إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس ، ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها .

اعلم أن القلب كما ذكرناه مثل قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب ومثاله أيضا مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه ، وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال أما ، من الظاهر فالحواس ، الخمس وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس ، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر ، والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار وأعني به إدراكاته علوما إما على سبيل التجدد ، وإما على سبيل التذكر ، فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها ، والخواطر هي المحركات للإرادات .

فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء ، والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا إلى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواسا ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب .

فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة .

وكذلك ، لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان ، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا وسبب الخاطر ، الداعي إلى الشر يسمى شيطانا ، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا ، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا ، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحق ، والوعد بالخير ، والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر ، والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر فالوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان وإليه الإشارة بقوله تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم - : " في القلب لمتان : لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله ، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا قوله : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية ، وقال الحسن إنما هما همان يجولان في القلب: هم من الله تعالى ، وهم من العدو ، فرحم الله عبدا وقف عند همه ، فما كان من الله تعالى أمضاه ، وما كان من عدوه جاهده ولتجاذب القلب بين هذين التسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فالله يتعالى عن أن يكون له أصبع مركبة من لحم وعظم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ، ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير ، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه ، بل لفعله في التقليب والترديد ، كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطان ، وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلا ، والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ، ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا ليس يترجح أحدهما على الآخر ، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى ، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه ، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى ، لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم - : ما منكم من أحد إلا وله شيطان ، قالوا : وأنت يا رسول الله ? قال : وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة، فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي ، فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالا فوسوس ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم، والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويكون اجتياز الثاني اختلاسا ، وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة، ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى، ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب من قوت الشيطان ، وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة، قال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص ، فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه، يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان ، ولذلك قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله، ولذلك سلط الله عليه الشيطان .

وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده، فهو عبد الهوى لا عبد الله ، ولذلك قال عمرو بن العاص: للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي ، فقال: ذلك شيطان يقال له: خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك ، فأذهبه الله عني ، وفي الخبر : إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان ، فاستعيذوا بالله منه ، ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل ، ولكن كل شيء سوى الله تعالى ، وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان ، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ، ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة ، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة، قال الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .

وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى: من شر الوسواس الخناس قال: هو منبسط على القلب ، فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض ، وإذا غفل انبسط على قلبه، فالتطارد بين ذكر الله ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار؛ ولتضادهما قال الله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- : إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم ، فإن هو ذكر الله تعالى خنس وإن نسي الله التقم قلبه .

وقال ابن وضاح في حديث ذكره : إذا بلغ الرجل أربعين سنة ، ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده ، وقال: بأبي وجه من لا يفلح وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم ودمه فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع ، وذلك ؛ لأن الجوع يكسر الشهوة ، ومجرى الشيطان الشهوات ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه ؛ قال الله تعالى إخبارا عن إبليس لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وقال صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتترك دينك ودين آبائك فعصاه وأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر ، أتدع أرضك وسماءك فعصاه وهاجر هو قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك ، فعصاه وجاهد، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، فذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم معنى الوسوسة ، وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتل وتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة ، فإذا الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب يفتقر إلى اسم يعرفه ، فاسم سببه الشيطان، ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام- : ما من أحد إلا وله شيطان فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أو ليس بجسم ، وإن كان جسما فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم ، فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة ، بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاج إلى إزالتها ودفع ضررها ، فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها ، وذلك عين الجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ، ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة ، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغي أن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه نعم ، ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسه وسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين ، فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته نعوذ بالله منه وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته ، نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعا أنه داع إلى الشر ، فلا يخفى كونه وسوسة ، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاما ، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان ، فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير ، والتمييز في ذلك غامض وأكثر العباد به يهلكون فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر بصورة الخير كما يقول للعالم بطريق الوعظ أما تنظر إلى الخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار .

أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة فكيف تكفر نعمة الله تعالى وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم وهو لا ، يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له : إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق ولا يزال يقرر ذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير ، وإنما قصده الجاه والقبول فيهلك بسببه وهو يظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فقال له : قل : لا إله إلا الله فقال كلمة حق ، ولا أقولها بقولك ؛ لأن له أيضا تحت الخير تلبيسات وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى ، وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة .

وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتابا على الخصوص نسميه تلبيس إبليس فإنه قد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها كل ذلك إذعانا لتلبيسات الشيطان ومكايده .

فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع ، ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أي : رجعوا إلى نور العلم فإذا هم مبصرون أي : ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه ، وهو لا يشعر ، وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قيل : هي أعمال ظنوها حسنات ، فإذا هي سيئات وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايد الشيطان ، وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهم الوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه ولا ينجي من كثرة الوسواس إلا سد أبواب الخواطر وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهوات وعلائق الدنيا والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس والتجرد عن الأهل والمال يقلل مداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلب وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم إنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه ويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حيا نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسه شره بالجهاد ، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه فإذا ما دام حيا فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق ، وهي الشهوة والغضب والحسد والطمع والشره وغيرها كما سيأتي شرحها ومهما كان الباب مفتوحا والعدو غير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة .

قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان ? فتبسم وقال : لو نام لاسترحنا فإذن لا خلاص للمؤمن منه نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته ؛ قال صلى الله عليه وسلم - : إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول، وقال قيس بن الحجاج قال لي شيطاني: دخلت فيك، وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، وقلت: ولم ذاك، قال: تذيبني بذكر الله تعالى ، فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة ، أعني: الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة لأنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماء والوعاظ، والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة، وباب الملائكة باب واحد وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة، والعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة، فلا يكاد يعلم الطريق لا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة، والعين البصيرة ها هنا هي القلب المصفى بالتقوى، والشمس المشرقة هو العلم العزيز المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة غامضة، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمين الخط وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل لتلك الخطوط، فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه وقد ذكرنا مثالا للطريق الغامض من طرقه ، وهو الذي يخدع به العلماء والعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة فلنذكر مثالا لطريقه الواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه ، وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جارية فخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلها ، فلم يزالوا به حتى قبلها ، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتها ولم يزل به حتى واقعها فحملت منه ، فوسوس إليه وقال : الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها ، فإن سألوك فقل : ماتت فقتلها ودفنها فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم ، وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها ، فأتاه أهلها فسألوه عنها ، فقال : ماتت . فأخذوه ليقتلوه بها ، فأتاه الشيطان فقال : أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا؟ قال: اسجد لي سجدتين ، فسجد له سجدتين فقال له الشيطان: إني بريء منك ، فهو الذي قال الله تعالى فيه : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك فانظر الآن إلى حيله واضطراره الراهب إلى هذه الكبائر وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة ، وهو أمر هين ، وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة ، فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى ، فيقدم عليه كالراغب في الخير ، فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لا يجد محيصا، فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

.


(بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس، ومعنى الوسوسة وغلبتها) .

(اعلم أن القلب كما ذكرناه) عن أبي سليمان الداراني (في مثال قبة مضروبة لها) من حواليها أبواب مغلقة (تنصب إليه الأحوال من كل باب) على اختلافها في ورودها عليه (ومثاله أيضا مثال هدف) محركة، هو الغرض الذي يرمى عليه بالسهام (تنصب إليه السهام من الجوانب) والأطراف المحايذة له (أو هو مثال مرآة) كبيرة مصقولة (منصوبة) على موضع عال حيث ممر الناس، وغيرهم (يجتاز) أي: يمر (عليه أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة فلا تخلو عنها أو) هو (مثال حوض) لها (تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار) أو مساق أو جداول ( مفتوحة إليه ، وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال، إما من الظاهر، فبالحواس الخمس)الظاهرة، (وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان) أي: من أصل خلقته، (فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا) من مسموع أو مبصر أو مذوق أو ملموس أو مشموم (حصل منه أثر في القلب) ظاهر ينفع له (وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل) للأطعمة المقوية للشهوة (وبسبب قوة في المزاج) وقوته بسبب قربه من الاعتدال الحقيقي، وذلك في سن الوقوف وسن الشباب (حصل منها في القلب أثر وإن كف

[ ص: 265 ] عن الإحساس، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى) مركوزة فيها، (وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر ، والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار وأعني به) أي: بما يحصل فيه مما ذكر (إدراكاته علوما إما على سبيل التجدد، وإما على سبيل التذكر ، فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر) فيه، (بعد أن كان القلب غافلا عنها ، والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والنية تحرك الأعضاء ، والخواطر محركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة، فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا إلى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يسمى إلهاما) وهو ما يلقى في الروع بطريق الفيض (والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواسا) من الوسوسة، وهي الخطرة الردية، (ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر) بأنواعها (حادثة ، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث) ضرورة، (ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب ، فمهما استنارت بنور النار، وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة ، كذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان ، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا ، والسبب الداعي إلى الشر يسمى شيطانا ، واللطف الذي به يتهيأ القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا ، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا ، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسام مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحق ، والوعد بالخير ، والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك، والشيطان عبارة عن خلق) خلقه الله تعالى (شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر، والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر) لقوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء (والوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان) فكل منهما زوج للآخر مقابل له ، منها ما هي أدوات الظاهر ومنها ما هي أعراض الباطن، وهي حواس الجسم والقلب ، فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة ، وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها سبحانه بحكمته وسواها على مشيئته، وقومها إتقانا بصنعته .

أولها: النفس والروح وهما مكانان للإلقاء، والعدو والملك وهما شخصان يلقيان الفجور والتقوى ، ومنها عرضان متماسكان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين من مشيئة حاكم ، وهما التوفيق والإغواء ، ومنها نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم، وهما العلم والإيمان ، فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الفائتة وآلاته ، والقلب وسط هذه الأدوات كالملك ، وهذه جنوده تؤدي إليه ، أو كالمرآة المجلوة ، وهذه الآلة حوله تظهر فيراها، وتقدح فيه فيجدها، (وإليه الإشارة بقوله تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين ) وقوله تعالى: الذي خلقك فسواك فعدلك وقوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (فإن الموجودات كلها متقابلة

[ ص: 266 ] مزدوجة) مسواة معدولة مقومة (إلا الله تعالى فإنه لا مقابل له) كما أنه لا شريك له، (بل هو الواحد الحق) المطلق (الخالق للأزواج كلها) وقد قسم صاحب القوت الخواطر، وفسر أسماءها بما يقرب من تقدير المصنف، فقال: ما وقع في القلب من عمل الخير فهو إلهام ، وما وقع من عمل الشر فهو وسواس ، وما وقع في القلب من المخاوف فهو إيجاس ، وما كان من تقدير الخير وأمله فهو نية ، وما كان من تدبير المباحات والطمع فيها وتوجيهها فهو أمل وأمنية ، وما كان من تذكر أمر الآخرة والوعيد فهو تذكر وتفكر ، وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة ، وما كان من تحدث النفس بمعاشها فهو هم ، وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم ، ويسمي جميع ذلك خواطر؛ لأنه خطور همة النفس أو خطور عدو يحدس أو خطرة ملك بهمس ، ثم إن ترتيب الخواطر المنشأة من خزائن الغيب القادحة في القلب على ستة معان ، وهي حدود الشيء المظهر ثلاثة منها معفوة ، وثلاثة مطالب بها ، فأول ذلك الهمة وهو ما يبدو من وسوسة النفس بالشيء يجده العبد بالحس كالبرق ، فإن صرفها بالذكر امتحت ، وإن تركها بالغفلة صارت خواطر وهو خطور العدو بالتزيين ، وإن نفى الخاطر ذهب، وإن دنا منه قوي فصار وسوسة، وهذه محادثة النفس للعدو وإصغاؤها إليه ، وإن نفى العبد هذه الوسوسة بذكر الله عز وجل خنس العدو ، وضعفت النفس ، وهذه الثلاثة معفوة؛ رحمة من الله سبحانه غير مؤاخذ بها العبد ، وإن مرح العدو والنفس في محادثة العدو ، وطاولت النفس للعدو بالإصغاء والمحادثة قويت الوسوسة فصارت نية ، فإن أبدل العبد هذه النية بنية خير أو استغفر منها وتاب وإلا قويت فصارت عقدا ، فإن حل هذا العقد بالتوبة وهو الإصرار والأقوى فصار عزما ، وهو القصد ، وهذه الثلاث من أعمال القلب مأخوذ بها العبد ومسئول عنها العبد ، فإن تداركه الله تعالى بعد العزم، وإلا تمكن العزم فصار طلبا وسعيا ، وظهور العمل على الجوارح من خزانة الغيب والملكوت ، فصار من أعمال الجسم في خزانة الملك والشهادة ، فهذه المعاني توجد من أعمال البر والإثم ، فما كان منها من البر همة ونية وعزما كان محسوبا للعبد في باب النيات مكتوبا له في ديوان الإرادات، له به حسنات ، وما كان منهما من الشر نية وعقدا وعزما فعلى العبد فيه مؤاخذة من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصي ، وليس مجانس للعدو ومؤاخ له إلا النفس، جمع بينهما في الوسوسة ، قال الله تعالى: الوسواس الخناس وقال تعالى: ونعلم ما توسوس به نفسه وكل شيء خلقه الله تعالى فله مثل وضد ، فمثل النفس الشيطان وضدها الروح ، وأعمال الجوارح من النوعين الطاعة والمعصية أعظم في الأجر والوزر معا ، إلا ما لا يتأتى أن يعلمه بظاهر الجسم من شهادة التوحيد أو وجود شك وكفر واعتقاد بدعة. والله أعلم .

(فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : " في القلب لمتان: لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير") قال صاحب القوت: وهو قول ابن مسعود ، وقد رويناه من طريق مسندا ، وقال العراقي : رواه الترمذي والنسائي في الكبير من حديث ابن مسعود . ا هـ .

قلت: ورواه كذلك ابن حبان، وقال الترمذي بعد أن رواه عن هناد: حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. . . فذكره : هو حسن غريب لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص ، ولفظهم : إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، وفي الرواية الصحيحة: إيعاد في الموضعين وهو إن كان مختصا بالشر عرفا ، إلا أنه استعمله في الخير للازدواج، وإلا من الاشتباه بذكر الخير بعده ، واللمة بالفتح: القرب والإصابة فعلة من الإلمام ، ونسبة لمة الملك إلى الله تعالى فيها تنويه بشأن الخير وإثارة بذكره (وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (إنما هما همان يجولان في القلب: هم من الله تعالى ، وهم من العدو ، فرحم الله عبدا وقف عند همه ، فما كان من الله تعالى أمضاه ، وما

[ ص: 267 ] كان من عدوه جاهده) نقله صاحب القوت، والتمييز بين اللمتين لا يهتدي إليه أكثر الناس ، وإنما يتشوف إلى معرفتهما وتمييز الخواطر طالب مريد يتشوف إلى ذلك ، كتشوف العطشان إلى الماء لما يعلم من وقع ذلك وخطره وصلاحه وفساده ، ويكون ذلك عبدا مرادا بالخطوة بصفو اليقين ومنح الموقنين ، وأكثر التشوف إلى ذلك للمقربين، ومن أخذ به في طريقهم ، ومن أخذ في طريق الأبرار قد يتشوف إلى ذلك بعض التشوف ؛ لأن التشوف إليه يكون على قدر الهمة ، والطلب والإرادة والحظ من الله الكريم، ومن هو في مقام عامة المسلمين والمؤمنين لا يتطلع إلى معرفة اللمتين ، ولا يهتم بتمييز الخواطر؛ (ولتجاذب القلب بين هذين التسلطين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر، وقد تقدم قريبا (فالله يتعالى عن أن يكون له أصبع مركبة من لحم وعظم ودم منقسمة بالأنامل ، ولكن روح الأصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير ، فإنك لا تريد أصابعك لشخصه، بل لفعله في التقليب والترديد ، كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك) وجميع الألفاظ الموهومة في الأخبار يكفي في دفع إيهامها قرينة واحدة وهي معرفة الله ومعرفة أنه ليس بجسم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، (والله تعالى إنما يفعل ما يفعله باستسخار الملك والشيطان، وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب) أي: جرها إلى خير أو شر (كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلا ، والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ، ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا) بطرفيه (ليس يترجح أحدهما على الآخر ، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات) أي: الملازمة عليها (والإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسليط الشيطان بواسطة الهوى ، وصار القلب عش الشيطان) أي: مأواه (ومعدنه) أي: محل إقامته؛ (لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه ، وإن جاهد الشهوات لم يسلطها على نفسه) بأن تنصل عنها واسترذلها، (وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم) .

اعلم أن المستولي على الإنسان أولا شهواته وغضبه وبحسب مقتضاهما انبعاثه إلى أن يظهر فيه الرغبة في طلب الكمال والنظر للعاقبة وعصيان مقتضى الشهوة والغضب ، فإن غلب الشهوة والغضب حتى ملكهما وضعف عن تحريكه وتسكينه أخذ بذلك شبها من الملائكة ، وكذلك إن فطم نفسه عن الجحود والخيالات والمحسوسات وأنس بالإدراك أخذ شبها آخر من الملائكة، فإن خاصية الحياة الإدراك والفعل ، وإليهما يتطرق النقصان والكمال ، ومهما اقتدى بالملائكة في هاتين الخاصيتين كان أقرب من الملائكة (ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة من الهوى، لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : ما منكم من أحد إلا وله) وفي رواية معه (شيطان ، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه وأسلم) بلفظ الماضي من الإسلام أو بلفظ المضارع من السلامة، وقد روي بالوجهين، (فلا يأمر إلا بالخير) قال العراقي : رواه مسلم من حديث ابن مسعود ا هـ .

قلت: هذا لفظ مسلم من حديث عائشة ، ورواه كذلك الطبراني في الكبير من حديث أسامة بن شريك ، وليس فيه: فلا يأمر إلا بالخير ، وأما لفظ حديث ابن مسعود عند مسلم: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله عز وجل أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بالخير. وكذلك رواه أحمد . ويروى ذلك أيضا عن شريك بن طارق بلفظ: ما منكم من أحد إلا وله شيطان. قالوا: ولك يا رسول الله؟ قال: ولي ، ولكن الله أعانني عليه فأسلم. رواه ابن حبان والبغوي والطبراني، وقال البغوي : ولا أعلم لشريك بن طارق غيره، ويروى أيضا عن المغيرة بن شعبة بلفظ: ما من أحد إلا جعل معه قرين من الجن. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بالخير. رواه الطبراني

[ ص: 268 ] (وإنما كان هذا الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة، فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي ، فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير) لتضييق طرقه فلا يقدر على التسلط (ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالا) أي: محل جولان (فوسوس) ودبر شغله، (ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله) ولم يقدر على إقامته، (وأقبل الملك وألهم الخير) وفي نسخة: فألهم الملك، وأقبل (والتطارد بين جندي الملائكة والشيطان في معركة القلب دائم) لا ينقطع بين غالب ومغلوب (إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيتمكن) فيه (ويستوطن) أي: يتخذه محل إقامة ، وفي بعض النسخ فيستوطن ويتمكن (ويكون اختيار الثاني اختلاسا) يختلسه (فأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها) وفي نسخه ملكوها (فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار) الحياة (العاجلة) الفانية (واطراح الآخرة) الباقية (ومبدأ استيلائها) أي: تلك الجنود (اتباع الشهوات والهوى، ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب من قوت الشيطان ، وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة) ومحل ظهورهم .

(قال جرير بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد) بن مطر العدوي البصري أحد العباد. كنيته أبو نصر. ثقة. روى له البخاري معلقا ، وأبو داود في المراسيل ، والنسائي وابن ماجه ، مات سنة أربع وتسعين ومائة (ما أجد في صدري من الوسوسة؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي تمر به اللصوص ، فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه) قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا جرير بن عبيدة ، عن أبيه قال: قلت للعلاء بن زياد: إذا صليت وحدي لم أعقل صلاتي ، قال: أبشر هذا علم الخير ، أما رأيت أن اللصوص إذا مروا بالبيت الخرب لم يلووا عليه ، وإذا مروا بالبيت الذي فيه المتاع زاروه حتى يصيبوا منه شيئا ، وقد ظهر من هذا السياق أنه سقط على المصنف: عن أبيه . وللعلاء بن زياد ترجمة حسنة في الحلية (يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان ، ولذلك قال) الله (تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) أي: تسلط وتمليك لأنهم قد أخلوا قلوبهم عن الشهوات ومقتضياتها (فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى) وذليله، ومسخره (لا عبد الله، ولذلك سلط) الله (عليه الشيطان) ووكل به (وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أي أن الهوى إلهه ومعبوده، فهو عبد الشيطان لا عبد الله ، وقال عمرو بن العاص:) كذا في النسخ ، والصواب عثمان بن أبي العاصي ، وهو أبو عبد الله الثقفي الطائفي أخو الحكم بن أبي العاصي ، ولهما صحبة ، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في وفد ثقيف، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم- على الكوفة ، ثم أقره أبو بكر وعمر، مات سنة إحدى وخمسين، وروى له الجماعة سوى البخاري ، قد تقدم ذكره في كتاب الصلاة (للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي ، فقال: ذلك شيطان يقال له: خنزب) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون وكسر الزاي (فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك ، فأذهبه الله عني) قال العراقي : رواه مسلم من حديثه (وفي الخبر: إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان ، فاستعيذوا بالله منه) قال العراقي : رواه ابن ماجه والترمذي من حديث أبي بن كعب وقال: غريب ، وليس إسناده بالقوي من أهل الحديث ( ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم ما كان فيه

[ ص: 269 ] من قبل ، ولكن كل شيء سوى الله تعالى ، وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان ، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ، ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ولا يعالج الشيء إلا بضده) ليكون مخرجا له ومبطلا أثره ( وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله تعالى بالاستعاذة والتبري من الحول والقوة ، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون) الخاشعون (الغالب عليهم ذكر الله تعالى) في سائر أوقاتهم (وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات) والغفلات (على سبيل الخلسة) والمخاتلة (قال الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) فأخبر أن جلاء القلب الذكر، به يبصر القلب وإن باب الذكر التقوى، به يذكر العبد ، فالتقوى باب الآخرة كما أن الهوى باب الدنيا (وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس قال: هو منبسط على القلب ، فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض ، وإذا غفل) عن ذكر الله تعالى (انبسط على قلبه) ، هكذا نقله صاحب القوت .

ويروى عن ابن عباس قال: " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس" أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه ، ويروى عنه أيضا أنه قال: " ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس ، فإن ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس ، فذلك قوله الوسواس الخناس أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي والضياء في المختارة (فالتطارد بين ذكر الله ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النار والظلام) أحدهما ينسخ الثاني (وبين الليل والنهار) فإذا جاء الليل ذهب النهار وبالعكس ، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره ، وآخر بضده ، ومنهم من يكون زمنه نهارا كله وآخر ضده ، (ولتضادهما قال الله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان ) أي: غلب عليهم واستمالهم إلى ما يريده من الشهوات ( فأنساهم ذكر الله ) أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون (وقال أنس) رضي الله عنه: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إن الشيطان واضع خرطومه) ، وهو من الفيل أنفه ، وفي لفظ خطمه أي فمه أو أنفه ، والخطم من الدابة مقدم أنفها وفمها (على قلب ابن آدم ، فإن هو) وفي لفظ فإذا (ذكر الله تعالى خنس) أي انقبض وتأخر، (وإن نسي الله التقم قلبه) فذلك الوسواس الخناس ، فبعد الشيطان من الإنسان على قدر ملازمته للذكر ، والناس في ذلك متفاوتون ، قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى الموصلي وابن عدي في الكامل وضعفه اهـ .

قلت: وكذلك رواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب ، وفي سند أبي يعلى وابن عدي عدي بن أبي عمارة وهو ضعيف ، وفي الترغيب لابن شاهين أيضا عن أنس مرفوعا بلفظ: إن للوسواس خطما كخطم الطائر ، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس ، فإذا ذكر الله خنس ، فذلك الوسواس الخناس ، وأخرج أبو بكر بن أبي داود في كتاب ذم الوسوسة عن معاوية في قوله: الوسواس الخناس قال مثل الشيطان كمثل عرس واضع فمه على فم القلب ، فيوسوس إليه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه ، فهو الوسواس الخناس (وقال ابن وضاح في حديث ذكره: إذا بلغ الرجل أربعين سنة، ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده ، وقال: بأبي وجه من لا يفلح) وفي نسخة: وجه لا يفلح ، قال العراقي : لم أجد له أصلا (وكما أن الشهوات ممتزجة لهم ابن آدم ودمه) من أهل الفطرة الإنسانية (فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع) رواه أحمد والشيخان وأبو داود من حديث أنس ، ورواه الشيخان وأبو داود أيضا ، وابن ماجه من حديث صفية، وقد تقدم في الصوم، (وذلك؛ لأن الجوع يكسر) سورة (الشهوات ، ومجرى الشيطان الشهوات) فأمر بتضييقه بالجوع بكسر ما يتولد

[ ص: 270 ] منه، (ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه؛ قال تعالى إخبارا عن إبليس لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وقال -صلى الله عليه وسلم- : إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام) أولا (فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك فعصاه) أي: خالفه، ولم يسمع قوله، (وأسلم ثم) لما أيس منه من طريق الإسلام (قعد له بطريق الهجرة فقال) له: (أتهاجر، أتدع أرضك وسماءك) وتذهب في بلاد الغربة (فعصاه) وخالفه (وهاجر) فرارا لدينه، (ثم) لما أيس منه من طريق الهجرة (قعد له بطريق الجهاد فقال) له: (أتجاهد وهو) أي: الجهاد (تلف النفس والمال فتقاتل) العدو (فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك ، فعصاه) ولم يسمع كلامه (وجاهد) رغما عليه (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة) .

قال العراقي : رواه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه بإسناد صحيح (فقد ذكر -صلى الله عليه وسلم- معنى الوسوسة وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتل وتنكح نساؤه) ويقسم ماله (وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد) ويثبطه عنه، (وهذه الخواطر معلومة ، فإذا الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب يفتقر إلى اسم يعرفه ، فإنه سببه الشيطان، ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي) ما دام حيا، (وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته) فتارة يتابعه وتارة يخالفه؛ (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : ما من أحد إلا وله شيطان) كما تقدم قريبا (فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان) وكل منهما في مقابلة الآخر (فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه) هل (هو جسم لطيف أو ليس بجسم ، وإن كان جسما فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم ، فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة ، بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاج إلى إزالتها) عنه (ودفع ضررها ، فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها ، وذلك عين الجهل) بصاحبه (فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت، ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة ، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو) قوي مخاتل (فقد عرفه العبد فينبغي أن يشتغل بمجاهدته) بتضييق الطرق عليه وسد مجاريه .

(وقد عرف الله سبحانه وتعالى) عباده (عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به) أي: يصدق بوجوده (ويحترز عنه فقال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ) الآية (وقال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ) وقال تعالى مخبرا عنه: لأقعدن لهم صراطك المستقيم الآية، وقال تعالى مخبرا عنه كذلك: ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم الآية، (فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه) ، بل بمخالفته وعصيانه (نعم ، ينبغي أن يسأل عن سلاحه لدفعه) فإن معرفة ذلك أكيدة (وسلاح الشيطان الهوى والشهوات) وما ينشأ عنهما (وذلك كاف للعالمين ، فأما معرفة صفة ذاته وحقيقته وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين) من أهل اليقين

[ ص: 271 ] (المتغلغلين في علوم المكاشفات) الغائصين في بحارها (فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته ، نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعا له داع إلى الشر ، فلا يخفى كونه وسوسة ، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاما ، وإلى ما يتردد فيه فلا يدرى أنه من لمة الملك أو) من (لمة الشيطان ، فإن من) جملة (مكايد الشيطان) ومصايده وفخوخه (أن يعرض الشر في معرض الخير ، والتمييز في ذلك صعب) إلا على العارفين بمكايده من المتقين من أهل اليقين (وأكثر العباد به يهلكون) لعدم تمييزهم بينهما، وهو مقام عامة المسلمين والمؤمنين (فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر) ويلقيه (بصورة الخير) فيشبه عليهم بذلك (كما يقال للعالم) الماهر (بطريق الوعظ) للعامة: (إما تنظر للخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار) وكادوا أن يتساقطوا فيها (أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم) أي: تخلصهم (من العطب) أي: الهلاك (بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير) للمعاني (ولسان ذلق) أي: فصيح (ولهجة مقبولة فكيف تكفر نعمة الله تعالى وتتعرض لسخطه) وغضبه (وتسكت عن إشاعة العلم) وإفادته (ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم ، ولا يزال يقرر ذلك) وأمثاله (ويستجره بلطيف الحيل) ويستميله إلى ما يلقيه في خياله (إلى أن يشتغل بوعظ الناس مدة ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له : إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولا يهتدوا إلى الحق) وإنما تجلب خواطرهم بتأثير كلامك فيهم إذا تزينت لهم بحسن الزي وأظهرت الفصاحة والبلاغة، (ولا يزال يقرر ذلك عنده) ويحسنه له (وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع) والحشم والخدم (و) بكثرة (العلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك فيتكلم) على العامة (وهو يظن أن قصده الخير ، وإنما قصده الجاه والقبول فيهلك بسببه وهو يظن) في نفسه (أنه عند الله بمكان) عظيم (وهو ممن قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم) رواه النسائي من حديث أنس بإسناد جيد (و) قال: (إن الله) لـ (يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) متفق عليه من حديث أبي هريرة، وقد تقدم في كتاب العلم؛ (ولذلك روي أن إبليس جاء لعيسى عليه السلام فقال له: قل: لا إله إلا الله فقال) عيسى (كلمة حق، ولا أقولها بقولك؛ لأن له أيضا تحت الخير تلبيسات) ومخادعات (وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى، وبها تهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق مما يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة) الظاهرة للناس، فقد استمالهم بتلك الخدع واستولى على قلوبهم، فعميت بها أبصارهم، (وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور من هذا الربع) إن شاء الله تعالى، (ولعلنا إن أمهل الزمان) وامتد الأجل (صنفنا كتابا على الخصوص نسميه تلبيس إبليس) وقد قلده جماعة ممن أتى بعده فألف كتابا سماه كذلك منهم ابن الجوزي (فإنه قد اشتهر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات) فركبوا كل صعب وذلول وتعصبوا

[ ص: 272 ] ونبذوا الحق وراء ظهورهم وخدعهم إبليس بما تلقفوه وجمدوا عليه (حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها) ، وهذا إذ ذاك، وأما الآن فلم يبق منها إلا اسمها (كل ذلك إذعانا) أي انقيادا (لتلبيسات الشيطان) وتأويلاته (ومكايده) ومصايده وفخوخه فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له؛ ليعلم أنه من لمة الملك أو لمة الشيطان، (وأن يمعن النظر بنور البصيرة) المؤيدة باليقين، (لا بهوى من الطبع، ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى) إذ هو مفتاح الكشوفات (والبصيرة) النافذة (وغزارة العلم) أي: وفرته ، وهو العلم بالله ، وهو مكان التوحيد ، وتمكن الموحد فيه على قدر المكان (كما قال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أي: رجعوا إلى نور العلم فإذا هم مبصرون أي: ينكشف لهم الإشكال) وينجلي لهم الإبهام؛ (فأما ما لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان) والانقياد لتلبيسه (بمتابعة الهوى) والميل النفسي (فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه، وهو لا يشعر ، وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قيل: هي أعمال ظنوها حسنات ، فإذا هي سيئات) وذلك حين تعرض صحائفهم وهو زيادة مبالغة فيه، وهو نظير قوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم في الوعد، (وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايد الشيطان ، وذلك فرض عين على كل عبد) وإليه ذهب عبد الرحيم بن يحيى الأرموي ومن تبعه من الشاميين؛ إذ قالوا في شرح حديث " طلب العلم فريضة " قالوا: إنما عنى به طلب معرفة علم الإخلاص ، ومعرفة آفات النفوس، ووساوسها ، ومعرفة مكايد العدو وخدعه ومكره وغدره وما يصلح الأعمال وما يفسدها فريضة ، كله من حيث كان الإخلاص فريضة ، ومن حيث أعلم بعداوة إبليس ، ثم أمر بمعاداته كما تقدم في ذلك في أول كتاب العلم مفصلا .

(وقد أهمله الخلق) بمرة (واشتغلوا بعلوم تستجر إليهم الوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته) التي أعلموا بها (و) تنسيهم (طريق الاحتراز عنه) وقد أمروا به (ولا ينجي من كثرة الوسواس إلا سد أبواب الخواطر) النفسية والشيطانية (وأبوابها) من خارج هي (الحواس الخمس) فإنها التي يرد على القلب منها ما يرد من الخواطر الرديئة (وأبوابها من داخل) هي (الشهوات وعلائق الدنيا) ؛ لأن الشيطان يدخل بطريق اتساع النفس واتساع النفس واتباع الشهوات وعلائق الدنيا هي مجال الشهوات (والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس) الخمس من ظاهر فلا يقع تفرقة على القلب (والتجرد عن الإهمال والمال) والحشم والأتباع والجاه (يقلل مداخل الوسواس من الباطن) إذ ما ذكر هو الذي كان سببا لدخول الوسوسة في القلب ، فإذا انسلخ عنه حفظ في حاله (وتبقى مع ذلك مداخل باطنه من التخيلات الجارية في القلب) لا يقوى الإنسان على دفعها عنه لانفعاله بها؛ (وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى) مع المراقبة عليه (ثم إنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه) بواسطة النفس لم بينهما من المناغاة والمحادثة والتأليف فتتسلط عليه النفس فتنطلق في شيء بهواها من القول والفعل فيتأثر القلب لذلك (و) حينئذ (يلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته) بأن يعود من مواطن مطالبات النفس ويقبل على ذكر الله ومحل مناجاته ، فيستنير القلب ويقبل على النفس معاتبا لها على متابعتها لهواها فتذل لذلك (وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حيا) فهو كالغريم الملازم الذي لا ينفك، (نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسه شره بالجهاد ، ولكن لا يستغني قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه) وقد روى أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث أبي سعيد أن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب: وعزتي وجلالي أغفر لهم ما استغفروني؛ (فإنه ما دام حيا فأبواب الشر مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق، وهي الشهوة

[ ص: 273 ] والغضب والحسد والطمع والشره وغيرها كما سيأتي شرحها) في محلها (ومهما كان الباب مفتوحا والعدو غير غافل) بل يخشى منه الهجوم من هذا الباب (لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة، قال رجل للحسن) البصري: (يا أبا سعيد أينام الشيطان؟ فتبسم وقال: لو نام استرحنا) أشار أنه هجام على قلب المؤمن غير غافل عن مكايدته (فإذا لا خلاص للمؤمن منه) بوجه من الوجوه (نعم له سبيل إلى دفعه) ومقالته وكسر سورته (وتضعيف قوته؛ قال -صلى الله عليه وسلم- : إن المؤمن) الكامل (ينضي) وفي لفظ: لينضي أي يهزل ويضعف (شيطانه) لكثرة إذلاله وجعله أسيرا تحت قهره وتصرفه ، ومن أعز سلطان الله أعزه الله وسلطه على عدوه ، وحكم عكسه عكس حكمه (كما ينضي أحدكم بعيره في سفره) لأن البعير يتجشم في سفره أثفال حمولته فيصير نضوا لذلك، رواه أحمد من حديث أبي هريرة، وفيه ابن لهيعة، قاله العراقي، قلت: ورواه كذلك ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (وقال ابن مسعود ) رضي الله عنه (شيطان المؤمن مهزول) ؛ وذلك لأنه يتجشم أثقال غيظه منه لما يراه من الطاعة والوفاء لله فيقف منه هزيلا ضعيفا ذليلا بمزجر الكلب عنه، (وقال قيس بن حجاج) الكلاعي المصري: صدوق مات سنة تسع وعشرين ومائتين روى له الترمذي وابن ماجه (قال لي شيطاني: دخلت فيك، وأنا مثل الجزور) وهي الناقة السمينة، (وأنا الآن مثل العصفور) أي: في غاية من النحافة والهزل، (وقلت: ولم) ذلك؟ (قال: تذيبني بذكر الله تعالى ، فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة ، أعني: الأبواب الظاهرة والطرق الجلية) أي: الظاهرة (التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة) أي: توصل إليها؛ لأن بالتقوى وجود خالص الذكر وبه ينفتح بابه ، ولا يزال العبد يتقي حتى يحمي الجوارح من المكاره، ثم يحميها من الفضول وما لا يعنيه فتصير أقواله وأفعاله ضرورة، ثم ينتقل تقواه إلى باطنه ويظهر الباطن ويقيده عن المكاره، ثم عن الفضول ثم عن حديث النفس (وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة) الخفية ؛ (لأنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماء والوعاظ) فيما سيأتي إن شاء الله تعالى (والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة، وباب الملائكة باب واحد) من هذه الأبواب، (وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة) فلا يكاد يهتدى له، (والعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق) كثيرة المفارق (غامضة المسالك في ليلة مظلمة، فلا يكاد يعلم الطريق) ولا يهتدي إلى مفرق يكون سلوكه (لا بعين بصيرة) تدرك التمييز بين تلك الطرق (أو طلوع شمس مشرقة) تنسج تلك الظلمات (والعين البصيرة ها هنا القلب المصفى بالتقوى والشمس المشرقة هو العلم العزيز) أي: الكثير (المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله) -صلى الله عليه وسلم- (فبهما يهتدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة غامضة) والمراد بالعلم هنا هو علم المعرفة المخصوص به المقربون (وقال ابن مسعود ) رضي الله عنه (خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما خطا، وقال: هذا سبيل الله) مستقيما (ثم خط خطوطا من يمين) ذلك (الخط و) عن (شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قال: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) فتفرق بكم عن سبيله أي (لتلك الخطوط) التي عن يمينه وشماله ، (فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه) . قال العراقي : رواه النسائي في الكبير، والحاكم وقال: صحيح الإسناد اهـ .

قلت: وكذلك أخرجه عبد الرحمن وأحمد والبزار وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه [ ص: 274 ] وسياقهم جميعا كسياق المصنف، وأخرج عبد الرازق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود : أن رجلا سأله: ما الصراط؟ قال: تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أدناه وطرفه الجنة ، وعن يمينه جواد ، وعن شماله جواد ، وثم رجال يدعون من مر بهم ، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به في النار ، ومن أخذ الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية.

وأخرج أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال: كنا جلوسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط هكذا أمامه ، فقال: هذا سبيل الله ، وخطين عن شماله وقال: هذا سبيل الشيطان ، ثم وضع يده في الخط الأوسط وتلا : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية .

(وقد ذكرنا مثالا للطريق الغامض من طرقه ، وهو الذي يخدع به العلماء والعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة) فضلا عن غيرهم (فلنذكر مثالا لطريقه الواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه ، وذلك كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: كان راهب في بني إسرائيل) أي: عابد في صومعته (فعمد الشيطان إلى جارية فخنقها) أي: لبسها وصرعها، وكانت جميلة (وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب) أي: هو يرقي عليها فيتطبب لها (فأتوا بها إليه) وعرضوا حالها عليه (فأبى أن يقبلها ، فلم يزالوا به حتى قبلها ، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان) من باب الشهوة (فزين له مقاربتها) أي: ألقى في قلبه أن يجامعها (فلم يزل به) يخالجه ويستميله (حتى واقعها فحملت منه ، فوسوس إليه وقال: الآن تفتضح ويأتيك أهلها) فيرون بها الحمل فيفضحونك وتسقط من مقامك عندهم (فاقتلها ، فإن سألوك فقل: ماتت) ولم يزل يسول له حتى أطاعه، (فقتلها ودفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم ، وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها ، فأتاه أهلها فسألوه عنها ، فقال: ماتت. فأخذوه ليقتلوه بها ، فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي أخذتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها فأطعني واسجد لي سجدتين ، فسجد له سجدتين ، فهو الذي قال الله تعالى فيه: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، وابن مردويه في تفسيره من حديث عبيد بن رفاعة مرسلا ، وللحاكم نحوه موقوفا على علي بن أبي طالب وقال: صحيح الإسناد ، ووصله مطين في مسنده من حديث علي اهـ .

قلت: ومرسل عبيد بن رفاعة وهو الزرقي أخرجه أيضا البيهقي في الشعب، وقالوا فيه: يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأخرج ابن المنذر والخرائطي في اعتلال القلب من طريق عدي بن ثابت عن ابن عباس من قوله نحوه ؛ قال: كان راهب في بني إسرائيل متعبدا زمانا حتى كان يؤتى بالمجانين فيقرأ عليهم ويعوذهم حتى يبرءوا ، فأتي بامرأة في شرف قد عرض لها الجنون ، فجاء بها أخواتها إليه ليعوذها . . . وساق القصة وفيها: فاسجد لي سجدة واحدة ، فسجد له وكفر ، فقتل على ذلك الحال . وأما موقوف علي عند الحاكم فقد أخرجه أيضا عبد بن حميد وابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد الرزاق والبخاري في التاريخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب بلفظ: إن رجلا كان يتعبد في صومعة، وإن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء ، فأتوه بها ، فزينت له نفسه فوقع عليها. . . إلى آخر القصة ، وفي آخرها: فاسجد لي سجدة أنجيك ، فسجد له. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: كان راهب من بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته ، وكان يؤتى من كل أرض ، فيسأل عن الفقه ، وكان عالما ، وإن ثلاثة إخوة لهم أخت حسناء من أحسن الناس ، وأنهم أرادوا أن يسافروا وكبر عليهم أن يدعوها ضائعة ، فعمدوا إلى الراهب فقالوا: إنا نريد السفر، وإنا لا نجد أحدا أوثق في أنفسنا ولا آمن عندنا منك ، فإن رأيت جعلنا أختنا عندك فإنها شديدة الوجع ، فإن ماتت فلم عليها ، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع ، فقال: أكفيكم إن شاء الله تعالى ، فقام عليها فداواها حتى عاد إليها حسنها ، وأنه اطلع عليها فوجدها منصعة ، ولم يزل به الشيطان حتى وقع عليها فحملت ، ثم ندمه الشيطان فزين له قتلها وقال: إن لم تفعل افتضحت ، فلم تكن لك معذرة ، فلم يزل به حتى قتلها ، فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلت؟ قال: ماتت

[ ص: 275 ] فدفنتها ، قالوا: أحسنت ، فجعلوا يرون في المنام ويخبرون أن الراهب قتلها ، وأنها تحت الشجرة كذا كذا ، وأنهم عمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت ، فعمدوا إليه فأخذوه ، وقال الشيطان: أنا الذي زينت لك الزنا وزينت لك قتلها ، فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال: نعم ، قال: فاسجد لي سجدة واحدة. فسجد له ثم قتل .

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في هذه الآية قال: كانت امرأة ترعى الغنم ، وكان لها أربعة إخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب ، فنزل الراهب فأتوه. .

وأخرج عبد الرازق وعبد بن حميد عن طاووس نحوه .

(فانظر الآن إلى حيله واضطراره الراهب إلى هذه الكبائر) من الزنا والقتل والسجود لغير الله تعالى، (وكل ذلك في طاعته له في قبول الجارية للمعالجة ، وهو أمر هين ، وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة ، فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى ، فيقدم عليه كالراغب في الخير ، فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لا يجد محيصا) عنه (فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور) ومن ضيع الأصول حرم الوصول، (وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير : من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. لفظ البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية