إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان سرعة تقلب القلب وانقسام القلوب في التغير والثبات .

اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها ، فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب ، فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتتغير صفته ، فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه ، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره ، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره ، فتارة يكون متنازعا بين ملكين ، وتارة بين شيطانين ، وتارة بين ملك وشيطان لا ، يكون قط مهملا وإليه الإشارة بقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ولاطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عجيب صنع الله تعالى في عجائب القلب وتقلبه كان يحلف به فيقول : لا ومقلب القلوب .

وكان كثيرا ما يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ، قالوا أو تخاف : يا رسول الله ? قال : " وما يؤمنني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء " وفي لفظ آخر : إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه .

وضرب له صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثلة : فقال : " مثل القلب مثل العصفور يتقلب في كل ساعة " وقال صلى الله عليه وسلم " مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غليانا " وقال " مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة ، تقلبها الرياح ظهرا لبطن " وهذه التقلبات وعجائب صنع الله تعالى في تقلبها من حيث لا تهدى إليه المعرفة لا يعرفها إلا المراقبون والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى .

والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة قلب عمر بالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق تنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب ومداخل الملكوت فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر له ليعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده ، فينكشف له بنور البصيرة وجهه فيحكم بأنه لا بد من فعله فيستحثه ، عليه ويدعوه إلى العمل به وينظر الملك إلى القلب فيجده طيبا في جوهره طاهرا بتقواه ، مستنيرا بضياء العقل ، معمورا بأنوار المعرفة فيراه صالحا لأن يكون له مستقرا ومهبطا فعند ذلك يمده بجنود لا ترى ويهديه ، إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير وكذلك على الدوام ، ولا يتناهى إمداده بالترغيب بالخير وتيسير الأمر عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفى فيه الشرك الخفي الذي هو " أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء فلا " يخفى على هذا النور خافية ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان ، بل يقف الشيطان ويوحي زخرف القول غرورا فلا ، يلتفت إليه وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معمورا بالمنجيات التي سنذكرها من الشكر والصبر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك وهو القلب الذي أقبل الله عز وجل بوجهه عليه وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب وبقوله عز وجل : يا أيتها النفس المطمئنة .


(بيان سرعة تقلب وانقسام القلوب في التغير والثبات) *

(اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال) المختلفة (من الأبواب التي وصفناها ، فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب ، فإذا شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغير وصفه ، فإن نزل الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل الملك به وصرفه عنه ، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره ، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره ، فتارة يكون متنازعا بين ملكين ، وتارة بين شيطانين ، وتارة بين ملك وشيطان ، ولا يكون قط مهملا) فالخواطر الواردة على القلب أربعة: خاطر ملكي ، وخاطر شيطاني وهما الأصلان المفهومان من حديث اللمتين المتقدم ذكره قريبا ، وخاطر روحي وخاطر نفسي وهما الفرعان ، وفي كلام بعضهم : إن حركة النفس والروح هما الموجبتان للمتين ، والصحيح أن اللمتين تتقدمان على حركة الروح والنفس ، فحركة الروح من لمة الملك ، والهمة العالية من حركة الروح ، وهذه الحركة من الروح ببركة لمة الملك ، وحركة النفس من لمة الشيطان ، ومن حركة النفس الهمة الدنيئة وهي شؤم لمة الشيطان ، فإذا وردت اللمتان ظهرت الحركتان وظهر سر العطاء والابتلاء من معط كريم ومبتل حكيم ، وقد تكون هاتان اللمتان متداركتين وينمحي أثر أحدهما بالآخر كما تقدم بيانه قريبا ، والمتفطن المتيقظ ينفتح عليه بمطالعة وجود هذه الآثار في ذاته من باب أنس ، ويبقى أبدا مفتقدا حاله مطالعا آثار اللمتين ، وذكروا خاطرين آخرين خاطر العقل وخاطر اليقين ، فخاطر العقل متوسط بين الخواطر الأربعة ، يكون مع النفس والعدو لوجود التمييز وإثبات الحجة على العبد ليدخل العبد في الشيء بوجود عقلي ، إذ لو فقد العقل سقط العتاب والعقاب ، وقد يكون مع الملك والروح ليوقع الفعل مختارا ويستوجب به الثواب ، وقد تقدمت الإشارة إلى أنه ليس من العقل خاطر على الاستقلال ، وإنما أصله تارة من خاطر الملك ، وتارة من خاطر النفس ، وأما خاطر اليقين فهو روح الإيمان ومزيد اليقين وحاصله راجع

[ ص: 302 ] إلى ما يرد من الحق سبحانه ، وقال صاحب القوت: جمل الخواطر ستة: هي حدود القلب وقوادحه من ورائها خزائن القلب وملكوت القدرة وهي جنود الله تعالى ، والقلب خزانة من خزائن الملكوت ، وقد أودعه قبله من لطائف الرغبوت والرهبوت ، وشعشع فيه من أنوار العصمة والجبروت ، فأول التفصيل خاطر النفس وخاطر العدو ، وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين ، وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء لا يردان إلا بالهوى وضد العلم ، وخاطر الروح وخاطر الملك ، وهذان لا يعدمهما خصوص المؤمنين ، وهما محمودان لا يردان إلا بحق ، وبما دل عليه العلم ، وخاطر العقل متوسط بين هذه الأربعة يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لمكان تمييز العقل وتقسيم المعقول ، ويصلح أيضا أن يكون للممدوحين ، فيكون شاهدا للملك مؤيدا لخاطر الروح .

والخاطر السادس: هو خاطر اليقين وهو روح الإيمان ومزيد العلم يردان إليه ويصدران عنه ، وهذا الخاطر مخصوص لخصوص لا يجده إلا الموقنون ، وهم الشهداء والصديقون لا يرد إلا بحق وإن خفي وروده ودق ، ولا يقدح إلا بعلم اختيار المراد مختار ، وإن لطفت أدلته وبطن وجه الاستدلال به ، ولكن ليس يخفى هذا الخاطر على مقصود به مراد له ، وهم الذين وصفهم الله تعالى بالذكرى فقال: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي : من تولى الله تعالى حفظ قلبه .

وسائر ما ذكرناه من الخواطر لا يعدمه المؤمنون ، والقلب خزانة الله تعالى من خزائن الغيب ، وهذه المعاني جنود الله تعالى مقيمة حول القلب يخفي منها ما يشاء ويظهر ، ويبدي منها ما يريد ويعيد ، ويبسط القلب بما يشاء منها ويقبضه فيما يشاء عنها ، ثم قال: وقد أجل الله تعالى ذكر تقليب الكون بمشيئته في قوله: يقلب الله الليل والنهار المعنى بما فيهما؛ لأنهما ظرفان للأشياء معبر عنهما ، فهما كقوله عز وجل: بل مكر الليل والنهار والمعنى: مكركم في الليل والنهار ، فعبر بهما عن مكرهم؛ لأنهما مكانان لمكرهم، (وإليه الإشارة بقوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ولاطلاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عظيم صنع الله في عجائب القلب وتقليبه) لما رأى من سرعة نفاذ القدرة بالمراد في المقلبات مما لم يشهده سواه ( كان يحلف به فيقول: لا ومقلب القلوب) رواه البخاري من حديث ابن عمر (وكان كثيرا ما يقول:) في دعائه (" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ، قالوا: وتخاف يا رسول الله؟ قال: " وما يؤمنني والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء") قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أنس وحسنه ، والحاكم من حديث جابر، وقال: صحيح على شرط مسلم ، ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" (وفي لفظ) حديث (آخر : إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه) قال العراقي: رواه النسائي في الكبير وابن ماجه والحاكم وصححه على شرط الشيخين من حديث النواس بن سمعان: " ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " وللنسائي في الكبير بإسناد جيد من حديث عائشة نحوه. ا هـ .

قلت: لفظ حديث النواس عند الجماعة: " ما من قلب إلا وهو معلق بين أصبعين " والباقي سواء ، وفي آخره: " والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة " وكذلك رواه أحمد والطبراني في الكبير ، وأما لفظ حديث عائشة: " ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه " فكذلك رواه ابن عساكر وابن النجار في تاريخيهما .

(وضرب له) رسول الله (- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثلة: فقال: " مثل القلب مثل العصفور يتقلب في كل ساعة") قال العراقي : رواه الحاكم في المستدرك ، وقال: صحيح على شرط مسلم ، والبيهقي في الشعب من حديث أبي عبيدة عامر بن الجراح. ا هـ .

قلت: وكذلك رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ولفظهم: " إن قلب ابن آدم مثل العصفور فيتقلب في اليوم تسع مرات " قال العراقي : ورواه البغوي في معجمه من حديث أبي عبيدة غير منسوب ، وقال: لا أدري له صحبة أم لا .

(وقال) -صلى الله عليه وسلم-: ( " مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غليانا") ولفظ القوت: " إذا استجمعت في غليانها " وتقدم للمصنف قريبا بلفظ: " قلب المؤمن أشد تقلبا من القدر في غليانها " وقال العراقي : رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري من حديث المقداد بن الأسود

[ ص: 303 ] ا هـ .

قلت: لفظهما: " لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا " .

(وقال) -صلى الله عليه وسلم-: ( " مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة ، تقلبها الرياح ظهرا لبطن") قال العراقي : رواه الطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد حسن ، وللبزار نحوه من حديث أنس بسند ضعيف. ا هـ .

قلت: لفظ حديث أبي موسى عند الطبراني : " مثل هذا القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض " والباقي سواء ، ولفظه عند البيهقي : " مثل القلب كمثل ريشة " والباقي كسياق المصنف ، وكذلك رواه ابن النجار في التاريخ ، ورواه ابن ماجه بلفظ: " مثل القلب مثل الريشة تقلبها الرياح بفلاة " وأما لفظ حديث أنس عند البزار: " مثل المؤمن كريشة بفلاة تقلبها الرياح مرة وتفيئها أخرى " وهذه الأمثلة الثلاثة أوردها صاحب القوت ثم قال: فالقلب مكان للتقليب بما فيه من خزائن الغيب كالليل والنهار مكانان للأحكام بالتصريف من اختلاف الأزمان في الأوقات ، والإيمان بتقليب القلوب وبأن المقلب سبحانه يحول بين القلب وصاحبه واجب ، والكون بأسره عند الموحدين في القدر بالتقليب كمثل ريشة في ريح عاصف تقلبه القدرة على مشيئة القادر تعالى ، وليس في القدرة ترتيب ولا مسافة ولا بعد ، ولا يحتاج إلى زمان ولا مكان ، فما ظهر من الملك وثبت للعيون بمكان وزمان فلأجل الحكمة والصنع والإتقان ، وما خفي من الملكوت وتقلب ببصائر القلوب فبلطف القدرة وقهر السلطان ، ونصيب كل عبد بمشاهدة القدرة بقدر نصيبه من التوحيد حسب قسمه من اليقين .

(وهذه التقليبات وعجيب صنع الله في تقليبها من حيث لا يهتدي إليه ولا يعرفه إلا المراقبون لقلوبهم والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى ، والقلوب في الثبات على الخير والشر والترديد بينهما ثلاثة) أحدها (قلب عمر بالتقوى وزكي بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق) والترتيب في هذا المقام غير مراعى ، فإن التطهير عن الخبائث هو أول ما يكون ، ثم التزكية بالرياضة ثانيا ، فالذي ينتج عنهما عمارة القلب بالتقوى فهو آخر المراتب ، جعله أولا أو يكون المراد بعمارته بالتقوى الاتقاء من الشرك المضاد للتوحيد ، ثم التزكية بالرياضة هو أعمال الجوارح ، ثم التطهير عن الخبائث هو انشراحه بنور اليقين حسبما قسم له (تنقدح فيه خواطر الخير) وهي التي ترد من الله بواسطة الملائكة (من خزائن الغيب ومداخل الملكوت) الأعلى (فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر ليعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده ، فينكشف له بنور البصيرة وجهه) ويتبين له أمره (فيحكم أنه لا بد من فعله ، ويستحث عليه ويدعو إلى العمل به) وهذا القلب هو المتطلع إلى الروح العلوي الميال إليه وهو القلب المؤيد الذي ورد فيه أنه أجرد فيه سراج يزهر (فينظر الملك إلى) هذا القلب (فيجده طيبا في جوهره) أي: في تكونه في أصل خلقته عند سكون الروح إلى النفس (طاهرا بتقواه ، مستنيرا بضياء العقل ، معمورا بأنواع المعرفة) مغمورا بأنوار اليقين (فيراه صالحا لأن يكون مستقرا له ومهبطا) لتنزلاته (فعند ذلك يمده بجنود) معنوية (لا ترى ، وبهداية إلى خيرات أخرى) تتراءى (حتى ينجر الخير إلى الخير و) هلم جرا (كذلك على الدوام، ولا يتناهى إمداده بالترغيب في الخير) في كل لحظة (وبتيسير الأمر عليه) في كل حركة وسكون ، ولفظ القوت: وإن أراد الله تعالى إظهار خير وإلهام وتقوى من خزائن الملكوت ، حرس الروح بخفي اللطف فتحرك بأمره تعالى ، فقدح من جوهرها نورا ساطعا في القلب ، فظهرت همة عالية ، وهمة الخير ترد بأحد ثلاثة معان لا تحصى فروعها ، لأن همة كل عبد في الخير مبلغ علمه ومنتهى مقامه ، فأحد الأصول مسارعة إلى أمر بفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل حال العبد ، أو علم يكون مظنة له أظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت ، والمعنى الثالث: تحمل مباح من تصرف فيما يعني بما يعود صلاحه عليه أو استراحة للنفس بما أتيح له يكون نفعه لغيره أو ترويحات من الأفكار القلبية تكون حملا لقربه وتخفيفا لثقله ، فهذه مرافق للعبد ، وفي كلها رضاه تعالى ، فإمضاؤها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض ، فإذا أراد الله إظهار خير من خزانة الروح حركها ، فسطعت نورا في القلب فأثرت فينظر الملك القلب فيرى ما أحدث الله فيه فيظهر مكانه فيتمكن ، والملك مجبول على الهداية مطبوع على حب الطاعة

[ ص: 304 ] فيلقي الإلهام وهو حضوره على القلب بقدح خواطره ، يأمر بتنفيذ ذلك ويحسنه له ويحثه عليه ، وهذا هو إلهام التقوى والرشد وينظر الملك إلى اليقين فيشهد اليقين للملك بذلك ، فيطمئن العقل ويسكن إلى شهادة اليقين ، فيصير مع الملك فينشرح الصدر لطمأنينة العقل ، فتظهر أدلة العلم لانشراح الصدر فيقوى سلطان اليقين لصفاء الإيمان ، وتندرج ظلمة الهوى في أنوار اليقين ، وتنطفئ شعلة الشهوة لظهور نور الإيمان وزينة الحياء ، فتضعف صفات النفس بسقوط الشهوة ، ويقوى القلب لضعف النفس ، ويزيد الإيمان بقوة اليقين وظهور أدلة العلم ، فتغلب الهداية لمزيد الإيمان وسعة الحياء ، فتظهر الطاعة لغلبة الحق والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (وإليه الإشارة بقوله تعالى: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) فالإعطاء إشارة إلى تزكية العمل ، والاتقاء هو عمارة القلب بالتقوى، والتصديق بالحسنى هو التطهر عما يضاد الأخلاق المحمودة، (وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية) فالقلب بمنزلة القنديل ، وعلى قدر رقته ولطيف جوهره وصفائه عن كدره وحسن طهارته عن الأكدار تكون العلوم الحسنة فيه والأنوار وجوهر الزجاجة يحتاج إلى صفاء الماء ، كما أن صفاء الماء يحتاج إلى صفاء الجوهر ، ومعيارهما يكون العقل والقلب ، ووقود النار يحتاج إلى قوة الفتيلة ، فموضعهما في القوة يكون العلم بالله تعالى واليقين (حتى لا يخفى فيه الشرك الخفي الذي هو " أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء") . الحديث. قال صاحب القوت: وهذا لا يعدمه المؤمنون إلا الصديقون (ولا يخفى على هذا النور خافية) بل ينكشف له حقائق الأشياء، (ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان، بل يقف الشيطان) من بعيد ، (ويوحي زخرف القول غرورا ، ولا يلتفت إليه) وليس عليه سبيل، (وهذا القلب بعد طهارته من) الصفات (المهلكات) وأعظمها الجهل والطمع وحب الدنيا (يصير بالقرب معمورا بالمنجيات التي سنذكرها) بعد (من الصبر والشكر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك) مما سيأتي ذكره في الربع الأخير (وهو القلب الذي أقبل الله عليه بوجهه) فسلبه عن أن يكون في مستكن لغيره (وهو القلب المطمئن المراد بقول الله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) أي: تسكن لجلال تجلياته وتنشرح ، وهو المراد من حديث حذيفة: " إن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر" في تقسيمه القلوب على ما تقدم (والمراد بقوله: يا أيتها النفس المطمئنة ) ارجعي وهذا مخرج على أن القلب يتكون من سكون النفس إلى النفس كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية