إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولنذكر فيه أولا بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه ثم بيان جملة من آدابه وأخلاقه ثم بيان كلامه وضحكه ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس ثم بيان عفوه مع القدرة ثم بيان إغضائه عما كان يكره ، ثم بيان سخاوته وجوده ثم بيان شجاعته وبأسه ثم بيان تواضعه ثم بيان صورته وخلقته ثم بيان جوامع معجزاته وآياته صلى الله عليه وسلم .

بيان تأديب الله تعالى حبيبه وصفيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق فكان يقول في دعائه : اللهم حسن خلقي وخلقي ويقول : اللهم جنبني منكرات الأخلاق فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل : ادعوني أستجب لكم فأنزل عليه القرآن وأدبه به فكان خلقه القرآن .

قال سعد بن هشام دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : أما تقرأ القرآن قلت : بلى ، قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .


(بيان تأديب الله تعالى حبيبه وصفيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن)

اعلم أنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال) الضراعة بالفتح اسم من التضرع، والابتهال هو التضرع إلى الله تعالى وهو إظهار الضراعة أي الذل بين يدي الله تعالى (دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب) الظاهرة، (ومكارم الأخلاق) الباطنة (فكان يقول في دعائه: اللهم حسن خلقي وخلقي) الأول بفتح فسكون والثاني بضمتين واحد الأخلاق أي لأتقوى على تحمل أثقال الخلق والخلق بمحض العبودية والرضا بالقدر ومشاهدة الربوبية، وقال الطيبي: ويحتمل أن يراد به طلب الكمال وإتمام النعمة عليه بإكمال دينه، وفيه إشارة إلى ما سيأتي من قول عائشة: كان خلقه القرآن. وأن يكون قد طلب المزيد والثبات على ما كان .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث ابن مسعود ومن حديث عائشة، ولفظهما: اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي. وإسنادهما جيد، وحديث ابن مسعود رواه ابن حبان اهـ .

قلت: ووهم من زعم أنه أبو مسعود، ولفظه ولفظ أحمد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى المرآة قال: اللهم أحسنت إلخ، وفي رواية: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي، وفي أخرى: فأحسن خلقي. وتمسك بهذا الحديث من قال: إن حسن الخلق غريزي لا مكتسب، والمختار أن أصول الأخلاق غرائز، والتفاوت في الثمرات، وهو الذي به التكليف .

وروى ابن السني في عمل اليوم والليلة من حديث أنس رفعه: كان إذا نظر وجهه في المرآة قال: الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله وكرم صورة وجهي فحسنها وجعلني من المسلمين.

وروى أبو يعلى والطبراني من حديث ابن عباس رفعه: كان إذا نظر في المرآة قال: الحمد لله الذي حسن خلقي وخلقي وزان مني ما شان من غيري، (و) كان صلى الله عليه وسلم (يقول: اللهم جنبني منكرات الأخلاق) .

قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه واللفظ له من حديث قطبة بن مالك، وقال الترمذي: اللهم إني أعوذ بك اهـ .

قلت: وقطبة بن مالك هو عم زياد بن علاقة روى عنه زياد، ولفظ الترمذي، وكذا الطبراني في الكبير: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء. ولفظ الحاكم [ ص: 92 ] اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، ومنكرات الأخلاق كحقد وبخل وحسد وجبن ونحوها، ومنكرات الأعمال الكبائر من نحو قتل وزنا وشرب وسرقة ونحوها، ومنكرات الأهواء الزيغ والانهماك في الشهوات أي: المستلذات والمستحسنات عند النفس لأنه شغل عن الطاعة يؤدي إلى الأشر والبطر ، ومنكرات الأدواء من نحو جذام وبرص وسل واستقساء وذات جنب فهذه كلها نوائب الدهر، فهو يقول: أعوذ بك من نوائب الدهر ،وعطف العمل على الخلق والهوى على العمل والداء عليه، وإن كان الكل على الأول من باب الترقي في الدعاء إلى ما يعم نفعه، وقال الطيبي : والإضافة إلى المعرفتين الأوليين إضافة الصفة إلى الموصوف، قال الحكيم الترمذي : وإنما استعاذ من هذه الأربع لأن ابن آدم لا ينفك عنها في منقلبه ليلا ولا نهارا، ومنها ما يعظم الخطب فيه حتى يصير منكرا غير متعارف فيما بينهم، فذلك الذي يشار إليه بالأصابع في ذلك ومنه يعظم الوبال، وذكر هذا مع عصمته تعليما لأمته (فاستجاب الله دعاءه وفاء بقوله عز وجل: ادعوني أستجب لكم فأنزل عليه القرآن وأدبه) وتقدم ما يتعلق بهذه الآية في كتاب الأوراد والأدعية، (فكان خلقه القرآن، قال سعد بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني ابن عم أنس بن مالك روى عن أبيه وعائشة، وعنه زرارة بن أوفى والحسن وحميد بن همال قال النسائي : ثقة، وذكر البخاري : أنه قتل بأرض مكران على أحسن أحواله روى له البخاري حديثا واحدا، والباقون، (دخلت على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فسألتها عن أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: أما تقرأ القرآن قلت: بلى، قالت: كان خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن) أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك، وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما فصل في القرآن فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه، ودعا إليه فقد تحلى به ،وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه، فكان القرآن بيان خلقه .

وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته .

وقال السهروردي في العوارف: فيه رمز غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية فاحتشم الراوي الحضرة الإلهية أن يقول: كان متخلقا بأخلاق الله تعالى، فعبر الراوي عن المعنى بقوله: كان خلقه القرآن استحياء من سبحات الجلال، وسترا للحال بلطف المقال وذا من وفور العقل وكمال الأدب، وبذلك عرف أن كمالات خلقه لا تتناهى كما أن معاني القرآن لا تتناهى وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر اهـ .

قال العراقي : رواه مسلم ووهم الحاكم في قوله: إنهما لم يخرجاه اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد وأبو داود .

التالي السابق


الخدمات العلمية