إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم .

كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا في علو منصبه قال ابن عامر رأيته يرمي الجمرة على ناقة شهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وكان يركب الحمار موكفا عليه قطيفة وكان مع ذلك يستردف وكان يعود المريض ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك ويخصف النعل ويرقع الثوب وكان يصنع في بيته مع أهله في حاجتهم وكان أصحابه لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وأتي صلى الله عليه وسلم برجل فأرعد من هيبته فقال له : هون عليك ، فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد وكان يجلس بين أصحابه مختلطا بهم ، كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلسا يعرفه الغريب فبنوا له دكانا من طين فكان يجلس عليه وقالت له عائشة رضي الله عنها كل جعلني الله فداك متكئا فإنه أهون عليك ، قال فأصغى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ، ثم قال : بل آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وكان لا يأكل على خوان ولا في سكرجة حتى لحق بالله تعالى وكان لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال لبيك وكان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم ، وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقا بهم وتواضعا لهم وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحيانا ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا ولا يزجرهم إلا عن حرام .


* (بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم ) *

[ ص: 142 ] (كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا على علو منصبه) قال العراقي : روى أبو الحسن بن الضحاك في الشمائل ، من حديث أبي سعيد الخدري ، في حديث طويل في صفته قال فيه : تواضع في غير مذلة ، (قال ابن عامر ) ، كذا في النسخ الصحيحة ، ووقع في بعضها ابن عباس وهو غلط ، (رأيته) صلى الله عليه وسلم (يرمي الجمرة) ، أي : جمرة العقبة (على ناقة صهباء لا طرد ولا ضرب ولا إليك إليك) قال العراقي : رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث قدامة بن عبد الله بن عمار ، قال الترمذي : حسن صحيح .

وفي كتاب أبي الشيخ قدامة بن عبد الله بن عامر ، كما ذكره المصنف اهـ .

قلت : تقدم هذا الحديث في الكتاب الذي قبله ، من رواية سفيان الثوري ، عن أيمن بن نائل نزيل عسقلان ، عن قدامة ، وكذا من رواية البهلول عن أيمن بن نائل في قصة الرشيد وهو قدامة بن عبد الله بن عمار بن معاوية العامري الكلابي ، له صحبة ، وله أحاديث ، وقال ابن السكن : كان يسكن بنجد ، ولم يهاجر ، لقي النبي صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع .

وروى عبد الرزاق ، عن أيمن بن نائل هذا الحديث ، ونسبه فيه إلى جده ، فقال قدامة بن عمار ، وبه يظهر أن المصنف تبع نسخة أبي الشيخ في قوله ابن عامر .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يركب الحمار موكفا) ، أي مشدودا عليه بالإكاف ، (عليه قطيفة) وهي دثار له خمل ، (وكان مع ذلك يستردف) رواه الشيخان ، من حديث أسامة بن زيد ، وتارة يركبه عريا ، ليس عليه شيء ، كما رواه ابن سعد من حديث حمزة بن عبد الله بن عتبة مرسلا ، وهذا يدل على غاية التواضع ، ونهاية الخضوع .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يعود المريض) ، ولو كان في آخر المدينة راكبا وماشيا ، (ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك) .

وفي لفظ العبد "إلى أي حاجة دعاه إليها قرب محلها أو بعد " رواه الترمذي وضعفه ابن ماجه ، والحاكم وصحح إسناده من حديث أنس ، وتقدم مقطعا ، ولفظ الحاكم ، كان يردف خلفه ويضع طعامه على الأرض ، ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار .

(ويخصف النعل) أي يخرزها بيده (ويرقع الثوب) أي يخيطه أو يحط له رقعة ، روى ابن عساكر من حديث أبي أيوب : "كان يركب الحمار ويخصف النعل ويرقع القميص ، ويلبس الصوف " ، (ويضع في بيته مع أهله في حاجتهم) روى أحمد من حديث عائشة : "كان يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم " ، وقد تقدم في أوائل آداب المعيشة .

(وكان أصحابه) صلى الله عليه وسلم (لا يقومون له) إذا أقبل عليهم ، (لما عرفوا من كراهته لذلك) ، أي لأجل المعلوم المستقر عندهم ، وهو كراهته تواضعا وشفقة عليهم ، وإسقاطا لبعض حقوقه المعينة عليهم فاختاروا إرادته على إرادتهم ، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار : "قوموا لسيدكم " أي سعد بن معاذ ؛ لأن هذا حق للغير ، فأعطاه صلى الله عليه وسلم له وأمرهم بفعله ، بخلاف قيامهم له صلى الله عليه وسلم ، فإنه حق لنفسه فتركه تواضعا .

قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أنس ، وتقدم في آداب الصحبة ، قلت : لفظ الترمذي في الشمائل ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يمر على الصبيان) وهم يلعبون (فيسلم عليهم) فيردون عليه ، رواه الترمذي من حديث أنس ، وتقدم في آداب الصحبة ، وروى البخاري ، بلفظ : "أنه صلى الله عليه وسلم مر على صبيان فسلم عليهم " ، وروى النسائي من حديثه "كان يزور الأنصار ، ويسلم على صبيانهم ، ويمسح رءوسهم " .

(وأتي النبي صلى الله عليه وسلم - برجل فأرعد من هيبته) ، أي انتفض جسمه ، من مهابته صلى الله عليه وسلم عند وقوع بصره عليه ، إذ قد تقدم من وصفه أنه من رآه بديهة هابه . (فقال : هون عليك ، فلست بملك) كملوك الأرض يهاب منهم . (إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل من القديد) ، وهو اللحم اليابس ، وكانت قريش تقدد اللحم ، وترفعه لوقت الحاجة .

قال العراقي : رواه الحاكم من حديث جرير ، وقال صحيح على شرط الشيخين .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يجلس بين أصحابه) حالة كونه (مختلطا بهم ، كأنه أحدهم فيأتي الغريب) من الخارج ، (فلا يدري أيهم هو) صلى الله عليه وسلم ، (حتى يسأل عنه) فكان يقول : "أيكم ابن عبد المطلب ، أو أيكم رسول الله ، فكانوا يقولون : هذا الأبيض المتكئ " ، (حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلسا) مرتفعا (يعرفه الغريب) فسكت صلى الله عليه [ ص: 143 ] وسلم موافقا لما رأوه ، (فبنوا له دكانا من طين فكان يجلس عليه) في المصباح الدكان يطلق على الحانوت ، وعلى الدكة التي يقعد عليها قال الأصمعي : إذا مالت النخلة بنى تحتها من قبل الميل بناء كالدكان فتمسكها بإذن الله تعالى ، أي : دكة مرتفعة ، وقال الفارابي الطلل ما شخص من آثار الدار ، كالدكان ، ونحوه ، وأما وزنه ، فقال السرقسطي : النون زائدة عند سيبويه ، وكذلك قال الأخفش ، وهي مأخوذة من قولهم : أكمة دكاء أي منبسطة .

وقال ابن القطاع وجماعة ، هي أصلية مأخوذة من دكنت المتاع إذ نضدته ووزنه على الزيادة فعلان ، وعلى الأصالة فعال حكى القولين الأزهري وغيره فإن جعلت الدكان بمعنى الحانوت ففيه التذكير والتأنيث ، ووقع في كلام المصنف في كتب الفروع حانوت ، أو دكان فاعترض بعضهم عليه ، وقال الصواب : حذف إحدى اللفظتين ، فإن الحانوت هي الدكان ، ولا وجه لهذا الاعتراض ؛ لما تقدم ، من أن الدكان يطلق على الحانوت ، وعلى الدكة ، والله أعلم .

قال العراقي : رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، وأبي ذر وقد تقدم .

(وقالت عائشة رضي الله عنها) لرسول الله (كل جعلني الله فداءك متكئا فإنه أهون عليك ، قال فأصغى برأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ، ثم قال : بل آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ) ، قال العراقي : رواه أبو الشيخ من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عنها بسند ضعيف .

قلت : ورواه أيضا ابن سعد في الطبقات وأبو يعلى نحوه ، وهذا أورده على منهج التربية لأمته ، فإنه المربي الأكبر ، فإخباره عن نفسه بذلك في ضمنه الإرشاد لهم إلى مثل ذلك الفعل ، وأما هو في حد ذاته فيخالف جميع العباد ، في العبادة والعادة تمكن للأكل أو لم يتمكن إذ لو لم يكن مستحضرا المرائي ربه من إقباله في سائر حالاته ، لما حسن منه هذا القول .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (لا يأكل على خوان) بالكسر ويضم : هو المائدة ما لم يكن عليها طعام ، وهو مما يعتاد بعض المتكبرين والمترفهين الأكل عليه احترازا عن خفض رءوسهم فالأكل عليه بدعة إلا أنها جائزة (ولا في سكرجة) بضم أحرفه الثلاث مع تشديد الراء وقيل الصواب فتح رائه ؛ لأنه معرب عن مفتوحها وهي إناء صغير يجعل فيه ما يشهى ويهضم من الموائد حول الأطعمة (حتى لحق بالله عز وجل) قال العراقي : رواه البخاري من حديث وتقدم في آداب الأكل .

قلت : ورواه كذلك الترمذي في الشمائل .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال لبيك) قال العراقي : رواه أبو نعيم في الدلائل من حديث عائشة وفيه حسن بن علوان ، متهم بالكذب وللطبراني في الكبير بإسناد جيد ، من حديث محمد بن طالب ، في أثناء حديث أن أمه قالت : يا رسول الله ، فقال : يا لبيك وسعديك ، الحديث اهـ .

قلت : لفظ أبي نعيم في الدلائل ما كان أحسن خلقا منه ما دعاه أحد من أصحابه ، إلا قال لبيك ، وقد أخرج حديث محمد بن حاطب أيضا أحمد والبغوي ، وفيه أن أمه قالت : "يا رسول الله ، هذا محمد بن حاطب ، وهو أول من سمي بك " الحديث ، وليس في سياقه ما زاده الطبراني .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم) أي في الحديث (وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم ، وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقا بهم وتواضعا لهم) ، قال العراقي : رواه الترمذي في الشمائل ، من حديث زيد بن ثابت ، دون ذكر الشراب ، وفيه سليمان بن خارجة تفرد عنه الوليد بن أبي الوليد ، ذكره ابن حبان في الثقات .

قلت وأخرجه البيهقي في الدلائل من هذا الوجه سليمان بن خارجة عن خارجة بن زيد أن نفرا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت ، فقالوا : حدثنا عن بعض أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : "كنت جاره فكان إذا نزل الوحي عليه بعث إلي ، فآتيه فأكتب الوحي ، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا بكل هذا نحدثكم عنه " ، (وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحيانا) فيسمعهم (ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا) ولا يزيد على ذلك ، (ولا يزجرهم إلا عن حرام) .

قال العراقي : رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة ، دون قوله : "ولا يزجرهم إلا عن حرام " ، قلت : رواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة : "أكنت تجالس رسول الله [ ص: 144 ] صلى الله عليه وسلم ، قال : نعم كثيرا ، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه ، حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم " ورواه البيهقي في الدلائل من رواية شريك وقيس عن سماك عن جابر بن سمرة ، بلفظ : قال : نعم كان طويل الصمت ، قليل الضحك ، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم فيضحكون وربما يتبسم .

التالي السابق


الخدمات العلمية