إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة .

اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق فلم ، تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير .

واستدل فيه بأمرين .

أحدهما أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر فالخلقة ، الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه ، طويلا ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيرا ولا ، القبيح يقدر على تحسين صورته فكذلك القبح ، الباطن يجري هذا المجرى .

والثاني : أنهم قالوا : حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب ، وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة ، وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع فإنه ، قط لا ينقطع عن الآدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة ، فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وذلك محال وجوده .

فنقول لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول : الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله ، كالسماء والكواكب ، بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات ، وبالجملة كل ما هو حاصل كامل ، وقع الفراغ من وجوده وكماله ، وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه ، وشرطه قد يرتبط باختيار العبد فإن النواة ليست بتفاح ولا نخل ، إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا ، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه ، وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى نعم ، الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول .


(بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة) *

(اعلم أن من غلبت البطالة عليه) ربما (استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس) وتطهيرها (وتهذيب الأخلاق ، ولم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته) بكسر الدال أي: باطن أمره (فزعم فيما قرره أن الأخلاق لا يتصور تغيرها) عما جبل عليها، إن خيرا وإن شرا (وإن الطباع) غرائز (لا تتغير واستدل فيه بأمرين أحدهما أن الخلق) بالضم (هو صورة الباطن كما أن الخلق) بالفتح هو (صورة الظاهر ، والخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها) عما هي عليه (فالطويل لا يمكنه أن يجعل نفسه قصيرا ، ولا القصير يقدر على أن يجعل نفسه طويلا ، ولا القبيح) الصورة (يقدر على تحسين صورته ، وكذلك القبيح الباطن يجري هذا المجرى) وربما تعلقوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من آتاه الله وجها حسنا وخلقا حسنا فليشكر الله تعالى " نقله الراغب في الذريعة ، والذي عند البيهقي وابن عساكر من حديث ابن عباس: " من آتاه الله وجها حسنا واسما حسنا ، وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله من خلقه " وبما رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود : فرغ إلى ابن آدم من أربع: الخلق والخلق والرزق والأجل. ورواه أيضا ابن عساكر من حديث أنس بلفظ: فرغ الله من أربع ، قالوا: ومحال أن يقدر المخلوق على تغيير فعل الخالق ، وربما تعلقوا بقول الشاعر:


وما هذه الأخلاق إلا غرائز * فمنهن محمود ومنها مذمم     ولن يستطيع الدهر تغيير خلقه
* بنصح ولا يستطيعه متكرم



(والثاني: أنهم قالوا: حسن الخلق بقمع الغضب والشهوة ، وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة ، وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع ، وأنه قط لا ينقلع من الآدمي) بحال (فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة ، فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة) واللذات الحاضرة، (وذلك محال وجوده ، فنقول) لهذا الزاعم: (لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير) كما تقول (لبطل) فائدة (الوصايا والمواعظ والتأديبات) والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولما جوز العقل أن يقال للعبد: لما فعلت؟ ولما تركت؟ (و) لو لم يكن كذلك (لما قال - صلى الله عليه وسلم- : حسنوا أخلاقكم) فلو لم يكن لما أمر بتحسين الأخلاق. قال العراقي : رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ: " يا معاذ حسن خلقك للناس " منقطع ، ورجاله ثقات اهـ .

قلت: وروى أحمد من حديثه : " يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " . وقد تقدم قريبا

[ ص: 333 ] (وكيف ينكر هذا في حق الآدمي) أم كيف يمتنع (وتغيير خلق البهيمة ممكن) مشاهد (إذ ينقل الصيد) كالأسد والفهد والنمر والذئب (من التوحش إلى الأنس) بالعادة (والكلب من الأكل إلى التأدب والإمساك) بالتعليم (والفرس من الجماح إلى السلاسة) بالترويض (وكل ذلك تغيير للأخلاق) بلا شك (والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول : الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله ، كالسماء والأرض والكواكب، بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات ، وبالجملة كل ما هو حاصل كامل ، وقع الفراغ من وجوده وكماله ، وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة قبول الكمال بعده إن وجد شرطه ، وشرطه قد يرتبط باختيار العبد) وحاصل هذه العبارة أن الله تعالى خلق الأشياء على ضربين ، أحدهما: بالفعل ولم يجعل للعبد فيه عملا كالسماء والأرض ، والثاني: خلقه خلقة ما ، وجعل فيه قوة ورشح الإنسان لإكماله وتغيير حاله ، وإن لم يرشحه لتغيير ذاته كالنواة التي فيها قوة النخل (فإن النواة ليس بتفاح ولا نخل ، إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير) بعون الله تعالى (نخلا إن انضاف إليها التربية) ويمكن أن يفسدها إفسادا (ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية) ؛ لأنه ليس فيها قوة التفاح (فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك) خلق الإنسان يجري هذا المجرى في أنه لا سبيل للإنسان إلى تغيير القوة التي هي السجية، وجعل له سبيلا إلا إسلاسها، ألا ترى (الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا ، ولو أردنا إسلاسهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه ، وقد أمرنا بذلك) ووعدنا بالأجر عليه (وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى) ولهذا قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (نعم، الجبلات مختلفة فبعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول) وبعضها في الوسط ، وكل لا ينفك من أثر قبول ، وإن قل ، قال الراغب: وأرى أن من منع من تغيير الخلق فإنه اعتبر القوة نفسها ، وهذا صحيح ، فإن النوى محال أن ينبت منه الإنسان تفاحا ، ومن أجاز تغييره فإنه اعتبر إخراج ما في القوة إلى الوجود وإفساده بإهماله نحو النوى ، فإنه يمكن أن يتفقد فيجعل نخلا ، وأن يترك مهملا حتى يعفن ، وهذا صحيح أيضا فاختلافهما بسبب اختلاف نظرهما والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية