إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكان يأكل مما يليه ويأكل بأصابعه الثلاث وربما استعان بالرابعة ولم يأكل بأصبعين ، ويقول : إن ذلك أكلة الشيطان وجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه ، وقال : ما هذا يا عبد الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي نجعل السمن والعسل في البرمة ونضعها على النار ثم نغليه ، ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل في البرمة ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الطعام طيب وكان يأكل خبز الشعير غير منخول وكان يأكل القثاء بالرطب وبالملح .


(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل مما يليه) قال العراقي : رواه أبو الشيخ من حديث عائشة، وفي إسناده رجل لم [ ص: 117 ] يسم ، وسماه في رواية له ، وكذلك البيهقي في روايته في الشعب عبيد بن القاسم ، نسيب سفيان الثوري ، وقال البيهقي : تفرد به عبيد هذا ، وقد رماه بن معين بالكذب ، ولأبي الشيخ من حديث عبد الله بن جعفر نحوه اهـ .

قلت: وروى البخاري في التاريخ ، عن جعفر بن أبي الحكم مرسلا ، "كان إذا أكل لم تتعد أصابعه ما بين يديه"، ورواه أبو نعيم في المعرفة ، عن الحكم بن رافع بن يسار ، ورواه الطبراني في الكبير عن الحكم بن عمرو الغفاري ، وروى الخطيب من حديث عائشة : "كان إذا أتي بطعام أكل مما يليه ، وإذا أتي بالتمر جالت يده"، ثم إن الأكل مما يلي الآكل على الندب على الأصح ، وقيل: على الوجوب; لأنه من إلحاق الضرر بالغير ، ومزيد الشره والنهمة ، وانتصر له السبكي ، ونص عليه الشافعي في الرسالة ومواضع من الأم ، ومحل الكراهة ، أو الحرمة إن لم يعلم رضا من يأكل معه ، وإلا فلا ، لما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان يتتبع الدباء من حوالي القصعة"، كما سيأتي; لأنه علم أن أحدا لا يكره ذلك ولا يستقذره ، ومن أجاب بأنه كان يأكل وحده مردود بأن أنسا كان يأكل معه على أن قضية كلام الأصحاب أن الأكل مما يليه سنة ، وإن كان وحده ، ويفهم من خبر عائشة السابق التفصيل في الطعام والتمر ، وفيما إذا كان الطعام لونا واحدا فلا يتعدى الآكل مما يليه ، وإذا كان أكثر يتعداه ولا ضرر ، وفي نحو التمر ولا تقذر ، وبحث بعضهم التعميم غفلة عن المعنى ، وعن السنة، والله أعلم .

(ويأكل بأصابعه الثلاث) الإبهام والسبابة والوسطى، قال العراقي : رواه مسلم من حديث كعب بن مالك اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي في الشمائل ، ولفظهم جميعا : "كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق قبل أن يمسحها".

ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام"، (وربما استعان بالرابعة) .

قال العراقي : رويناه في الغيلانيات من حديث عامر بن ربيعة ، وفيه القاسم بن عبد الله العمري، هالك ، وفي مصنف ابن أبي شيبة من رواية الزهري مرسلا :"كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل بالخمس اهـ .

قلت: حديث عامر بن ربيعة رواه أيضا الطبراني في الكبير ولفظه: " كان يأكل بثلاث أصابع ويستعين بالرابعة"، وأما مرسل الزهري فمحمول على المائع ، وذلك لأن الاقتصار على الثلاث محله إن كفت ، وإلا فكما في المائع زاد بحسب الحاجة ، (ولم يكن) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل بأصبعين ، ويقول: إن ذلك أكلة الشياطين) .

قال العراقي : رواه الدارقطني في الإفراد من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف: "لا تأكل بأصبع فإنه أكل الملوك ولا تأكل بأصبعين فإنه أكل الشياطين"، الحديث اهـ .

قلت: ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بلفظ: "لا تأكلوا بهاتين ، وأشار بالإبهام والمشيرة ، كلوا بثلاث فإنها سنة ولا تأكلوا بالخمس فإنها أكلة الأعراب"، (و) يروى أنه -صلى الله عليه وسلم- (جاءه عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- (بفالوذج) وهو اسم أعجمي لنوع من الحلواء (فأكل منه، وقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟) ، قال ابن عبد البر يكنى أبا عبد الله ، وأبا عمرو كنيتان مشهورتان ، وأبو عمرو أشهرهما قيل: إنه ولدت له رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنا ، فسماه عبد الله ، واكتنى به ، ومات ، ثم ولد له عمرو فاكتنى به إلى أن مات ، قال: وقد قيل: إنه كان يكنى أبا ليلى .

(قال: بأبي أنت وأمي السمن والعسل في البرمة) ، وهي بالضم : قدر من الفخار (ونضعها على النار حتى نغليه ، ثم نأخذ مخ الحنطة) ، أي لبابها (إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل ثم نسوطه) ، أي نحركه بالسوط (حتى ينضج) ، أي يستوي (فيأتي كما ترى ، فقال -صلى الله عليه وسلم- إن هذا طعام طيب) .

قال العراقي : المعروف أن الذي صنعه عثمان الخبيص ، رواه البيهقي في الشعب من حديث ليث بن أبي سليم ، قال: "أول من خبص الخبيص عثمان بن عفان ، قدمت عليه عير تحمل النقي والعسل" الحديث، وقال هذا منقطع ، وروى الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن سلام "أقبل عثمان ومعه راحلة ، وعليها غرارتان ، وفيه فإذا دقيق وسمن وعسل، وفيه ثم قال لأصحابه: كلوا هذا الذي تسميه فارس الخبيص" .

وأما الفالوذج فرواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من حديث ابن عباس قال: " أول [ ص: 118 ] ما سمعنا بالفالوذج أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: أمتك تفتح عليهم الأرض ، ويفاض عليهم من الدنيا حتى إنهم ليأكلون الفالوذج ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : وما الفالوذج ؟ قال: يخلطون السمن والعسل جميعا".

قال ابن الجوزي في الموضوعات: هذا حديث باطل ، لا أصل له اهـ .

قلت: أخرجه من طريق ابن أبي الدنيا قال حدثني إبراهيم بن سعد الجوهري، ثنا أبو اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن طلحة ، عن عثمان بن يحيى ، عن ابن عباس فذكره، وفي رواية أخرى بزيادة "فشهق النبي -صلى الله عليه وسلم- شهقة" قال: وهذا حديث باطل لا أصل له، ومحمد بن طلحة قد ضعفه يحيى بن معين وعثمان بن يحيى الحضرمي ، قال الأزدي : لا يكتب حديثه عن ابن عباس ، وقال النسائي : إسماعيل بن عياش ضعيف .

قلت: وهذا القدر الذي ذكره لا يوجب أن يكون الحديث باطلا لا أصل له ، كيف وقد أخرجه ابن ماجه ، وغاية ما يقال: إن إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين فلا يحتج بحديثه، وفرق بين أن يقال: ضعيف وأن يقال: باطل، والعجب من الحافظ العراقي كيف سكت عن التعقب عليه .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل خبز الشعير غير منخول) من نخالته ، وفي هذا تركه -صلى الله عليه وسلم- التكلف والاعتناء بشأن الطعام فإنه لا يعتني به إلا أهل البطالة والغفلة ، قال العراقي : رواه البخاري من حديث سهل بن سعد اهـ .

قلت: ورواه مسلم والترمذي نحوه .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل القثاء بالرطب) قال الكرماني: الباء للمصاحبة أو للملاصقة ، وإنما يفعل ذلك; لأن الرطب حار رطب في الثانية يقوي المعدة الباردة ، لكنه سريع التعفن ، مورث للسدد ، والقثاء بارد رطب في الثانية منعش للقوى ، ملطف للحرارة ، ففي كل منهما إصلاح للآخر .

قال العراقي : متفق عليه من حديث عبد الله بن جعفر اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد والأربعة إلا النسائي ، ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في يمينه قثاء ، وفي شماله رطب ، وهو يأكل من ذا مرة ، ومن ذا مرة"، وسنده ضعيف .

(و) كان -صلى الله عليه وسلم- يأكل القثاء (بالملح) لكونه يدفع ضرره ، قال العراقي : رواه أبو الشيخ من حديث عائشة ، وفيه يحيى بن هاشم ، كذبه ابن معين وغيره ، ورواه ابن عدي ، وفيه عباد بن كثير متروك .

التالي السابق


الخدمات العلمية