إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
كما أن الكبر والعجب والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه ، وهو محرم يجب الاحتراز عنه ، ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة بها والبحث عنها محظورا وقد قال الله تعالى قل هاتوا برهانكم وقال عز وجل : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وقال تعالى قل هل عندكم من سلطان بهذا أي حجة وبرهان وقال تعالى قل : فلله الحجة البالغة وقال تعالى : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إلى قوله : فبهت الذي كفر إذ ذكر سبحانه احتجاج إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال عز وجل : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وقال تعالى قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقال تعالى في قصة فرعون وما رب العالمين ، إلى قوله أولو : جئتك بشيء مبين .


(كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة) والتكالب عليها (أيضا مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه، وهو محرم أيضا يجب الاحتراز منه، ولكن لا يمنع عن العلم) والاشتغال به والسعي في تحصيله (لأجل أدائه إليه) وكونه مفضيا إليه، وقد ألم بهذا البحث أبو الوفاء اليوسي في شرحه على الكبرى؛ تحقيقا لمطلوبه الذي هو أن العلوم كلها وسائل إلى المقصود، لا يقال فيها مذموم ولا محرم، ومن حرم بعضها فليحرم جميعها، وإلا فمن أين التخصيص؟ ومن أنكر أن يكون بعض ذلك وسيلة فالعيان يكذبه .

فقال: ولما تكاثرت الأهواء والبدع وافترقت الأمة على فرق، وعظمت على الحق شبه المبطلين انتهض علماء الأمة إلى مناضلتهم باللسان، كمناضلة السلف بالسنان، فاحتاجوا إلى مقدمات كلية [ ص: 52 ] وقواعد عقلية واصطلاحات وأوضاع يجعلونها على النزاع ويتفقهون بها مقاصد القوم عند الدفاع، فدونوا ذلك وسموه علم الكلام وأصول الدين; ليكون بإزاء أصول الفقه، ثم قال: فإن قيل: إن الكلام والمنطق مبتدعان، وكل بدعة يجب اجتنابها؛ قلنا: لا نسلم أن كل بدعة تجتنب؛ إذ منها ما يستحسن، ولو سلمناها فغيرهما من العلوم كالحساب والطب والتنجيم وصناعتي الأصول والحديث والأدب ونحوها كذلك .

فإن قال: السلف كانوا يحسبون ويعالجون ويجتهدون ويحدثون، وإنما أحدث في هذه الصناعة الألقاب؛ قلنا: وكذلك كانوا يفسرون ويستدلون ويعللون، ولا معنى للمنطق إلا هذا، كيف وهو الذي في الطباع مركوز ولا ينفك عنه عاقل؟ فمن حرمه إما أن يحرمه لكونه حراما بوجه آخر، فإن أراد الأول قلنا: لا نسلم أن مركوزيته توجب حصوله وعدم الفائدة في تعلمه؛ إذ النفس غافلة حتى تتنبه، والمركوز إنما هو العقل الفطري، والوجدان حاكم بأن النفس خالية عن العلوم، بل وعن الاستعداد، حتى تشحذ بالقوانين .

نعم، لا ننكر أن يكون ذو فطرة سليمة لا يحتاج إلى تعلمه، كالعربي المستغني عن تعلم العربية، فإن زعم هذا المنكر أن فطرته هكذا لا يحصل له أن يقيس سائر العقول بعقله، ولا أن يسد الباب على غيره؛ إذ وجد أنه لا ينهض دليلا على ما أراد، وإن أراد الثاني قلنا: ما وجه حرمته؟ فإن قال: لكونه بدعة؛ قلنا: تقدم جوابه، وإن كان لشيء آخر فعليه بيانه. اهـ كلام اليوسي.

أما ادعاؤه أن العلوم كلها نافعة ووسائل إلى المقصود، فهو على الإطلاق غير متجه، كما سيأتي بيانه في سياق المصنف، فإن فيه مقنعا، وأما غلوه في الثناء على المنطق وكونه مركوزا في الطباع السليمة فعجيب، وتقدم ما يتعلق به في "شرح كتاب العلم" عند ذكر العلوم المحمودة والمذمومة ما يغني عن إعادته هنا، وإنما أوردنا كلامه هنا لمناسبته مع كلام الفرقة الثانية بأن علم الكلام غاية ما فيه ذكر الحجة والمطالبة بالدليل والنقض والمنع (وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة والبحث عنها محظورا) أي: ممنوعا (وقد قال) الله (تعالى) في كتابه العزيز: ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) فطلب منهم البرهان (وقال عز وجل: ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) فجعل الهلاك الذي هو كناية عن الانهزام والمغلوبية، والحياة التي هي كناية عن الظفر بالغلبة، مقصورين على البينة (وقال تعالى: فلله الحجة البالغة ) أي: الكافية، أو المنتهية في التوكيد والبلاغ، وقيل: المراد بالحجة هنا الكلام المستقيم .

(وقال تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) أي: خاصمه فيه بطلب الاحتجاج على ربوبيته جل وعز (إلى قوله: فبهت الذي كفر ) أي: الآيات بتمامها، والبهت التحير والدهش، والمراد هنا انقطاع الحجة (إذ ذكر احتجاج إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (ومجادلته وإفحامه) أي: إسكاته (خصمه) وهو النمروذ، ملك زمانه، وكان يدعي الإلهية (في معرض الثناء عليه) والمدح له، واعلم أن لإبراهيم -عليه السلام- في الاحتجاج مقامات، أحدها: مع نفسه، وهو قوله تعالى: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، إلى آخر الآية، وهذه طريقة المتكلمين؛ فإنه استدل بأفولها وتغيرها على حدوثها، ثم استدل بحدوثها على وجود محدثها، وثانيها: حاله مع أبيه، وهو قوله: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ، إلى آخر الآيات، وثالثها: حاله مع قومه، تارة بالقول، وتارة بالفعل، أما القول فهو قوله: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وأما الفعل فقوله: فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ، ورابعها: حاله مع ملك زمانه، وهو الذي ذكره المصنف .

ثم إنه -عليه السلام- لما استدل بحدوثها على وجود محدثها، كما أخبر الله تعالى عنه في قوله: يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ، عظم شأنه بذلك (وقال: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ) ؛ فهذه رفعة بعلم الحجة (وقال تعالى) حكاية عن الكفار أنهم ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) ومعلوم أن مجادلة الرسول مع الكفار لا تكون في تفاصيل الأحكام الشرعية، فلم يبق إلا أنها كانت في التوحيد والنبوة (وقال تعالى في قصة) موسى -عليه السلام- ومباحثته مع (فرعون) قال ( وما رب العالمين ، إلى قوله: أولو جئتك بشيء مبين ) ، واعلم أن موسى عليه السلام ما كان يقول في [ ص: 53 ] الاستدلال زيادة على دلائل إبراهيم -عليه السلام-؛ وذلك لأنه حكى الله تعالى عنه في سورة طه أن فرعون قال له ولهارون: فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: الذي خلقني فهو يهدين ، ثم حكى الله تعالى عن موسى في الشعراء أنه قال لفرعون: ربكم ورب آبائكم الأولين -وهذا هو الذي عول عليه إبراهيم -عليه السلام- في قوله: ربي الذي يحيي ويميت -، فلما لم يكتف فرعون بذلك طالبه بدليل آخر، قال موسى: رب المشرق والمغرب ، وهذا هو الذي عول عليه إبراهيم عليه السلام في قوله: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب .

ثم إن موسى -عليه السلام- لما فرغ من تقرير دلائل التوحيد ذكر بعد دلائل النبوة، فقال: أولو جئتك بشيء مبين ، وهذا يدل على أنه -عليه السلام- فرع بيان النبوة على بيان التوحيد والمعرفة .

فإن قيل: إبراهيم وموسى -عليهما السلام- قدما دلائل النفس على دلائل الأفلاك، فإن إبراهيم -عليه السلام- قال أولا: ربي الذي يحيي ويميت ، ثم قال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، وموسى -عليه السلام- قال أولا: ربكم ورب آبائكم الأولين ، ثم قال: رب المشرق والمغرب ، فلم عكس سيدنا سليمان -عليه السلام- هذا الترتيب، فقدم دلائل السموات على دلائل النفس فقال: الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ، قلنا: إن إبراهيم وموسى -عليهما السلام- كان مناظرتهما مع من ادعى إلهية البشر؛ فإن نمروذ وفرعون كل واحد منهما كان يدعي الإلهية، فلا جرم أنهما -عليهما السلام- ابتدآ بإبطال إلهية البشر، ثم انتقلا إلى إبطال إلهية الأفلاك والكواكب، وأما سليمان -عليه السلام- فإنه كان مناظرته مع من يدعي إلهية الشمس؛ فإن الهدهد قال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، فلا جرم ابتدأ بذكر السموات، ثم ذكر الأرضيات، ثم لما تمم دلائل التوحيد قال بعده : لا إله إلا هو رب العرش العظيم .

ثم إن المصنف ذكر البرهان والبينة والحجة، وفي معناها السلطان، وقد سمى الله الحجة العلمية سلطانا، قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة، كقوله تعالى: إن عندكم من سلطان بهذا ، أي: ما عندكم من حجة بما قلتم، وقوله تعالى: ما أنزل الله بها من سلطان ، أي حجة ولا برهانا، بل من تلقاء أنفسكم، وقوله تعالى: أم لكم سلطان مبين ، يعني: حجة واضحة، وإنما سمى علم الحجة سلطانا لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان الجهل؛ ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، ومن لم يكن له اقتدار في عمله فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل، قاهرة له .

والفرق بين الحجة والبينة هو أن الحجج هي الأدلة العلمية التي يعقلها القلب، وتسمع بالآذان، والحجة هي اسم لما يحتج به من حق وباطل، وإذا أضيفت إلى الله لا تكون إلا حجة حق، وقد تكون بمعنى المخاصمة، كقوله تعالى: لا حجة بيننا وبينكم ، أي: قد ظهر الحق واستبان، فلا خصومة بيننا بعد ظهوره، ولا مجادلة؛ فإن الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق، فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة .

والبينة اسم لكل ما يبين الحق، من علامة منصوبة، أو أمارة، أو دليل علمي، فالبينات هي الآيات التي أقامها الله دلالة على صدقهم من المعجزات، وكان إلقاء العصا وإقلابها حية هو البينة، وجرت سنة الله في خلقه أن الكفار إذا طلبوا آية واقترحوها وأجيبوا ولم يؤمنوا، عوجلوا بعذاب الاستئصال، وإليه يشير قوله تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، بخلاف الحجج؛ فإنها لم تزل متتابعة، يتلو بعضها بعضا، وهي كل يوم في مزيد، وقد أشرنا إلى ذلك في كتاب العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية