يشرب النبيذ ، وينكح بلا ولي ، ويطأ زوجته ، فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده بل على كل مقلد اتباع مقلده في كل تفصيل فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكرا بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له : الفعل في نفسه حق ، ولكن لا في حقك ؛ فأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي ، ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك ، وإن كانت صوابا عند الله وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ، ويقول له إما : أن تعتقد أن الشافعي أولى بالاتباع ثم تقدم عليه أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه لأنه على خلاف معتقدك ، ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات، وهو أن يجامع الأصم مثلا امرأة على قصد الزنا ، وعلم المحتسب أن هذه امرأته، زوجه أبوه إياها في صغره، ولكنه ليس يدري، وعجز عن تعريفه ذلك ؛ لصممه ، أو لكونه غير عارف بلغته ، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة ، فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته ، وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله ، ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلا من مشيئة أو غضب أو غيره ، وقد وجدت الصفة في قلبه ، وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع ، أعني باللسان لأن ذلك زنا ، إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثا وكونهما غير عاصيين ؛ لجهلهما بوجود الصفة ، لا يخرج الفعل عن كونه منكرا ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه ، فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله ، وإن لم يكن منكرا عند الفاعل ، ولا هو عاص به ؛ لعذر الجهل ، فيلزم من عكس هذا أن يقال : ما ليس بمنكر عند الله إنما هو منكر عند الفاعل ؛ لجهله ، لا يمنع منه ، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكرا باتفاق المحتسب والمحتسب عليه ، وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال ، ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع ، وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراما ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد ، إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية، ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الاستدبار هو الصواب ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ، ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلا ؛ فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به فإن قلت : إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي ؛ لأنه يرى أنه حق ، فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله : إن الله لا يرى ، وقوله وإن الخير من الله، والشر ليس من الله، وقوله كلام الله مخلوق ولا على الحشوي في قوله : إن الله تعالى جسم ، وله صورة ، وإنه مستقر على العرش ، بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله : الأجساد لا تبعث ، وإنما تبعث النفوس ؛ لأن هؤلاء أيضا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه ، وهم يظنون أن ذلك هو الحق فإن قلت : بطلان مذهب هؤلاء ظاهر ، فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضا ظاهر ، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى ، والمعتزلي ينكرها بالتأويل ، فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي ، كمسألة النكاح بلا ولي ، ومسألة شفعة الجوار، ونظائرهما فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه : كل مجتهد مصيب ، وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة ، وذلك هو الذي لا يعترض على المجتهدين فيه؛ إذ لم يعلم خطؤهم قطعا، بل ظنا .

وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحدا كمسألة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى ، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعا ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها، وتنكر على المبتدعين بدعهم ، وإن اعتقدوا أنها الحق كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم ، وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع ، بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد فإن قلت : فمهما اعترضت على القدري في قوله : الشر ليس من الله ، اعترض عليك القدري أيضا في قولك : الشر من الله ، وكذلك في قولك : إن الله يرى ، وفي سائر المسائل إذ المبتدع محق عند نفسه ، والمحق مبتدع عند المبتدع ، وكل يدعي أنه محق ، وينكر كونه مبتدعا ، فكيف يتم الاحتساب؟ فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة ، فإن كانت البدعة غريبة ، والناس كلهم على السنة ، فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة ، فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان ، فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره ، وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك ، وليس لغيره فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل ، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه، وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ، ولا ينجر إلى تحريك الفتنة بل لو أذن السلطان مطلقا في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق ، أو أن الله لا يرى ، أو أنه مستقر على العرش مماس له ، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه ، وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط .


(الشرط الرابع: أن يكون كونه منكرا معلوما) للناس (بغير اجتهاد، فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه، فليس للحنفي) المذهب (أن ينكر على الشافعي) المذهب (أكله الضب والضبع) ، وهما حيوانان معروفان تقدم الكلام عليهما، وكذا أكله (متروك التسمية) عمدا (ولا على الشافعي) المذهب (أن ينكر على الحنفي) المذهب (شربه النبيذ الذي ليس بمنكر، و) كذا (تناوله ميراث ذوي الأرحام، و) كذا (جلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار، إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد) مما هو معلوم من مذهبيهما (نعم، لو رأى الشافعي شافعيا يشرب النبيذ، وينكح بلا ولي، ويطأ زوجته، فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار) عليه في ذلك (إذ لم يذهب من المحصلين) للعلم (أحد إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره) إلا إن وافق اجتهاده (ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء) واعتقد فيه ذلك (أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد) ، ويختار (من المذاهب أطيبها عنده) وأوفقها لرأيه (بل على كل مقلد) بكسر اللام (اتباع مقلد) بفتح اللام (في كل تفصيل) من مسائل مذهبه، (فإذا مخالفته) أي: المقلد (للمقلد في) مسألة من المسائل (متفق على كونه منكرا بين المحصلين) من أهل العلم (وهو عاص بالمخالفة) له (إلا أنه يلزم من هذا أمر) هو أغمض منه (وهو أن يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا) رآه قد (نكح بغير ولي بأن يقول له: الفعل في نفسه حق، ولكن لا في حقك؛ فأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي، ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك، وإن لم يكن صوابا عند الله) تعالى، (وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب) والضبع (ومتروك التسمية) عمدا (وغيره، ويقول له: أما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالاتباع ثم تقدم عليه أو) لا تعتقد ذلك و (لا تقدم عليه) ؛ لأنه (على خلاف معتقدك، ثم ينجر هذا إلى أمر آخر في المحسوسات، وهو أن يجامع أصم -مثلا-) ، وهو فاقد حاسة السمع (امرأة على قصد الزنا، وعلم المحتسب أن هذه امرأته، زوجه إياها أبوه منه في صغره، ولكنه ليس يدري، وعجز عن تعريفه ذلك؛ لصممه، أو لكونه غير عارف بلغته، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية [ ص: 37 ] عاص) لله تعالى، ومؤاخذ به (ومعاقب عليه في الدار الآخرة، فينبغي أن يمنعه منه، مع أنها زوجت، وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله) تعالى (قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله، ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلا من مشيئة أو غضب أو غيره، وقد وجدت الصفة في قلبه، وعجز عن تعريف الزوجين ذلك، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن) لوجود الصفة، (فإذا رآه يجامعها فعليه المنع من ذلك، أعني باللسان) لا باليد؛ (لأن ذلك زنا، إلا أن الزاني غير عالم به) لعدم وجود الصفة عنده، (والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثا) أي: طلاقا بائنا (وكونهما) أي: الزوجين (غير عاصيين؛ لجهلهما بوجود الصفة، لا يخرج الفعل عن كونه منكرا) في نفسه، (ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون) امرأة أجنبية (وقد بينا أنه يمنع منه، فإذا كان يمنع هو مما هو منكر عند الله، وإن لم يكن منكرا عند الفاعل، ولا هو عاص به؛ لعذر الجهل، فيلزم من عكس هذا أن يقال: ما ليس بمنكر عند الله) تعالى، (وإنما هو منكر عند الفاعل؛ لجهله، لا يمنع منه، وهذا هو الأظهر) من الأقوال (والعلم عند الله) تعالى، (فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي، وإن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكرا باتفاق المحتسب والمحتسب عليه، وهذه مسائل فقهية دقيقة) المدرك (والاحتمالات فيها متعارضة) وإطلاق القول بالترجيح فيها عسر (وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال، ولسنا نقطع بخطأ المخالف فيها إن رأى) واعتقد (أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع، وقد ذهب إليه ذاهبون) من العلماء، (وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والحرير) ؛ لاتفاقهم على حرمة كل منهما، (وما يقع بكونه حراما) ولم يختلف فيه، فهذا مذهب جماعة من العلماء، (ولكن الأشبه عندنا) معاشر الشافعية (أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد، إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة) معلومة معينة (بالدلالات الظنية، ثم يستدبرها، ولا يمنع عنه لأجل ظن غيره أن الاستدبار هو الصواب، و) أما (رأي من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد) بهوى نفسه؛ فإنه (غير معتد به، ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلا؛ فهذا مذهب لا يثبت) عند أهل المعرفة، (وإن ثبت فلا يعتد به) عند أهل العلم (فإن قلت: إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بغير ولي؛ لأنه يرى أنه حق، فينبغي ألا يعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يرى، وقوله: إن الخير من الله، والشر ليس من الله، وقوله في كلام الله: مخلوق) وغير ذلك من الأقوال التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، (وعلي الحشوي في قوله: إن الله جسم، وله صورة، وإنه مستقر على العرش، بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تبعث، وإنما تبعث النفوس؛ لأن هؤلاء أيضا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه، وهم يظنون أن ذلك هو الحق) ومن يخالفهم على الباطل، واستدلوا على ذلك بآيات وأخبار، ما عدا الفلسفي، فإنما استدلالهم بالعقل فقط (فإن قلت: بطلان مذهب هؤلاء ظاهر، فبطلان من يخالف نص الحديث الصحيح) يشير إلى حديث: "لا نكاح إلا بولي"، وقد تقدم الكلام عليه، وكذا من يخالف نص الآية [ ص: 38 ] كقوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه (أيضا ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى، والمعتزلي ينكرها بالتأويل، فكذلك ثبتت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي، كمسألة النكاح بلا ولي، ومسألة شفعة الجوار، ونظائرها فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتصور أن يقال فيها: كل مجتهد مصيب، وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة، وذلك هو الذي لا يعترض على المجتهدين فيه؛ إذ لا يعلم خطؤهم قطعا، بل ظنا) .

اعلم أنه اختلف العلماء في أن كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد، ومعناه أن كل من حكم بحكم واقعة، فهل هو حكم بما أمره الله أم لا، والخلاف مبني على أن لكل واقعة حكما متعينا في نفس الأمر أم لا، بل يتعين باجتهاد المكلف واختياره، فإن كان، لم يكن المصيب إلا واحدا، وإن لم يكن كلهم مصيبا، وعلى أن لكل حكم دليلا قطعيا أم ظنيا، فإن كان عليه دليل ظني فلا يكون المصيب إلا واحدا، وإن كان قطعيا كان الكل مصيبا؛ لامتناع الخطإ في القطعي، والمختار عند الشافعي أن لكل واقعة حكما متعينا في نفسه، وعليه دليل ظني، فيلزم ألا يكون الكل مصيبا، بل المصيب واحد، وله أجران، أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر الاجتهاد فقط، ولا يكون آثما بحيث الخطأ فيه، وهذا القول -أعني: "كل مجتهد مصيب"، منقول عن الأشعري والقاضي وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، ولهم في ذلك تفصيل واختلاف محله كتب الأصول (وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحدا، كمسألة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعا؛ فلا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض عبرة) أشار بهذا القسم إلى ما عرف عندهم أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيبا، بل الحق فيها واحد، فمن أصابه أصاب، ومن فقده أخطأ .

وقال العنبري والجاحظ: كل مجتهد فيها مصيب، أي: لا إثم عليه، وهما محجوبان بالإجماع، كما نقله الآمدي (فإذا البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها، وتنكر على المبتدعين بدعهم، وإن اعتقدوا أنها الحق) عندهم (كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم، وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق) عندهم (لأن خطأهم معلوم على القطع، بخلاف الخطإ في مظان الاجتهاد) فإنما يعلم ظنا، (فإن قلت: فمهما اعترضت على القدري في قوله: الشر ليس من الله، اعترض عليك القدري أيضا في قولك: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يرى، وفي سائر المسائل) المختلف فيها (إذ المبتدع محق في نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق، وينكر كونه مبتدعا، فكيف الاحتساب؟ فاعلم أننا لأجل هذا التعارض نقول: ننظر إلى البلاد التي فيها أظهرت تلك البدعة، فإن كانت البدعة غريبة، والناس كلهم على السنة، فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان) ؛ لقيام شوكة السنة، (وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة) كما هو في غالب بلدان العجم، (وكان في الاعتراض تحريك فتنة) وإثارة شر (بالمقابلة، فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب من السلطان، فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره، وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة) عن إظهار البدعة (كان له ذلك، وليس لغيره) من الآحاد من غير إذن؛ (فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة الآحاد يتقابل الأمر فيه، وعلى الجملة فالحسبة في البدع أهم من الحسبة في كل المنكرات) سواها، (ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه؛ كي لا يتقابل الأمر فيه، ولا ينجر إلى تحريك الفتنة) وإثارة الفساد، (بل لو أذن السلطان مطلقا في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى، أو أنه مستقر [ ص: 39 ] على العرش مماس له، أو غير ذلك من البدع، تسلط الآحاد على المنع منه) من عند أنفسهم، (ولم يتقابل الأمر فيه، وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط) .

التالي السابق


الخدمات العلمية