إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأن الحسن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار ، فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه وهذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعرفة بها لا بنجوم ولا بكشف ولا بخط ولا بزجر لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه واتبعه سراقة بن مالك فساخت قدما فرسه في الأرض وأتبعه دخان حتى استغاثه فدعا له فانطلق الفرس وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سوارا كسرى فكان كذلك .


(و) من جملة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر (أن) ابنه (الحسن) أبا محمد عليه السلام (يصلح الله به) أي بسبب عزله لنفسه عن الخلافة (بين فئتين عظيمتين من المسلمين) ، وكان كذلك فإنه رضي الله عنه - لما بويع له بعد أبيه ، وصار هو الإمام الحق مدة أشهر تكملة للثلاثين سنة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنها مدة الخلافة ، وبعده يكون ملكا عضوضا ، ثم سار إلى معاوية بأربعين ألفا بايعوه على الموت ، فلما تراءى الجمعان على أنه لا يغلب أحدهما حتى يقتل الفريق الآخر ، فنزل له عن الخلافة ، لا لقلة ولا لذلة ، بل رحمة للأمة ، واشترط على معاوية شروطا التزمها .

وقال ابن بطال وغيره ، ولم يوف له بشيء منها ، وصار معاوية من يومئذ خليفة ، ولما خيف من طول عمر الحسن ، أرسل يزيد إلى زوجته جعدة : إن هي سمته تزوجها ، ففعلت ، فأرسلت تستخبر فقال : إنا لم نرضك له فنرضاك لنا ، وفيه منقبة للحسن رضي الله عنه - ورد على الخوارج الزاعمين كفر علي وشيعته ، ومعاوية ومن معه ؛ لقوله من المسلمين .

قال العراقي : رواه البخاري من حديث أبي بكرة اهـ .

قلت : وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني ، كلهم من حديث الحسن عن أبي بكرة ، وفي سماع الحسن منه اختلاف والأصح أنه سمع ولفظهم جميعا : " إن ابني هذا سيد " ، وفي رواية "لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين " .

(و) من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم (أخبر عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار ، فظهر ذلك بأن قتل ذلك الرجل نفسه) قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وسهل بن سعد اهـ .

قلت : أما حديث أبي هريرة " فأخرجه البخاري عن أبي اليمان ، عن شعيب بن أبي حمزة عن ابن المسيب ، عن الزهري عن أبي هريرة .

وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عثمان بن سعيد ، وعلي بن محمد بن عيسى واللفظ لهما ، كلاهما عن أبي اليمان ، ولفظها قال أبو هريرة : "شهدنا عشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - خيبر فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام : "إن هذا من أهل النار ، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال ، حتى كثر به الجراح ، فأثبتته ، فجاء رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، رأيت الذي ذكرت أنه من أهل النار قد والله قاتل في سبيل الله أشد القتال ، وكثرت به الجراح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أما إنه من أهل النار ، فكان بعض الناس ارتاب ، فبينا هو كذلك وجد الرجل ألم الجراح ، هوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فانتحر بها فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، قد صدق الله حديثك قد انتحر فلان ، فقتل نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا بلال ، قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .

قال البخاري : تابعه معمر عن الزهري ، قال البيهقي : ومن ذلك الوجه ، وقال يونس عن الزهري حنين ، وفي آخر هذا الحديث كالدلالة على أن الرجل استحل قتل نفسه ، أو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم - منه نفاقا .

وأما حديث سهل بن سعد فرواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة ، عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه ، عن سهل بن سعد ، وأخرجه هو ومسلم من طريق يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، وأخرجه الإسماعيلي في الصحيح ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الحسن بن سفيان ، والقاسم قالا : حدثنا محمد بن الصباح ، واللفظ له : قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، ولفظه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون في بعض مغازيه ، فاقتتلوا فمال كل قوم إلى عسكرهم ، وفي المسلمين رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقيل : يا رسول الله ، ما أجزى أحد اليوم ، ما أجزى فلان ، فقال : أما إنه من أهل النار ، فقال رجل : والله لا يموت على هذه الحال أبدا فاتبعه كلما أسرع أسرع ، وإذا أبطأ أبطأ معه ، حتى جرح فاشتدت جراحته ، واستعجل الموت ، فوضع سيفه بالأرض ، وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه ، فقتل نفسه ، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد إنك لرسول الله ، قال : وما ذاك ؟ فأخبره بالذي كان من أمره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس - وإنه من أهل النار ، وإنه يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس - وإنه من [ ص: 180 ] أهل الجنة ، قلت : واختلف في اسم هذا الرجل ، فقيل ، هو قزمان بن الحارث ، حليف بني ظفر ، قال ابن قتيبة في المعارف : هو الذي قتل نفسه ، وكان منافقا ، وفيه : "قال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ، وقال غيره : "إن هذا الرجل قتل نفسه يوم أحد " ، وقيل : إنه صرح بالكفر ، وذكر ابن إسحاق والواقدي قصته : إنه كان شجاعا معروفا في حروبهم ، وإنه لما أصابته الجراح قيل له : هنيئا لك يا أبا الغيداق بالجنة ، قال : والله ما قاتلنا إلا على الأحساب ، وإنه قتل نفسه ، وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن القصة تعددت والله أعلم .

(وهذه كلها أشياء لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعرفة بها لا بنجوم ولا بكتف ولا بخط ولا بزجر) كما كانت أهل الجاهلية تفعله ، فكان بعضهم ينظر في النجوم ، وما في أحكامها من التسديس ، والتثليث ، والتربيع ، والمقابلة ، ومنهم من ينظر في الكتف فيخبر عن حوادث كونية ، ومنهم من يخط على الرمل خطوطا فيخبر به عن غائب ، ومنهم من يزجر الطيور والسوانح والبوارح ، فيخبر بها عن أمور ستقع ، وكل ذلك حرمها الشارع وأبطل الاشتغال بها ، (لكن بإعلام الله تعالى له) ، وتعريفه إياه ، (ووحيه إليه و) من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه (اتبعه) حال مهاجرته إلى المدينة (سراقة) بن مالك (بن جعشم) بن مالك بن عمرو بن تيم بن مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة الكناني المدلجي ، وقد ينسب إلى جده كما عند المصنف يكنى أبا سفيان كان ينزل قديدا (فساخت) أي غارت (قدما فرسه في الأرض وأتبعه دخان) ، أي : غبار من الأرض ، أي : مع يبوسة الأرض ولا تسوخ قوائم الفرس في العادة إلا إذا كانت الأرض ندية (حتى استغاثه) وأن لا يدل عليه (فدعا له فانطلقت الفرس) وكتب له أمانا وأسلم يوم الفتح .

قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق اهـ .

قلت : وروى البخاري هذه القصة من طريق البراء بن عازب ، عن أبي بكر الصديق ، وفي هذه القصة يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل :


أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه     علمت ولم تشكك بأن محمدا
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه

(وأنذره) صلى الله عليه وسلم (بأن سيوضع في ذراعيه سوارا كسرى فكان ذلك) رواه ابن عيينة عن إسرائيل أبي موسى عن الحسن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة بن مالك : كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ قال : فلما أتي عمر بسواري كسرى ، ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه ، وكان رجلا أذب كثير شعر الساعدين ، فقال له : ارفع يديك ، وقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز ، وألبسهما سراقة الأعرابي .

روى ذلك عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم ، وروى عنه أيضا ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب ، وطاوس ، قال ابن عمر : مات سراقة في خلافة عثمان ، سنة أربع وعشرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية