إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان صورته وخلقته صلى الله عليه وسلم .


* (بيان صورته صلى الله عليه وسلم وخلقته ) *

الظاهرة ، وإنما قدم الكلام على خلقه صلى الله عليه وسلم ، إذ هو أولى بالتقديم من حيث إن الكلام فيه أظهر وأتم إذ هو الطبع ، والسجية ، وحقيقة الصورة الباطنة من النفس ، وأوصافها ومعانيها المختصة بها ، ثم عقبه بذكر ما يتعلق بخلقه ، الظاهر لكونه تابعا للباطن ، وعنوانا عليه ، واعلم أن من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم ، اعتقاد أنه لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ، ما اجتمع في بدنه صلى الله عليه وسلم وسر ذلك أن المحاسن الظاهرة آيات على المحاسن الباطنة ، والأخلاق الزكية ، ولا أكمل منه صلى الله عليه وسلم ، ولا مساو له في هذا المدلول ، فكذلك الدال .

ومن ثم نقل القرطبي عن بعضهم : أنه لم يظهر تمام حسنه صلى الله عليه وسلم وإلا لما طاقت أعين الصحابة النظر إليه ، ثم اعلم أن الكلام على خلقه صلى الله عليه وسلم يستدعي الكلام على ابتداء وجوده ، فاحتيج إلى ذكره ، وإن أغفله المصنف رحمه الله تعالى - وملخصه أنه صح في مسلم أنه قال : "إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " ، ومن جملة ما كتب في الذكر ، وهو أم الكتاب ، "أن محمدا خاتم النبيين " ، وصح أيضا "إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " أي لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه ، وصح أيضا : "يا رسول الله ، متى كنت نبيا ؟ فقال : وآدم بين الروح والجسد " ، وروي "كتبت من الكتابة " روى الترمذي ، وحسنه " يا رسول الله ، متى وجبت لك النبوة ؟ فقال : وآدم بين الروح والجسد " ، ومعنى وجوب النبوة ، وكتابتها ثبوتها وظهورها في الخارج ، أي للملائكة وروحه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح إعلاما بعظيم شرفه ، وتميزه عن بقية الأنبياء عليهم السلام - وخص الإظهار بحالة كونآدم بين الروح والجسد ؛ لأنه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد ، والتمايز حينئذ أتم وأظهر ، فاختص صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه ، حينئذ ليتميز على غيره تميزا أظهر وأتم .

وأجاب المصنف في بعض كتبه عن وصف نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته ، وخبر " أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا " بأن المراد بالخلق هنا التقدير لا الإيجاد ، فإنه قبل أن تحمل به أمه لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود ، فقوله : "كنت نبيا " أي في التقدير قبل تمام خلقة آدم إذ لم ينشأ إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم - وتحقيقه : أن للدار في ذهن المهندسين وجودا ذهنيا سببا للوجود الخارجي ، وسابقا عليه ، فالله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا اهـ .

وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين ، وهو أنه جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد ، والإشارة فكنت نبيا إلى روحه الشريفة ، أو حقيقة من حقائقه ، ولا يعلمها إلا الله ، ومن حباه بالاطلاع عليها ، ثم إن الله تعالى يؤتي كل حقيقة منها ما شاء في أي وقت شاء فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم ، آتاها الله ذلك الوصف ، بأن خلقها متهيئة له ، وأفاضه عليه من ذلك الوقت ، فصار نبيا ، وكتب اسمه على العرش ؛ ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده ، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت ، وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها ، فحينئذ فإيتاؤه النبوة والحكمة ، وسائر أوصاف حقيقته ، وكمالاته معجل لا تأخير فيه ، وإنما المتأخر تكونه وتنقله في الأصلاب والأرحام ، الطاهرة ، إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم ، ومن فسر بعلم الله أنه سيصير نبيا لم يصل لهذا المعنى ؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له ، وإلا لم يختص بأنه نبي حينئذ إذ الأنبياء كلهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى ، وقال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم - إن [ ص: 145 ] بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأخذ العهد بذلك ، وأخذ السبكي من الآية أنه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم ، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة ، وتكون الأنبياء والأمم كلهم من أمته ، فقوله : وبعثت إلى الناس كافة يتناول من قبل زمانه أيضا ، وبه يتبين معنى قوله : كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ، وكذا حكمة كون الأنبياء تحت لوائه في الآخرة ، وصلاته بهم ليلة الإسراء فأول الأشياء على الإطلاق النور المحمدي ، ثم الماء ، ثم العرش ، ثم القلم ، ولما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره ، فكان يلمع في جبينه ، ولما توفي كان ولده شيث وصيه ، فوصى ولده بما وصاه به أبوه ؛ أن لا يوضع هذا النور إلا في المطهرات من النساء ، ولم يزل العلم بهذه الوصية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبد الله مطهرا من سفاح الجاهلية ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في عدة أحاديث ، ثم زوج عبد المطلب ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا ، وموضعا ، فدخل بها ، وحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم - فظهر في حمله ومولده عجائب تدل لما يؤول إليه أمر ظهوره ، ورسالته ، وقد صح أن أمه صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاء لها قصور الشام ، وولد مختونا في قول عام الفيل ، وحكي الاتفاق عليه والمشهور أنه بعده بخمسين يوما ، وقيل : بأربعين ، وقيل : بعشر سنين ، وقيل غير ذلك .

ثم الجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول فقيل : ثانيه ، وقيل : ثامنه ، وانتصر له كثيرون من المحدثين ، وقيل : عاشره ، وقيل : ثاني عشره وهو المشهور ، وقيل غير ذلك ، وذلك في يوم الاثنين كما صح في مسلم ، عقب الفجر كما في رواية ضعيفة ، ومدة حمله تسعة أشهر ، أو عشرة أو ثمانية ، أو سبعة ، أو ستة أقوال بمكة بمولده ، المشهور الآن وهو الأصح ، وقيل : بالشعب ، وقيل : بالروم ، ثم أرضعته حليمة السعدية ، والمشهور موت أبيه ، بعد حمله بشهرين ، وقيل : وهو في المهد ، وماتت أمه ، ودفنت بالأنواء ، وقيل : بالحجون بعد أربع سنين ، أو خمس أو ست ، أو سبع ، أو تسع ، أو اثنتي عشرة وشهرا ، أو وعشرة أيام ، أقوال ، ومات جده كافله عبد المطلب ، وله ثمان سنين أو تسع أو عشر ، أو ست ، أقوال ، ثم كفله عمه شقيق أبيه أبو طالب ، وتزوج خديجة ، وهي بنت أربعين ، وهدمت قريش الكعبة ، وعمره خمس وثلاثون سنة ، ثم لما بلغ أربعين سنة أو وأربعين يوما ، أو وشهرين ، بعثه الله رحمة للعالمين ، يوم الاثنين لخبر مسلم في رمضان ، وقيل : ربيع ، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشر سنين ، فهذا ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم على وجه الاختصار .

التالي السابق


الخدمات العلمية