إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ما يؤاخذ به العبد من وساوس القلوب وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به .

اعلم أن هذا أمر غامض وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه قال عفي عن أمتي ما : حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول للحفظة -: " إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا وقد خرجه ." البخاري ومسلم في الصحيحين وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة وفي لفظ آخر من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت وفي لفظ آخر وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها وكل ذلك يدل على العفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى ، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح ، فنقول : أول ما يرد على القلب الخاطر كما لو خطر له مثلا صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها .

والثاني : هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة التي في الطبع ، وهذا يتولد من الخاطر الأول ، ونسميه ميل الطبع ، ويسمى الأول حديث النفس .

والثالث : حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل . ويسمى هذا اعتقادا وهو يتبع الخاطر والميل .

الرابع : تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه ، وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصدا ، وهذا الهم قد يكون له مبدأ ضعيف ، ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيترك العمل ، وربما يغفل بعارض ، فلا يعمل به ولا يلتفت إليه ، وربما يعوقه عائق فيتعذر عليه العمل .

فههنا أربع ، أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة الخاطر ، وهو حديث النفس ، ثم الميل ، ثم الاعتقاد ، ثم الهم .

فنقول : أما الخاطر فلا يؤاخذ به ؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلك الميل وهيجان الشهوة ؛ لأنهما لا يدخلان .

أيضا تحت الاختيار ، وهما المرادان بقوله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عفي عن أمتي -: ما حدثت به نفوسها فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل ، فأما الهم والعزم فلا يسمى حديث النفس ، بل حديث النفس كما روي عن عثمان بن مظعون حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة قال : مهلا ، إن من سنتي النكاح ، قال : نفسي تحدثني أن أجب نفسي قال : مهلا خصاء أمتي دءوب الصيام قال : نفسي تحدثني أن أترهب قال : مهلا رهبانية أمتي الجهاد والحج ، قال : نفسي تحدثني أن أترك اللحم قال : مهلا فإني أحبه ولو أصبته لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه، فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس ، ولذلك شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه عزم ، وهم بالفعل وأما الثالث وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل ، فهذا تردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا ، فالأحوال تختلف فيه ، فالاختياري منه يؤاخذ به ، والاضطراري لا يؤاخذ به .

وأما الرابع: وهو الهم بالفعل فإنه مؤاخذ به إلا أنه لم يفعل نظر: فإن تركه خوفا من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة ، لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة ، والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى ، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة ، فجده في مخالفة الطبع هو العمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع ، فكتبت له حسنة؛ لأنه رجح جهده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل ، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه بعذر، لا خوفا من الله تعالى كتبت عليه سيئة ، فإن همه فعل من القلب اختياري، والدليل على هذا التفصيل ما ورد في الصحيح مفصلا في لفظ الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قالت الملائكة عليهم السلام: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة من جرائي وحيث قال فإن لم يعملها أراد به تركها لله .


(بيان ما يؤخذ به العبد من وساوس القلوب وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنها ولا يؤاخذ به)

(اعلم أن هذا أمر غامض) أي: خفي يحتاج إلى تفصيل، (وقد ورد فيه أخبار وآيات متعارضة) مع بعضها (يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء) أي: نقادهم وأذكيائهم؛ (فقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عفي لأمتي) أي: أمة الإجابة (عما حدثت به نفوسها") قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها" . الحديث . ا هـ .

قلت: لفظ البخاري: " إن الله تجاوز لي عن أمتي عما حدثت به أنفسها" . وتمامه: " ما لم تتكلم به أو تعمل" . وفي رواية للبخاري: " عما وسوست به " وفي رواية لمسلم: " ما حدثت به أنفسها " وفي رواية للبخاري " صدورها " بدل " أنفسها " وفي رواية لمسلم " ما لم يتكلموا به أو يعملوا به" وأنفسها بالرفع على الفاعلية ، ويروى بالنصب على المفعولية ، ورواه كذلك أئمة السنن الأربعة ، ورواه الطبراني في الكبير من حديث عمران بن حصين وفيه: المسعودي وقد اختلط ، وبقية رجاله رجال الصحيح، (وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إذا هم

[ ص: 293 ] عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا."
أخرجه مسلم) واللفظ له (و) كذا (البخاري) كلاهما (في الصحيحين) ، وإنما قدم مسلما في الذكر نظرا إلى أن سياق اللفظ له ، وإلا فالبخاري مقدم في الذكر لتقدمه في الفضل وفي الزمان ، وربما من يجهل ما ذكرناه اعترض على المصنف في تقديمه مسلما على صاحبه، ونسبه لمخالفة الاصطلاح، (وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة) قال عياض: قال أبو جعفر الطبري: فيه دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة ، وحكى ذلك النووي عن أبي جعفر الطحاوي ، وذكر بعضهم أن الملك يعلم ذلك برائحة طيبة تفوح من الإنسان بخلاف ما إذا هم بالسيئة ، فإنه تفوح منه رائحة خبيثة. والله أعلم .

(وفي لفظ آخر) من سياق هذا الحديث : (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبع مائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له ، وإن عملها كتبت) رواه الشيخان من حديث ابن عباس رفعه فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى ، قال: " إن الله كتب الحسنات والسيئات" ، ثم بين ذلك: " فمن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" . ورواه أحمد في مسنده بلفظ: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له بعشر أمثالها إلى سبع مائة وسبع أمثالها ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، فإن لم يعملها لم تكتب عليه " .

(وفي لفظ آخر) عن همام عن أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قال الله تعالى: " إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يفعل ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها " (وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها) فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها. رواه مسلم عن محمد بن رافع ، عن عبد الرازق ، ومعنى تحدث المراد بذلك حدث بذلك نفسه ، ولا يتوقف ذلك على تحدث بلسانه ، وقد دل على ذلك ما تقدم من الرواية ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، والظاهر أن المراد إذا منعه من ذلك عذر، ولا تكتب الحسنة بمجرد الهم مع الانكفاف عن الفعل بلا عذر، ويحتمل حمله على إطلاقه ، وأن مجرد الهم بالخير قربة ، وإن لم يمنع منه مانع (وكل ذلك يدل على العفو) .

وهل تكتب له الملائكة الهم بالحسنة أو فعل الحسنة؟ فيه نظر واحتمال ، وظاهر لفظ الحديث يقتضي كتابة نفس الحسنة، وقوله: " فاكتبوها عشرا " أي عشر حسنات قيل: المراد أنه يكتب له عشر حسنات مضمومة إلى الحسنة المكتوبة على الهم ، أو يكمل له عشر حسنات ، أو ينتظر الملك بكتابة الهم ، فإن حققه كتب عشرا ، وإن لم يحققه كتب واحدة ، فيه احتمال ويحتاج إلى نقل صريح ، وقوله: " إلى سبعمائة ضعف" فيه أن التضعيف قد ينتهي إلى سبع مائة ضعف ، وهذا جود واسع وكرم محض ، وحديث ابن عباس المتقدم صريح في أن التضعيف لا يقف على سبع مائة، بل قد يزيد عليها لمن أراد الله تعالى زيادته له ، وهو أحد القولين في قوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء أي زيادة عن المذكور ، والقول الثاني: أن المراد والله يضاعف لمن يشاء هذا التضعيف ، والأول أصح .

وقال النووي: المذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة؛ (فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) والله على كل شيء قدير (وقال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه، وقال) تعالى: ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) فدل على أن القلب يأثم بكتمان الشهادة ، أخرج ابن جرير عن السدي في قوله: آثم قلبه قال: فاجر قلبه ، وكتمان الشهادة من أكبر الكبائر كما رواه ابن جرير عن ابن عباس ، (وقال) تعالى: ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) فدل على أن القلب مؤاخذ به ، فهذه أربع آيات دلت على مؤاخذة عمل القلب ، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: [ ص: 294 ] إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم وقوله تعالى: اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم والآيات في هذه كثيرة ، قد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد ، واحتقار المسلمين ، وإرادة المكروه ، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها .

وفي الآية الأولى خلاف: هل هي محكمة أو منسوخة؟ فروي عن الربيع بن أنس قال: إنها محكمة لم ينسخها شيء ، يعرف الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا ولا يؤاخذك ، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا قال: ذلك سر أمرك وعلانيته يحاسبكم الله به وإنها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تتطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله: يحاسبكم به الله وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس وقيل: بل هي منسوخة نسختها: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية. أخرجه أحمد ومسلم وابن جرير عن ابن عباس ، وأخرجه الترمذي عن علي ، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود ، وأخرجه ابن جرير من طريق قتادة عن عائشة وقيل: نزلت هذه الآية في الشهادة ، أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس .

(والحق عندنا ما في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفضيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح، فنقول: أول ما يرد على القلب الخاطر) وهو اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو سعي ، ثم سمي محله باسم ذلك، وهو من الصفات الغالبة ، وأصل تركيبه يدل على الاضطراب والحركة ، ذكره المطرزي (كما لو حضر له مثلا صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها ، والثاني: هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة التي في الطبع ، وهذا يتولد من الخاطر الأول ، ونسميه ميل الطبع ، ويسمى الأول حديث النفس .

والثالث: حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف) أي: الموانع (فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات) إليها (وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل. ويسمى هذا اعتقادا وهو يتبع الخاطر والميل) وذكر صاحب العوارف أن خاطر العقل تارة من خاطر الملك ، وتارة من خاطر النفس ، وليس من العقل خاطر على الاستقلال ، لأن العقل كما ذكرنا غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم ، ويتهيأ بها الانجذاب إلى دواعي النفس تارة ، وإلى دواعي الروح تارة ، وإلى دواعي الملك تارة ، وإلى دواعي الشيطان تارة .

(الرابع: تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه ، وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصدا ، وهذا الهم قد يكون مبدأ ضعيفا ، ولكن إذا أصغى القلب) أي: مال (إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس) ومحادثته لها بحسب أصل الامتزاج (تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة) هذا إذا كانت مجاذبة القلب للنفس من باب موافقته لها ، فيما تنطلق في شيء تهواه من القول والفعل ، فأما إذا كانت من باب المعاتبة لها ، وذلك عند عود العبد من مواطن مطالبات النفس والاعتماد على ذكر الله تعالى ، فهو يلومها ، فبما صدر منها من القول والفعل فلا تتأكد حينئذ الهمة المذكورة ، ولا تصير إرادة مجذومة فتأمل (فإذا انجذبت الإرادة فربما يندفع بعد الجزم فيترك العمل ، وربما يغفل بعارض ، فلا يعمل بها ولا يلتفت ، وربما يعوقه عائق فيتعزر عليه ، فهاهنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة الخاطر ، وهو حديث النفس ، ثم الميل ، ثم الاعتقاد ، ثم الهم فنقول : أما الخاطر فلا يؤاخذ به؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار) ولا يمكن دفعه (وكذلك الميل وهيجان الشهوة؛ لأنهما لا يدخلان أيضا تحت الاختيار ، وهما المرادان بقوله -صلى الله عليه وسلم-: عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها) تقدم قريبا

[ ص: 295 ] ( فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل ، فأما العزم والهم فلا يسمى حديث نفس، بل حديث النفس كما روي عن عثمان بن مظعون) بن حبيب بن وهب الجمحي ، يكنى أبا السائب أحد السابقين رضي الله عنه (حيث قال: يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة) ويقال لها: خويلة بنت حكيم بن أمية السلمي ، وهي التي وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- (قال: مهلا ، إن من سنتي النكاح ، قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي) أي: أقطع آلة الشهوة مني (قال: مهلا خصاء أمتي دءوب الصيام) أي: ملازمته فإنه يقطع الشهوة (قال: نفسي تحدثني أن أترهب بنفسي) أي: أعتزل الناس وأكون كالراهب في الصومعة (قال: مهلا رهبانية أمتي الجهاد والحج ، قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم) أي: آكله ، فإنه يحرك الشهوة (قال: مهلا فإني أحبه ولو أصبته) أي: وجدته (لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه) قال العراقي : رواه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من رواية علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا نحوه ، وفيه القاضي عبيد الله العامري ، كذبه أحمد وابن معين والدارمي من حديث سعد بن أبي وقاص ، لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان من ترك النساء ، بعث إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية" . الحديث. وفيه: " فمن رغب عن سنتي فليس مني " وهو عند مسلم بلفظ: رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا. وللبغوي والطبراني في معجمي الصحابة بإسناد حسن من حديث عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله ، إني رجل يشق علي هذه العزبة في المغازي ، فتأذن لي يا رسول الله في الخصاء فأختصي؟ قال: " لا ، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام ، فإنه مجفرة " ولأحمد والطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمر: " خصاء أمتي الصيام والقيام" وله من حديث سعيد بن العاصي بإسناد فيه ضعف: أن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله ائذن لي في الاختصاء ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة والتكبير على كل شرف" الحديث ، ولابن ماجه من حديث عائشة بسند ضعيف: " النكاح من سنتي " ولأحمد وأبي يعلى من حديث أنس: " لكل نبي " وقال أبو يعلى: " لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " وفيه زيد العمي وهو ضعيف ، ولأبي داود من حديث أبي أمامة " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " وإسناده جيد (فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس ، ولذلك شاور) عثمان (رسول الله صلى الله عليه وسلم) واستأذنه (إذ لم يكن معه عزم ، وهم بالفعل) فهذان الحالان لا يؤاخذ بهما العبد ، وهو مجمع عليه ، فيما لا يستقر من الخواطر ولا يقترن به عزم .

(وأما الثالث وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل ، فهذا مردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا ، فالأحوال تختلف فيه ، فالاختياري منه يؤاخذ به ، والاضطراري لا يؤاخذ به .

وأما الرابع: وهو الهم بالفعل فإنه مؤاخذ به) قال الماوردي: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها آثم في اعتقاده وعزمه ، ومحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية ، وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار ، ويسمى هذا هما ، ويفرق بين الهم والعزم هذا مذهب القاضي أبي بكر ، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الأحاديث ، وقال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب (إلا أنه لم يفعل نظر: فإن تركه خوفا من الله تعالى وندما على همه كتب له حسنة ، فإن همه) بذلك الفعل (سيئة وامتناعه) عنه (ومجاهدته نفسه) في تركه (حسنة ، والهم على وفق الطبع لا يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى ، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة ، فجده في مخالفة الطبع وهو العمل لله أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع ، فكتبت له حسنة؛ لأنه رجح جهده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل ، وإن تعوق الفعل

[ ص: 296 ] لعائق أو تركه لعذر، لا خوفا من الله كتبت له سيئة ، فإن همه فعل من القلب اختياري) وقال القاضي عياض بعد أن صوب ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، ونقله عن عامة أهل العلم ما لفظه: لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب السيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها ، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والأمانة ، لكن نفس الإصرار والعزم معصية ، فتكتب معصية ، فإذا عملها كتبت معصية ثانية ، فأما الهم الذي لا يكتب فهو الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية عزم اهـ .

قال النووي: وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه .

(والدليل على هذا التفصيل ما ورد في الصحيح) لمسلم (مفصلا في لفظ الحديث) رواه عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة قال (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر) به (فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها) له (بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة من جرائي) بفتح الجيم وتشديد الراء يقصر ويمد ، أي: من أجلي ، يقال: فعلته من جراك ومن جرائك، ومن جريرتك أي: من أجلك، (وحيث قال لم يعملها أراد به تركها لله) .

وعند البخاري: " فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة " زيادة على قوله أيضا في لفظ: " فإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها" لأنه لا يلزم من مغفرتها كتابة حسنة بسبب تركها ، وهو مقيد في الحديث بأن يكون تركها من أجل الله ، وعليه بدا ما عند مسلم إنما تركها من جرائي ، فإن التعليل بذلك دال على تصوير المسألة ، ووجهه أن تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" فلم يقيد ذلك بأن يكون لأجل الله تعالى ، فقد يتمسك به على كتباتها حسنة ، وإن لم يتركها لخوف الله تعالى ، وقد حكى القاضي عياض عن بعض المتكلمين أنه ذكر في ذلك خلافا ، وعلل كتابتها حسنة بأنه إنما حمله على تركها الحياء ، قال القاضي عياض: وهو ضعيف لا وجه له ، قال الولي العراقي: والظاهر حمل هذا المطلق على ذلك المقيد ، فهو الذي يقتضيه الدليل وتساعده القاعدة ، والله أعلم. .

وقال الخطابي: إذا لم يعملها تاركا لها مع القدرة عليها إلا إذا هم بها فلم يعملها مع العجز عنها وعدم القدرة عليها ، ولا يسمى الإنسان تاركا للشيء الذي لا يتوهم قدرته عليه ، وقوله عند مسلم: " فاكتبوها بمثلها " وعند البخاري: " فأنا أكتبها له بمثلها " أي: إني جازيته على ذلك ، وقد يتجاوز الله عنه فلا يؤاخذه بها ، وفي لفظ مسلم في حديث ابن عباس: " كتبها الله سيئة واحدة أو محاها الله " وعنده أيضا من حديث أبي ذر: " ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر " وعند البخاري معلقا من حديث أبي سعيد الخدري: وكل سيئة يعملها له بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها ، ووصله النسائي في سننه ، وكذلك وصله الدارقطني في غرائب مالك من تسعة طرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية