إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش وتوضؤوا من قدح صغير ضاق عن أن تبسط عليه السلام يده فيه .


(و) من معجزاته صلى الله عليه وسلم أن (نبع الماء) الطهور (من بين أصابعه) وهو أشرف المياه ، قال القرطبي : قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت منه صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن ، في مشاهد عظيمة ، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي ، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة من غير نبينا صلى الله عليه وسلم - حيث نبع من بين عظمه وعصبه ، ولحمه ودمه ، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني ، أنه قال : "نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة ، من نبع الماء من الحجر ، حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه ؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود ، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم . اهـ .

(فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش) ، روى ابن شاهين من حديث أنس قال : "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، عطشت دوابنا وإبلنا ، فقال : هل من فضلة ماء ؟ فجاء رجل في شن بشيء فقال : هاتوا صحفة فصب الماء ، ثم وضع راحته في الماء ، قال : فرأيتها تخلل عيونا بين أصابعه ، قال : فسقينا إبلنا ودوابنا ، وتزودنا فقال : اكتفيتم ، فقالوا : نعم ، اكتفينا يا رسول الله ، فرفع يده فارتفع الماء " .

وروى أحمد من حديث جابر قال : "اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - إليه العطش ، فدعا بعس فصب فيه شيئا من الماء ، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيه يده ، وقال : استقوا فاستقى الناس ، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه " .

ورواه البيهقي في الدلائل بلفظ : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فأصابنا عطش ، فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : فوضع يده في تور من ماء بين يديه ، قال : فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، كأنه العيون ، قال : خذوا بسم الله ، فشربنا فوسعنا وكفانا ، ولو كنا مائة ألف لكفانا ، قلت لجابر : كم كنتم ؟ قال : ألفا ، وخمسمائة " .

وأخرجه ابن شاهين أيضا وفيه : "فأصابنا عطش بالحديبية " ، الحديث ، وأخرج البخاري من حديث علقمة عن ابن مسعود ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس معنا ماء ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - : اطلبوا من معه فضل ماء ، فأتي بماء فصبه في إناء ثم وضع كفه فيه ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه " .

(وتوضأ من قدح صغير ضاق أن يبسط صلى الله عليه وسلم يده فيه) ، قال العراقي متفق عليه من حديث أنس في ذكر الوضوء فقط ، ولأبي نعيم من حديثه خرج إلى فناء فأتي من بعض بيوتهم بقدح صغير ، وفيه ثم قال : "هلم إلى الشرب ، قال أنس : بصر عيني ينبع الماء من بين أصابعه " ، ولم يرد القدح حتى رووا منه ، وإسناده جيد .

وللبزار واللفظ له ، والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس : "كان في سفر فشكا أصحابه العطش ، فقال : ائتوني بماء فأتوه بإناء فيه ماء ، فوضع يده في الماء ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه " ، وإسناده ضعيف اهـ .

قلت : حديث أنس في الصحيحين ، قال : "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر والتمس الناس الوضوء ، فلم يجدوه ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - بوضوء ، فوضع يده في ذلك الإناء ، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه ، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم " .

وفي لفظ للبخاري : "كانوا ثمانين رجلا " ، وفي لفظ له : "فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، وأطراف أصابعه ، حتى توضأ القوم ، وقال : فقلنا لأنس : كم كنتم ؟ قال : كنا ثلاثمائة " ، وفي الصحيحين من حديث جابر قال : "عطش الناس يوم الحديبية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة يتوضأ منها وجهش الناس نحوه ، فقال : ما لكم ؟ فقالوا : يا رسول الله ، ليس عندنا ما نتوضأ به ، ولا ما نشربه ، إلا ما بين يديك ، فوضع يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه ، كأمثال العيون ، فشربنا ، وتوضأنا فقلت : كم كنتم ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة " .

وأخرج البيهقي من طريق عثمان بن أبي شيبة ، عن جرير ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر بلفظ : "لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- [ ص: 172 ] وقد حضرت صلاة العصر ، وليس معنا ماء غير فضله ، فجعل في إناء فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : فأدخل يده فيهن وفرج أصابعه ، وقال : حي هلا أهل الوضوء والبركة من الله ، قال : فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ، قال : فتوضأ الناس ، وشربوا قال : فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه ، وعلمت أنه بركة ، قال : قلت لجابر : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة " .

وروى البخاري عن قتيبة بن سعيد ، عن جرير ، وأخرج أحمد ، والبيهقي من طريق الأسود بن قيس عن نبيح العنزي ، عن جابر ، قال : غزونا ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ونحن يومئذ بضع عشرة مائة ، فحضرت الصلاة ، فقال : هل في القوم من طهور ؟ فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء ، ليس في القوم ماء غيره ، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قدح ، ثم توضأ فأحسن الوضوء ، ثم انصرف ، وترك القدح قال : فركب الناس ذلك القدح ، وقالوا : تمسحوا تمسحوا فلما سمعهم يقولون ذلك ، قال : على رسلكم ، قال : فوضع كفه في الماء والقدح ، وقال : سبحان الله ، ثم قال : أسبغوا الوضوء فوالذي ابتلاني ببصري ، لقد رأيت عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، ولم يرفعها حتى توضؤوا أجمعون " .

وقال الإسماعيلي في الصحيح : أخبرنا أبو يعلى ، ثنا أبو الربيع ، ثنا حماد بن زيد ، ثنا ثابت عن أنس ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم - دعا بماء فأتي بقدح رحراح ، فجعل القوم يتوضؤون فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين ، قال : فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه " .

ورواه مسلم عن أبي الربيع ، ولفظ البخاري ، عن مسدد عن حماد ، عن ثابت دعا بإناء من ماء ، فأتي بقدح رحراح ، فيه شيء من ماء ، فوضع أصابعه فيه ، قال أنس : فجعلت أنظر إلى الماء ينبغ من بين أصابعه ، قال : فحزرت من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين " .

وأما حديث أنس الذي ذكره العراقي من عند أبي نعيم فقد أخرجه أيضا البيهقي في الدلائل من طريق إسماعيل بن أويس ، عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عمر ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : "خرج النبي صلى الله عليه وسلم - إلى قباء ، فأتي من بعض بيوتهم بقدح صغير ، قال : فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم - يده فلم يسعه القدح ، فأدخل أصابعه الأربع ، ولم يستطع أن يدخل إبهامه ، ثم قال إلى القوم : هلموا إلى الشراب " ، الحديث .

اعلم أن ظاهر هذه الروايات دل على أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي ، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر ، وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء ، فيراه الرائي نابعا من بين يديه ، وظاهر كلام القرطبي أنه ينبع من نفس اللحم ، الكائن في الأصابع ، وبه صرح النووي في شرح مسلم ، وهو الصحيح ، وكلاهما معجزة له صلى الله عليه وسلم ، وإنما فعل ذلك ، ولم يخرجه من غير ملامسة ماء ولا وضع إناء تأدبا مع الله تعالى ، إذ هو المنفرد بإبداع المعدومات وإيجادها من غير أصل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية