إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب المعرفة لا من .

التعلم ، ولا من الطريق المعتاد .

اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام ، والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق ، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات .

أما الشواهد فقوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريق الكشف والإلهام وقال ، - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار .

وقال الله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا من الإشكالات والشبه ويرزقه من حيث لا يحتسب يعلمه علما من غير تعلم ويفطنه من غير تجربة وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا قيل : نورا يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم أعطني نورا وزدني نورا ، واجعل لي في قلبي نورا ، وفي قبري نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ، حتى قال: في : شعري وفي بشري وفي لحمي ودمي وعظامي، وسئل صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .

وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيء أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلينا إلا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه وليس هذا بالتعلم، وقيل في تفسير قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء إنه الفهم في كتاب الله تعالى، وقال تعالى : ففهمناها سليمان خص ما انكشف باسم الفهم وكان أبو الدرداء يقول : المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق ، والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم وقال بعض السلف : ظن المؤمن كهانة .

وقال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله " وإليه يشير قوله: تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين ، وقوله تعالى قد بينا الآيات لقوم يوقنون ، وروى الحسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: العلم علمان ، فعلم باطن في القلب، فذلك هو العلم النافع" .

وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن : ما هو ? فقال : هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا وقد قال صلى الله عليه وسلم إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم. " .

وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعني: الصديقين والمحدث هو الملهم ، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسوسات الخارجة .

والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف وذلك علم من غير تعلم وقال الله تعالى وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون خصصها بهم وقال تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وكان أبو يزيد وغيره يقول ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلا ، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس وهذا هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى : وعلمناه من لدنا علما مع أن كل علم من لدنه ، ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر .

وأما مشاهدة ذلك بالتجارب ، فذلك أيضا خارج عن الحصر ، وظهر ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها عند موته : إنما هما أخواك وأختاك ، وكانت زوجته حاملا فولدت بنتا فكان ، قد عرف قبل الولادة أنها بنت وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته : يا سارية ، الجبل الجبل إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخلت على عثمان رضي الله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزرا وتأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه لما دخلت : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه ، أما علمت أن زنا العينين النظر لتتوبن أو لأعزرنك ، فقلت : أوحي بعد النبي ؟! فقال : لا ، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة وعن أبي سعيد الخراز قال : دخلت المسجد الحرام ، فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي : هذا وأشباهه كل على الناس فناداني وقال : الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، فاستغفرت الله في سري فناداني وقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ثم غاب عني ولم أره .

وقال زكريا بن داود : دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل الهاشمي وهو عليل وكان ذا عيال ، ولم يعرف له سبب يعيش به قال : فلما قمت قلت في نفسي : من أين يأكل هذا الرجل قال فصاح بي : يا أبا العباس ، رد هذه الهمة الدنية فإن لله تعالى ألطافا خفية ، وقال أحمد النقيب : دخلت على الشبلي فقال : مفتونا يا أحمد ، فقلت : ما الخبر ? قال : كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل ، فقلت : ما أنا بخيل فعاد مني ، خاطري وقال : بل أنت بخيل ، فقلت : ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني ، قال : فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون دينارا ، فقال : اجعلها في مصالحك قال وقمت : فأخذتها وخرجت وإذا ، بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير ، فقال : أعطها المزين ، فقلت : إن جملتها كذا وكذا قال أوليس قد : قلنا لك إنك : بخيل ، قال : فناولتها المزين فقال المزين قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجرا ، قال : فرميت بها في دجلة وقلت : ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل وقال حمزة بن عبد الله العلوي دخلت على أبي الخير التيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاما ، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقا فيه طعام وقال : يا فتى ، كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك وكان أبو الخير التيناني هذا مشهورا بالكرامات وقال إبراهيم الرقي : قصدته مسلما عليه ، فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستويا فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي ، فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير ، وقلت : قصدني سبع فخرج وصاح به وقال : ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني فتنحى الأسد فتطهرت ، فلما رجعت قال لي : اشتغلتم بتقويم الظاهر ، فخفتم الأسد ، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد .

وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه ومن سماع صوت الهاتف ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحد ما لم يشاهد ذلك من نفسه ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده أمران : أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم ، فلا يستحيل أيضا في اليقظة ، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات ، فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه والثاني إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره ؛ إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق وهذا لا يسمى نبيا ، بل يسمى وليا فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان : باب إلى خارج وهو الحواس ، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي فإذا أقربهما جميعا لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيلا إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت ، وأما السبب في انكشاف الأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير ، وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة ، فذلك أيضا من أسرار عجائب القلب ، ولا يليق ذلك إلا بعلم المكاشفة ، فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها فقد قال بعض المكاشفين : ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئا من ذكري الخفي عن مشاهدتي من التوحيد ، وقال : ما نكتب لك عملا ، ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله عز وجل ، فقلت : ألستما تكتبان الفرائض ? قالا بلى قلت : فيكفيكما ذلك وهذه إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب ، وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة وقال بعض العارفين : سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين ، فالتفت إلى شماله فقال : ما تقول رحمك الله ? ثم التفت إلى يمينه فقال : ما تقول رحمك الله ? ثم أطرق إلى صدره وقال : ما تقول رحمك الله ? ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عن التفاته فقال : لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد فسألت صاحب الشمال فقال : لا أدري ، فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال : لا أدري ، فنظرت إلى قلبي ، وسألته فحدثني بما أجبتك ، فإذا هو أعلم منهما وكأن هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم -: " إن في أمتي محدثين ، وإن عمر منهم .

وفي " الأثر إن الله تعالى يقول : أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه ، وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه : القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقة ، فأي باب فتح له عمل فيه ، فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأ الأعلى ، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة وقال بعض العلماء يد الله على أفواه الحكماء ، لا ينطقون إلا بما هيأ الله لهم من الحق وقال آخر لو شئت لقلت : إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعض سره .


(بيان شواهد الشرع من الكتاب والسنة)

(على صحة طريق التصوف في اكتساب المعرفة) بالله (لا من) طريق (التعليم، ولا من الطريق المعتاد) المألوف عند الناس (اعلم أنه من انكشف له ولو الشيء اليسير) أي: القليل (بطريق الإلهام، والوقوع في القلب من حيث لا يدري) كيف وقع وما سببه (فقد صار عارفا بصحة الطريق ، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به) أي: يصدقه بقلبه ، وهذا أقل الدرجات (فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا وتشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات ، أما الشواهد فقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) أي: جاهدوا نفوسهم وبأموالهم ، وجاهدوا عدوهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابروه وغلبوه ، فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من الحساب والأهوال لنهدينهم سبلنا، أي: لنصرفنهم إلى مكاشفات العلو، ولنسمعنهم غرائب الفهوم ولنوصلنهم إلى أقرب الطريق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا ، ثم ختم الأمر بقوله تعالى : وإن الله لمع المحسنين هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه

[ ص: 258 ] معهم أولا بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد ، وكان المحسن منهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غدا ، وقال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: الذين يعملون بما يعلمون يوفقهم ويهديهم إلى ما لا يعلمون ، وقال بعض السلف: نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى الله عز وجل المستوحشين من الناس ، فيسوق الله إليهم من يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة، (فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريق الكشف والإلهام ، قال -صلى الله عليه وسلم- : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم") تقدم في كتاب العلم، قال صاحب القوت: الحياء من الاختيار، والاختبار والابتلاء والاجتباء والتعريف والتأييد والمثوبة والعقوبة والقبض والبسط والحل والعقد والجمع والتفرقة ، إلى غير ذلك من علوم المعارف بعد حسن التفقه عن معرفة النقص والمزيد بصفاء القلب وصحة المواجيد ، وقال بعض التابعين: من عمل بعشر ما يعلم علمه الله تعالى ما يجهل (ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار) هذا نص القوت فهو من قول بعض التابعين ، وسياق المصنف يقتضي أنه بقية الحديث السابق ، ولذا قال العراقي : صدر الحديث تقدم في العلم ، وهذه الزيادة لم أرها. ا هـ .

والذي يظهر لي أنه سقط كلام من النساخ ، ثم قال صاحب القوت نقلا عن بعضهم: كلما ازداد العبد عبادة واجتهادا ازداد القلب قوة ونشاطا ، وكلما مل العبد وفتر ازداد القلب ضعفا ووهنا. (وقال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قيل) في تأويله: (يجعل له مخرجا من الإشكالات) الخيالية (والشبه) الوهمية (و) يرزقه من حيث لا يحتسب أي: (يعلمه علما من غير تعلم) أي: بالشاهد الصحيح، والعلم الصريح، وقيل: معناه يجعل له مخرجا من كل أمر، ضاق على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي يعلمه من غير تعليم بشر، ويعطفه من غير تجربة (وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا قيل: نورا يفرق بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات) هكذا نقله صاحب القوت إلا أنه قال: تفرقون به بين الحق والباطل ، وتعرفون به المشكلات ، (ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر في دعائه من سؤال النور) لأنه كما قال صاحب القوت: هو جند القلب كما أن الظلمة جند النفس ، فإذا أراد الله أن ينصر عبدا أمده بجنود الأنوار وقطع عنه مدد الظلم والأغيار، (فقال: اللهم أعطني نورا) من أنوارك أستضيء به (وزدني نورا ، واجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، حتى قال: وفي شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي) قال العراقي : متفق عليه من حديث ابن عباس. ا هـ .

قلت: ورواه الترمذي في السنن ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده قال: بعثني العباس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته ممسيا وهو في بيت خالتي ميمونة ، فقام فصلى من الليل ، فلما صلى الركعتين قبل الفجر قال: " اللهم إني أسألك. . . . " إلخ. وساق الحديث الطويل وفيه: " اللهم اجعل لي نورا في قلبي ، ونورا في قبري ، ونورا في يدي ، ونورا من تحتي ، ونورا في سمعي ، ونورا في بصري ، ونورا في شعري ، ونورا في بشري ، ونورا في لحمي ، ونورا في دمي ، ونورا في عظامي ، اللهم أعظم لي نورا، وأعطني نورا واجعل لي نورا " الحديث وقد تقدم بتمامه مع الكلام عليه في كتاب ترتيب الأوراد .

(وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) هكذا في سائر النسخ، والذي في القوت ، وسئل عن معنى قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام (ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح) ولفظ القوت: فقال: هو النور يقذف به في القلب فينشرح له الصدر وينفسح. وقال العراقي : رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود، وقد تقدم في العلم ا هـ .

قلت: وكذلك رواه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ، وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي قال: نزلت هذه الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فقلنا: يا رسول الله ، كيف انشراح صدره ، قال: " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " ، قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال:

[ ص: 259 ] " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت
" وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث ابن عمر نحوه ، ثم أخرجه عن أبي جعفر المدائني رفعه نحوه، (وقال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس) رضي الله عنه: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) قال العراقي : أخرجه بهذه الزيادة أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، وقد تقدم في العلم اهـ .

قلت: وقال صاحب القوت: ومن خواطر النفس ما يرد بشيء لا تظهر دلائله في الظاهر لخفائه وغموض شواهده ، فليس يعلم إلا بباطن العلم وغامض الفهم ، والغوص على لطائف معاني التبيين ، وباطن الاستنباط من فهم التنزيل ، وتعليم التأويل ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس. . . إلخ. (وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيء أسره النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا إلا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه) كذا في القوت، وقد تقدم في آداب تلاوة القرآن ، وفيه رد على الشيعة حيث إنهم يدعون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسر إليه بالخلافة وبأسرار غيرها ، كما هو شأن الأوصياء (وليس هذا بالتعلم) والدراسة، بل هو كشف رباني، (و) كما (قيل في تفسير قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (إنه الفهم في كتاب الله تعالى) كذا في القوت (وقال تعالى: ففهمناها سليمان خص ما انكشف له باسم الفهم) ولفظ القوت: فخصه بفهم منه فقه قلبه به، زاده فوق الحكم والعلم الذي شركه أبوه فزاد على فتياه، (وكان أبو الدرداء) رضي الله عنه (يقول: المؤمن ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق ، والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم) كذا في القوت ، إلا أنه قال: المؤمن ينظر إلى الغيب ، والباقي سواء (وقال بعض السلف: ظن المؤمن كهانة) أي: كأنه سحر في نفاذه وصحة وقوعه ، كذا في القوت (وقال -صلى الله عليه وسلم- : " اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله") عز وجل ، رواه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقد تقدم، والمعنى بنور الله أي باليقين ، وفي لفظ آخر: " اتقوا فراسة العلماء " فكأنه مفسر له، (وإليه يشير قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين") أي: للمتفرسين كما ورد، وهذا كان من طريق السلف من الصحابة والتابعين، إذا سئلوا وفقوا وألهموا الصواب لقربهم من حسن التوفيق ، وسلوكهم حقيقة محجة الطريق ، فخاطر اليقين إذا ورد على قلب موقن اضطرته مشاهدته إلى القيام به، وإن خفي على غيره ، وحكم عليه بيانه وبرهانه بصحة دليله ، وإن التبس على ما سواه (و) من ذلك (قوله تعالى) في تخصيص الموقنين: ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (وروى الحسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " العلم علمان، فعلم نافع في القلب، وذلك هو النافع") تقدم في كتاب العلم ، والمراد بالحسن البصري كما صرح به صاحب القوت، فالحديث مرسل (وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن: ما هو؟ فقال: هو سر من أسرار الله يقذفه الله في قلوب أحبائه لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا) نقله صاحب القوت إلا أنه قال: سئل بعض أهل المعرفة .

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : " إن من أمتي محدثين ومكلمين وإن عمر منهم") قال العراقي : رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان فيما قبلكم من الأمم محدثون ، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر " ورواه مسلم من حديث عائشة (وقرأ ابن عباس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث يعني الصديقين) نقله صاحب القوت (والمحدث) كمعظم (هو الملهم ، والملهم) هو (الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل) الذي هو قلب القلب ، وفيه باب إلى الملكوت الأعلى (لا من جهة المحسوسات الخارجة) وهو باب القلب ( وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون خصصها بهم وقال) تعالى: ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) وقال تعالى في فضل العلماء: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقال تعالى: قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وقال تعالى:

[ ص: 260 ] ولنبينه لقوم يعلمون فحقيقة العلم إنما هي بين التقوى واليقين ، وهذا هو علم المعرفة المخصوص به المقربون ، وهب لهم الآيات وخصهم بالبيان والدلالات بما استحفظوا من كتاب الله ، وكانوا عليه شهداء (و) قد (كان أبو يزيد) البسطامي قدس سره (وغيره) من العارفين (يقول) ولفظ القوت يقولون : (ليس العالم الذي يحفظ من كتاب الله) تبارك وتعالى (فإذا نسي ما حفظه صار جاهلا ، إنما العالم الذي يأخذ علمه عن ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس وهذا) لعمري لا ينسى علمه ، وهو ذاكر أبدا لا يحتاج إلى كتاب و (هو العالم الرباني) علمه منسوب إلى الرب قد أفيض عليه بلا اكتساب ، وهذا هو وصف قلوب الأبدال من المؤمنين ليسوا واقفين مع حفظ ، إنما هم قائمون بحافظ (وإليه الإشارة بقوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما ) أي: من عندنا ، ولدن ظرف مكان بمعنى عند إلا أنه لا يستعمل في الحاضر، (مع أن كل علم من لدنه ، ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا) ، بل علما انفعاليا لكونه أخذ من الغير (بل اللدني الذي ينفتح في ممر القلب) أي: باطنه المسمى بقلب القلب (من غير سبب مألوف من خارج) كتعلم ودراسة، (فهذه شواهد النقل) من الكتاب والسنة، (ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن) حد (الحصر) والاستقصاء (وأما مشاهدة ذلك بالتجارب ، فذلك أيضا خارج عن الحصر، وظهر ذلك عن الصحابة) رضوان الله عليهم (و) عن التابعين (ومن بعدهم) من أتباعهم وغيرهم (قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها عند موته: إنما هما أختاك ، وكانت زوجته حاملا) لم تلد بعد (فولدت بنتا ، وكان قد عرف قبل الولادة أنها بنت) فهذه كرامة له أكرمه الله بها ، قال الحافظ فتح الدين اليعموري المعروف بابن سيد الناس في كتابه المقامات العلية في الكرامات الجلية ، بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما حضر أبي أبا بكر الوفاة جلس، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد ، فإن أحب الناس غنى إلي بعدي أنت ، وإن أعز الناس فقرا إلي بعدي أنت ، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي ، فوددت والله أنك كنت حزتيه وأخذتيه ، فإنما هو أخواك وأختاك ، قال: قالت: هذا أخواي، فمن أختاي؟!! فقال: ذو بطن ابنة خارجة ، فإني أظنها جارية ، فكان كذلك .

(وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته في يوم جمعة: يا سارية ، الجبل) الجبل (إذا انكشف له) أي: وقع في روعه (العدو قد أشرف إليهم) وذلك في الجيش الذي أرسله مع أسامة إلى فارس فلاقى العدو، وهم في بطن واد ، وقد هموا بالهزيمة ، وبالقرب منهم جبل (فحذره لمعرفته) ذلك، ورفع به صوته فألقاه الله في سمع سارية ، فانحاز الناس إلى الجبل ، وقاتلوا العدو من جانب واحد ففتح الله عليهم، (ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة) . وقد أخرج هذه القصة الواقدي عن أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، وأخرجها سيف في الفتوح مطولة عن أبي عثمان ، وأبي عمر ، وابن العلاء ، عن رجل من بني مازن فذكرها ، وهي عند البيهقي في الدلائل ، واللالكائي في شرح السنة ، والديرعاقولي في فوائده ، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء من طريق ابن وهب، عن يحيى بن أيوب ، عن أبي عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: وجه عمر جيشا، وولى عليهم رجلا يدعى سارية ، فبينما عمر يخطب جعل ينادي: يا سارية، الجبل ، ثلاثا ، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر فقال: يا أمير المؤمنين، هزمنا ، فبينما نحن كذلك، إذ سمعنا صوتا ينادي: يا سارية ، الجبل ، ثلاثا ، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزمهم الله ، فقيل لعمر: إنك كنت تصيح هكذا ، وكذا ذكره حرملة في جمعه بحديث ابن وهب بإسناد حسن ، ولابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر ، عن أبيه: أنه كان يخطب يوم الجمعة فعرض في خطبته أن قال: يا سارية ، الجبل ، من استرعى الذئب ظلم ، فالتف الناس بعضهم إلى بعض، فقال لهم علي: ليخرجن مما قال ، فلما فرغ سألوه ، فقال: وقع في ظني أن المشركين هزموا إخواننا ، وأنهم يمرون بجبل ، وإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد ، وإن جاوزوه هلكوا ، فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه ، قال: فجاء البشير بعد شهر ، وذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم قال: فعدلنا إلى الجبل ففتح الله علينا ، وقد أفرد لطرقه القطب الحلبي الحافظ جزءا .

(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه وكتبت

[ ص: 261 ] فلقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزرا) أي: مؤخر العين (فتأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه لما دخلت: يدخل علي أحدكم وآثار الزنا ظاهرة على عينيه ، أما علمت أن زنا العينين النظر لتتوبن) إلى الله تعالى (أو لأعزرنك ، فقلت: أوحي بعد النبي؟! فقال: لا ، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة) وأما قوله: زنا العينين النظر ، فهو حديث مرفوع أخرجه ابن سعد في الطبقات ، والطبراني في الكبير عن علقمة بن الحويرث .

وروى الحافظ أبو الفتح اليعمري بسنده إلى زيد بن وهب قال: جاء وفد من البصرة فيهم رأس من الخوارج يقال له: جعدة بن بعجة ، فخطب وحمد الله ثم قال: يا علي ، اتق الله، فإنك ميت ، فقال علي: بل مقتول قتلا تصاب هذه، فتخضب هذه، عهد معهود وقضاء مقضي ، وقد خاب من افترى . وكان كما ذكر .

(وعن أبي سعيد) أحمد بن محمد (الخراز) البغدادي ، صحب ذا النون المصري،والبناجي والبسري وبشرا والسري ، توفي سنة 277 ، (قال: دخلت المسجد الحرام ، فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس) أي: عولة عليهم، (فناداني) إذ أشرف على خاطري (وقال: الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، فاستغفرت الله في سري) أي: في باطني، (فناداني) إذ أشرف على خاطري ثانيا، (وقال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ثم غاب عني ولم أره) فهذا الإشراف على الخاطر، إنما هو من مشاهدة اليقين .

(وقال زكريا بن داود: دخل أبو العباس) أحمد (بن مسروق) الطوسي ، توفي ببغداد سنة 295 صحب الحارث المحاسبي والسري (على أبي الفضل الهاشمي وهو عليل) أي: مريض يعوده، (وكان ذا عيال، ولم نعرف له سببا) أي: ظاهرا لرزقه (قال: فلما قمت قلت في نفسي: من أين يأكل هذا الرجل قال) فأشرف الله على خاطري (فصاح بي: يا أبا العباس، رد هذه الهمة الدنية) أي: الخسيسة (فإن لله تعالى ألطافا خفية ، وقال أحمد النقيب: دخلت على) أبي بكر (الشبلي يوما فقال: مفتونا يا أحمد ، فقلت: ما الخبر؟ قال: كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل ، فقلت: ما أنا ببخيل ، فقاومني خاطري) أي: عاودني ثانيا، (فقال: بل أنت بخيل ، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء) أي: من الفتوح (إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني ، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم) أحد خدام الخليفة (ومعه خمسون دينارا ، فقال: اجعلها في مصالحك) أي اصرفها في نفقاتك (قال: فأخذتها وخرجت ، فإذا بفقير مكفوف) البصر (بين يدي مزين) أي: حلاق (يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير ، فقال: أعطها المزين ، فقلت: إن جملتها كذا وكذا) دينارا (قال: أوليس قلنا لك: بخيل ، قال: فناولتها المزين) كما أمر (فقال) المزين بعد أن أبى من أخذها (قد عقدنا لما جلس الفقير بين أيدينا ألا نأخذ عليه أجرا ، قال: فرميت بها في دجلة) أي: النهر المعروف (وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل) ففيها أن إشراف الشبلي صحيح ، وقد أيده إشراف الولي المكفوف .

وفي الرسالة القشيرية سياق حكاية تشبه هذه قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الفتح يوسف بن عمر الزاهد القواس ببغداد، قال: حدثنا محمد بن عطية ، قال: حدثنا عبد الكبير بن أحمد قال: سمعت أبا بكر الصائغ قال: سمعت أبا جعفر الحداد أستاذ الجنيد قال: كنت بمكة فطال شعري، ولم يكن معي قطعة آخذ بها شعري ، فتقدمت إلى مزين توسمت فيه الخير ، وقلت: تأخذ شعري لله تعالى؟ فقال: نعم وكرامة ، وكان بين يديه رجل من أبناء الدنيا ، فصرفه وأجلسني ، وحلق شعري ، ثم دفع إلي قرطاسا فيه دراهم وقال: استعن بها على بعض حوائجك ، فأخذتها وأعقدت أن أدفع إليه أول شيء يفتح علي قال: فدخلت المسجد فاستقبلني بعض إخواني وقال: جاء بعض إخوانك بصرة من البصرة من بعض إخوانك فيها ثلاثمائة دينار قال: فأخذت الصرة وجئت بها إلى المزين وقلت: هذه ثلاثمائة دينار تصرفه في بعض أمورك فقال لي: يا شيخ ألا تستحي؟! تقول: احلق شعري لله تعالى، ثم آخذ عليه شيئا

[ ص: 262 ] انصرف عافاك الله تعالى .

(وقال) القشيري في الرسالة أيضا: سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت (حمزة بن عبد الله العلوي) يقول: (دخلت على أبي الخير التيناني) يعرف بالأقطع مغربي الأصل، سكن تينان بكسر المثناة الفوقية وسكون الياء التحتية كأنه جمع تين قرية من قرى الموصل (و) كنت (اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل) عنده (في داره طعاما ، فلما خرجت من عنده) ومشيت قدرا يسيرا (إذا به) خلفي (قد لحقني وقد حمل طبقا فيه طعام وقال: يا بني ، كل) هذا (فقد خرجت الساعة من اعتقادك) فأشرفه الله على خاطره أولا ، وعند خروجه عنه ثانيا .

قال القشيري : (وكان أبو الخير التيناني هذا مشهورا بالكرامات) والفراسة الحادة ، وكان كبير الشأن ، مات سنة نيف وأربعين وثلاث مائة (قال إبراهيم) بن داود (الرقي:) من كبار مشايخ الشام من أقران الجنيد ، وقد عمر إلى سنة ست وعشرين وثلاث مائة (قصدته) يعني أبا الخير التيناني (مسلما عليه، فحضرت صلاة المغرب) فصلى إماما (فلم يكن يقرأ سورة الفاتحة مستويا) أي: مستقيما (فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي ، فلما سلم) وسلمت (خرجت إلى الطهارة) أي: إلى موضعها كنى به عن إراقة الماء، (فقصدني سبع) أراد أن يبطش بي (فعدت إلى أبي الخير، وقلت: قصدني الأسد فخرج) أبو الخير (وصاح به) أي: عليه (وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني فتنحى الأسد فتتطهرت ، فلما) فرغت (ورجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر، فخفتم الأسد ، واشتغلنا بتقويم الباطن) أي: القلب (فخافنا الأسد) نقله القشيري في الرسالة .

ونقل أيضا أنه حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهم سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟! فقال: لا تخف، وأخذ شيبان أذنيه فعركهما فبصبص وحرك أذنيه، فقال سفيان: ما هذه الشهرة ، فقال: لولا مخافة الشهرة لما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتي مكة .

ونقل هو وصاحب الحلية أنه كان إبراهيم بن أدهم في رفقة فعرض لهم السبع فقالوا: يا أبا إسحاق ، قد عرض لنا السبع ، فجاء إبراهيم وقال: يا أسد إن كنت أمرت فينا فامض ، وإلا فارجع ، فرجع الأسد ومضوا .

ونقلا عن حامد الأسود قال: كنت مع إبراهيم الخواص في البرية ، فبينما نحن عند شجرة وجاء السبع ، فصعدت الشجرة إلى الصباح لا يأخذني النوم ، ونام الخواص والسبع يشم من رأسه إلى قدمه ، ثم مضى ، فلما كان الليلة الثانية بتنا في مسجد في قرية ، فوقعت بقة على وجهه فضربته فأن أنة فصاح ، فقلت: هذا عجب البارحة لم تجزع من الأسد، والليلة تصيح من البقة ، فقال: أما البارحة فتلك حالة كنت فيها مع الله تعالى ، وأما الليلة فهذه حالة أنا فيها مع نفسي .

(وما حكي من تفرس المشايخ وأخبارهم عن اعتقادات الناس و) عن (ضمائرهم يخرج عن الحصر) لكثرته، (بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام) عيانا، (والسؤال له ومن سماع صوت الهاتف) من الغيب، (ومن فنون الكرامات) التي أكرم الله تعالى أصفياءه بها (خارج عن الحصر) أيضا لكثرته (والحكاية لا تنفع الجاحد) أي: المنكر (ما لم يشاهد ذلك بنفسه) فيكون ذلك برهانا له (ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل) في فروعه (والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده) أي: إنكاره (أمران: أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة) في المنام (فإنه يتكشف بها الغيب) أي: ما غاب عن الحس ، (وإذا جاز ذلك في النوم، فلا يستحيل أيضا في اليقظة، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس) وخمودها (وعدم اشتغالها بالمحسوسات، فكم من مستيقظ غائص) في بحر خيال (لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه) حتى أنه يمر عليه الإنسان فيسلم عليه فلا يحس به (والثاني إخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغيب) من أحوال الأنبياء وأخبارهم وأخبار الجنة والنار (و) عن (أمور) تقع (في المستقبل) كأحوال البرزخ والحشر والنشر ، وأحوال أمته وما يؤول إليه أمرها (كما اشتمل عليه القرآن) والسنة (وإذا جاز ذلك للنبي جاز لغيره؛ إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق) بهدايتهم وإرشادهم لما فيه مصلحتهم (فلا يستحيل أن يكون في

[ ص: 263 ] الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق) بل بإصلاح نفسه، (وهذا لا يسمى نبيا، بل يسمى وليا) قال القشيري في الرسالة: ظهور الكرامات على الأولياء جائز ، والدليل على جوازه أنه أمر موهوم حدوثه في العقل ، لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول ، فوجب وصفه سبحانه بالقدرة على إيجاده ، فإذا وجب كونه مقدور الله سبحانه ، فلا شيء يمنع جواز حصوله، وظهور الكرامات على من صدق ممن ظهرت عليه في أحواله ، فلم يكن صادقا ، فظهور مثله عليه لا يجوز ، والذي يدل على أن تعريف القديم سبحانه إيانا حتى نفرق بين من كان صادقا في أحواله ، وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لا يوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هي الكرامة ولا بد من أن تكون الكرامة فعلا ناقضا للعادة في أيام التكليف ظاهرا على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله اهـ .

(فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة بأن يقر بأن القلب له بابان: باب إلى خارج وهو الحواس ، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي) فالأخير خاص بالأنبياء والإلهام والنفث عام فيهم، وفي الأولياء ومنهم من جعلهما من أقسام الوحي، وقد تقدم الكلام عليه قريبا (فإذا أقر بهما) أي: بالأمرين المذكورين (جميعا) من غير إنكار ولا نقص (لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة) في الدراسة، (بل يجوز أن تكون المجاهدة) في نفسه التي هي أعدى عدوه (سبيلا إليه) كما يرشد إليه قوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت ، وأما السبب في انكشاف الأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير ، وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة، فذلك أيضا من أسرار عجائب القلب، ولا يليق ذلك لا بعلم المكاشفة ، فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف فيها) قال القشيري في الرسالة: الرؤيا نوع من الكرامات، وتحقيق الرؤيا خواطر ترد على القلب ، وأحوال تتصور في الوهم إذا لم يستغرق النوم جميع الاستشعار فيتوهم الإنسان عند اليقظة أنه كان رؤية في الحقيقة ، وإنما كان ذلك تصورا وأوهاما تقررت في قلوبهم، حين زال عنهم الإحساس الظاهر تجردت تلك الأوهام من المعلومات بالحس والضرورة فقويت تلك الحالة عند صاحبها ، فإذا استيقظ ضعفت تلك الأحوال التي تصورها بالإضافة إلى حال إحساسه بالمشاهدات وحصول العلوم الضرورية ، ومثاله كالذي يكون في ضوء السراج عند اشتداد الظلمة، فإذا طلعت الشمس عليه غلب ضوء الشمس ضوء السراج، فيتقاصر ضوء السراج بالإضافة إلى ضوء السراج ، فمثال حال النوم كمن هو في ضوء السراج ، ومثال المتيقظ كمن تعالى عليه النهار ، وإن المتيقظ يتذكر ما كان متصورا له في حال نومه ، ثم إن تلك الأحاديث والخواطر التي كانت ترد على قلبه في حال نومه مرة تكون من قبل الشيطان ، ومرة من هواجس النفس ، ومرة بخواطر الملك ، ومرة تكون تعريفا من الله تعالى بخلق تلك الأحوال في قلبه ابتداء ، وفي الخبر: " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا " (فقد قال بعض المكاشفين: ظهر لي الملك فسألني أن أملي عليه شيئا من ذكري الخفي عن مشاهدتي من التوحيد، وقال: ما نكتب لك عملا، ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله تعالى ، فقلت: ألستما تكتبان الفرائض؟ قالا: بلي ، فقلت: فيكفيكما ذلك) هكذا نقله صاحب القوت ، (وهذا إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب ، وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة) وقال بعض العارفين: بل يطلعون على بعض أعمال القلب بقرائن خارجة ، فإن المؤمن إذا ذكر الله في قلبه فاحت منه رائحة طيبة إلى فمه ، فيشمونها الملائكة فيدركون بها إذا ذكر الله تعالى، فيكتبون ذلك في صحيفة حسناته .

(وقال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من) ولفظ القوت: وحدثنا بعض العلماء قال: سألت بعض الأبدال عن العلم (مشاهدة اليقين ، فالتفت إلى شماله فقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم التفت إلى يمينه فقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم أطرق إلى صدره

[ ص: 264 ] وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم أجاب بأغرب جواب سمعته) قط وأعلاه (فسألته عن التفاته) ولفظ القوت: رأيتك التفت عن شمالك ويمينك، ثم أقبلت على صدرك فما ذلك؟ (فقال: لم يكن عندي في المسألة) التي سألتني عنها (جواب) ، ولفظ القوت علم (عتيد) أي: حاضر (فسألت صاحب الشمال) فظننت أن عنده منها علما (فقال: لا أدري ، فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال: لا أدري ، فنظرت إلى قلبي، وسألته فحدثني بما أجبتك ، فإذا هو أعلم منهما) هكذا نقله صاحب القوت (وكان هذا هو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن في أمتي محدثين، وإن عمر منهم ") تقدم الكلام عليه قريبا ، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله نقلا عن ولد الشيخ أبي الحسن الشاذلي قال: دخلت على والدي فسمعته يقول: والله لقد يسألونني عن المسألة لا يكون لها عندي جواب ، فإذا الجواب مسطر في الزاوية في الحصيرة أو الحائط (في الأثر) عن بعض التابعين (إن الله تعالى يقول: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري توليت سياسته) أي: بيدي (وكنت جليسه وحادثه وأنيسه ، وقال أبو سليمان) عبد الرحمن بن عطية (الداراني رحمه الله تعالى: القلب بمنزلة القبة المضروبة) بالعمد والأطناب والأوتاد (حولها أبواب مغلقة ، فأي باب فتح له عمل فيه ، فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة من جهات الملكوت والملأ الأعلى ، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة) للنفس (والوزع) عن المحرمات (والإعراض عن شهوات الدنيا) وملاذها (ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد) وهم الذين ولاهم على عساكر الإسلام الموجهين لقتال الأعداء ، وكان لا يولي أميرا إلا من كانت له صحبة: (احفظوا ما تسمعون من المطيعين) لله تعالى (فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة) نقله صاحب القوت (وقال بعض العلماء يد الله على أفواه الحكماء، لا ينقطعون إلا بما هيأ الله لهم من الحق) نقله صاحب القوت ، قلت: أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من طريق عبد الله بن زيد قال: قال لقمان: إلا أن يد الله فذكره، (وقال آخر) منهم (لو شئت لقلت: إن الله تعالى يطلع الخاشعين) لله تعالى (على بعض سره) نقله صاحب القوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية