إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة .

اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقيادا تاما فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد وللقلب جند آخر وهو العلم والحكمة والتفكر كما سيأتي شرحه وحقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله تعالى على الجندين الآخرين فإنهما قد يلتحقان بحزب الشيطان .

فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقينا ، وخسر خسرانا مبينا ، وذلك حالة أكثر الخلق فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم فيما يفتقر العقل إليه ، ونحن نقرب ذلك إلى فهمك بثلاثة أمثلة المثال الأول : أن نقول مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة كمثل ملك في مدينته ومملكته .

فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعملة والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل ، والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة والغضب والحمية له كصاحب الشرطة .

والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل ، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة كما ، أن الوالي في مملكته إذا كان مستغنيا في تدبيراته بوزيره مستشيرا له ومعرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلا بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه وأدب صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمرا له مسلطا من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره حتى يكون العبد مسوسا لا سائسا ومأمورا مدبرا لا أميرا مدبرا استقام أمر بلده ، وانتظم العدل بسببه فكذا ، النفس متى استعانت بالعقل وأدبت حمية الغضب وسلطتها على الشهوة ، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها ، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها ، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها ، ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فيه أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال تعالى : واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وقال عز وجل فيمن نهى النفس عن الهوى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وسيأتي كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس إن شاء الله تعالى المثال الثاني: اعلم : أن البدن كالمدينة والعقل : أعني المدرك من الإنسان كملك مدبر لها ، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه ، وأعضاؤه كرعيته والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة ، والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته فصار بدنه كرباط وثغر ونفسه كمقيم فيه مرابط ، فإن هو جاهد عدوه وهزمه وقهره على ما يحب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال الله تعالى: والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره فانتقم منه عند الله تعالى فيقال له يوم القيامة : يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير ، اليوم أنتقم منك، كما ورد في الخبر وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " .

المثال الثالث : مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه ، فمتى كان الفارس حاذقا وفرسه مروضا وكلبه مؤدبا معلما كان جديرا بالنجاح ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحا والكلب عقورا فلا فرسه ينبعث تحته منقادا ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعا فهو خليق بأن يعطب فضلا عن أن ينال ما طلب ، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته وجماح الفرس مثل غلبة الشهوة خصوصا شهوة البطن والفرج ، وعقر الكلب مثل غلبة ، الغضب واستيلائه نسأل الله حسن التوفيق بلطفه .


(بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة:) .

(اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقيادا تاما فيعينه ذلك) الانقياد (منهما على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقته في السفر الذي هو بصدده وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد) فيغلبان عليه (حتى يملكانه ويستعبدانه) بجذبهما له إلى موافقته لما يصدر منهما ، (وفيه هلاكه) الأبدي (وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد) وهي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء ، وقدرة بلا عجز ، وعلم بلا جهل ، وغنى بلا فقر ، وأصعب هذين الجندين جند الشهوة وقعها أصعب؛ لأنها أقدم القوى

[ ص: 217 ] وجودا في الإنسان وأشدها به تشبثا وأكثرها منه تمكنا ؛ فإنها تولد معه وتوجد فيه ، فإن لم يغلبها غلبته وضرته وصرفته عن طريق الآخرة كما أشار إليه المصنف ، فإن قيل: فإذا كانت الشهوة بهذه المثابة في الإضرار فأي حكمة اقتضت أن يبلى بها؟ قلت: الشهوة إنما تكون مذمومة إذا كانت مفرطة وأهملها صاحبها حتى ملكت القوى فأما إذا أدبت فهي المبلغة إلى السعادة حتى لو تصورت مرتفعة لم يكن الوصول إلى الآخرة ؛ وذلك لأن العبادة التي هي سبب الوصلة إلى الآخرة لا تتم إلا بحفظ البدن ولا سبيل إلى حفظه إلا بتناول الأغذية ولا يمكن ذلك إلا بالشهوة ، فإذن الشهوة محتاج إليها ومرغوب فيها فتأمل .

(وللقلب جند آخر وهو العلم والحكمة والتفكر كما سيأتي شرحه وحقه) أي: السالك (أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله على الجندين الآخرين) المذكورين (فإنهما يلتحقان بحزب الشيطان ، فإن ترك الاستعانة) بحزب الله (وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقينا ، وخسر خسرانا مبينا ، وذلك حال أكثر الخلق) في كل زمان ؛ (فإن عقولهم صارت مسخرة) أي: مذللة تابعة (لشهواتهم في استنباط الحيل) والخداع (لقضاء الشهوة) حتى يعطي لنفسه مناها منها ، (وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم) تابعة لها (فيما يفتقر العقل إليه ، ونحن نقرب هذا إلى قلبك بثلاثة أمثال) وما لها في منازعة الهوى للعقل .

(المثال الأول: أن نقول مثل نفس الإنسان في بدنه - وأعني بالنفس المعنى الثاني) أي: (اللطيفة المذكورة - كمثل وال في مدينته ومملكته) أي: موضع ملكه وحكمه ما سوى مدينته (فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها) لها فيها الحكم النافذ (وقواه) الباطنة (وجوارحه) الظاهرة (بمنزلة الصناع والعملة) المستخدمة (والقوة العقلية المفكرة له كالمشير) العالم الناصح (والوزير) الفطن (العقل ، والشهوة له) وفيه (كعبد سوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة) والميرة بالكسر اسم للطعام وغيره ، وقد مارهم ميرا أتاهم بالميرة ، (والغضب والحمية له كصاحب الشرطة) وهو عون الوالي (والعبد الجالب للميرة كذاب مكار) كثير الكذب والمكر (مخادع خبيث) صاحب حيل وخبث طبع وخداع (يتمثل) للوالي (بصورة الناصح) في الظاهر (وتحت نصحه الشر الهائل) أي: العظيم المخوف (والسم القاتل ، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح) ومعارضته (في كل تدبير يدبره) لا يغفل عنه (حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته في آرائه ساعة ، فكما أن الوالي في مملكته متى استشار في تدبيراته بوزيره) الناصح له حالة كونه (معرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث) المكار ، (بل مستدلا بإشارته على أن الصواب في نقيض رأيه) ومخالفته فيما يقول (وأدب صاحب شرطته وأسلسه) أي: جعله سلسا منقادا (لوزيره وجعله مؤتمرا له ومسلطا من جهته على هذا العبد الخبيث) أي: سلطه عليه (و) على (أتباعه وأنصاره حتى يكون) هذا (العبد مسوسا) أي: داخلا تحت السياسة (لا سائسا ومأمورا مدبرا لا آمرا مدبرا استقام أمر بلده ، وانتظم العبد بسببه ، فكذلك النفس) أيضا (متى استعانت بالعقل) وائتمرت بأوامره (وأدبت الحمية الغضبية وسلطتها على الشهوة ، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن يقلل مرتبة الغضب وغلوائه) أي: حدته (بمحالفة الشهوة واستدراجها ، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها ، اعتدلت قواه وحسنت أخلاقه ، ومن عدل عن هذه الطريقة) فسد أمره وانخرم نظامه ، و (كان كمن قال الله تعالى فيه) محذرا غاية الحذر في ذم من اتبع الهوى

[ ص: 218 ] ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال تعالى:) أخلد إلى الأرض ( واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ) وقال تعالى: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (وقال لمن نهى النفس عن الهوى) وخالفها مادحا له وأما من خاف مقام ربه ( ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) وقال -صلى الله عليه وسلم- : " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " كما تقدم للمصنف قريبا إشارة إلى الهوى والعقل وإن كان أشرف القوى ، وبه صار الإنسان خليفة الله تعالى في العالم ، فليس دأبه إلا الإشارة إلى الصواب كطبيب يشير إلى المريض بما يرى فيه برءه ، فإن قبل منه المريض وإلا سكت عنه ، ولذلك جعل له الحمية لتكون نائبة عنه في المدافعة والممانعة ، ولهذا لا تتبين فضيلة العقل لمن لا حمية له ، وبهذا النظر قيل: المهين من لا سفيه له ، وقال الشاعر:


تعدو الذئاب على من لا كلاب له * وتتقي مربض المستأسد الحامي



(وسيأتي) بيان (كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس) قريبا إن شاء الله تعالى .

(المثال الثاني: أن) الإنسان من حيث ما جعله الله عالما صغيرا ، وجعل (البدن كالمدينة) في هيئته (والعقل: أعني المدرك من الإنسان كملك) فيها (مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة) من الفكرة والخيال والحواس (كجنوده وأعوانه ، وأعضاؤه كرعيته) وخدمه (والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة ، والغضب كعدو) له (ينازعه في مملكته) ويعارضه (ويسعى في إهلاك رعيته فصار بدنه كرباط وثغر) تجاه العدو (ونفسه كمقيم فيه مرابط ، فإن جاهد عدوه فهزمه) فأسره (وقهره على ما يجب) وكما يجب (جد أثره إذا عاد إلى الحضرة) أي: دار مملكته ، (كما قال تعالى: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) وكلا وعد الله الحسنى فدفاع الهوى أعظم ثواب وجهاد كما ورد في الخبر ، وقد سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك هواك. (وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره) إذا عاد إليه كما ورد في الخبر: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " (وانتقم منه عند لقاء الله تعالى فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم ترد الضالة ولم تجبر الكسير ، اليوم أنتقم منك. كما ورد في الخبر) قال العراقي : لم أجد له أصلا اهـ .

قلت: ولفظ الراغب في الذريعة : إن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: يا راعي السوء. . إلخ. وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة مالك بن دينار فقال: حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن شبيب ، حدثنا سليمان بن أيوب ، حدثنا جعفر بن سليمان ، قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قرأت في بعض الكتب: يجاء براعي السوء يوم القيامة فيقال: يا راعي شربت اللبن وأكلت اللحم ولم ترد الضالة ولم تجبر الكسير ولم ترعها حق رعايتها ، اليوم ننتقم لهم منك .

(وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر") قال العراقي : رواه البيهقي من حديث جابر ، وقال: هذا إسناد فيه ضعف اهـ .

قلت: وسيأتي قريبا للمصنف في الكتاب الذي بعده بلفظ: " مرحبا بكم، رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " .

(المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه ، فمتى كان الفارس حاذقا) أي: ماهرا في فروسيته (وفرسه مروضا) أي: قد ريضت بالتعليم في الإقدام والإحجام (وكلبه مؤدبا معلما) بأخذ الصيد (كان جديرا بالنجح) أي: إدراك حاجته من الصيد ، (ومتى كان هو نفسه أخرق) هو الذي لا يحسن العمل (وكان الفرس جموحا) صعبا أو حرونا (والكلب عقورا) يعقر الصيد لنفسه (فلا فرسه ينبعث تحته منقادا) لجماحه (ولا كلبه يسترسل بإشارته) ويستكين معه (مطيعا فهو خليق) أي: لائق (بأن يعطب) أي: يهلك (فضلا من أن ينال ما طلب ، وإنما خرق الفارس مثال لجهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته) عن إدراك الأمور

[ ص: 219 ] (وجماح الفرس مثال لغلبة الشهوة خصوصا شهوة البطن والفرج ، وعقر الكلب مثال لغلبة الشهوة خصوصا شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثال لغلبة الغضب واستيلائه) فهذه الأمثلة الثلاثة ، وقد وجدت لذلك مثالا رابعا ذكره الراغب في الذريعة. قال: مثل النفس في البدن مثل المجاهد بعث إلى ثغر لكي يرعى أحواله ، وعقله خليفة مولاه ضم إليه ليسدده ويرشده ويشهد له وعليه فيما يفعله إذا عاد إلى حضرة الملك ، وبدنه بمنزلة فرس دفع إليه ليركبه ، وشهوته كسائس حثيث ضم إليه ليفتقد فرسه ، ولا قدر لهذا السائس عند المولى ، والقرآن بمنزلة كتاب أتاه من مولاه ، وقد ضمن كل ما يحتاج إليه عاجلا وآجلا ، فيقبح أن ينسى هذا الوالي مولاه ويهمل خليفته فلا يراجعه فيما يبرمه وما ينقضه ، ويصرف همه كله إلى تفقد فرسه وسياسته ويقيم سائس فرسه مقام خليفة ربه ، فالحاصل أن للإنسان مع هواه ثلاثة أحوال: الأولى: أن يغلبه الهوى فيهلكه ، وهذا حال أكثر الناس . الثانية: أن يغالبه فيقهرها تارة وتقهره أخرى ، وهكذا حال المتوسطين. الثالثة: أن يغلب هواه وهذا حال الأنبياء وكثير من صفوة الأولياء .

التالي السابق


الخدمات العلمية