إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ إذ بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج فكلمهم ، فقال : ما تنقمون على إمامكم ؟ قالوا : قاتل ولم يسب ولم يغنم فقال ذلك في قتال الكفار أرأيتم لو سبيت عائشة رضي الله عنها في سهم أحدكم أكنتم ، تستحلون منها ما تستحلون من ملككم ، وهي أمكم في نص الكتاب ؟ فقالوا : لا فرجع . منهم إلى الطاعة بمجادلته ألفان .

وروي أن الحسن ناظر قدريا فرجع عن القدر .

وناظر ، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رجلا من القدرية .


(وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق) أمير المؤمنين (علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه؛ إذ بعث) عبد الله (بن عباس) -رضي الله عنهما- (إلى الخوارج) وهم الحرورية الذين خرجوا على علي - رضي الله تعالى عنه- (يكلمهم، فقال: ما تنقمون على إمامكم؟) يعني عليا -رضي الله عنه- (قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم) أي: إن كان قتاله حقا فلم ترك السبي والغنيمة ونهى عن ذلك؟ (قال) ابن عباس في الجواب: (ذلك) مخصوص (في قتال الكفار) لا المسلمين بعضهم مع بعض (أرأيتم لو سبى عائشة) رضي الله عنها (في يوم الجمل) وهي وقعة مشهورة مذكورة في السير (فوقعت عائشة في سهم أحدكم، كنتم تستحلون منها ما تستحلون من ملككم، وهي أمكم في نص الكتاب؟) حيث قال: وأزواجه أمهاتهم ، (فقالوا: لا. ورجع منهم إلى الطاعة) والانقياد (بمجادلته ألفان) منهم، وهذه القصة أوردها المصنف مختصرة، وهي بطولها في كتاب الحلية لأبي نعيم، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، وحدثنا سليمان، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرازق، قالا: حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل الحنفي عن عبد الله بن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: إني أتخوفهم عليك. قال: قلت: كلا إن شاء الله. فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت على قوم لم أر قوما قط أشد اجتهادا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلبة من آثار السجود. قال: فدخلت، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نزل الوحي وهم أعلم بتأويله. فقال بعضهم: لا تحدثوه. قال بعض: لنحدثنه. قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنه وأول من آمن به من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثا. قلت: ما هن؟ قالوا: أولاهن أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله: إن الحكم إلا لله ، قال: قلت: وماذا؟ قالوا: قاتل ولم يسب، ولم يغنم، لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم. قال: قلت: وماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. قال: قلت: أرأيتم قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله فإن قرأت عليكم في كتاب الله المحكم وحدثتكم عن سنة نبيكم ما تنكرونه أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أما قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله فإنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء إلى قوله: ذوا عدل منكم ، وقال في المرأة وزوجها: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، أنشدكم الله، أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ قالوا: اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم؟ قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ أتسبون أمكم، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام؟ إن الله تعالى يقول: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا، فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقالوا: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب يا علي: "محمد بن عبد الله"، رسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. فرجع معه عشرون ألفا، وبقي أربعة آلاف، فقتلوا. اهـ.

ثم إن قول المصنف: أول من سن.. إلخ، ظاهره يخالف ما نقله اليوسي في شرحه على الكبرى أن ممن نظر في علم الكلام من السلف عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر، والحق أنه لا خلاف في العبارتين [ ص: 56 ] كما يظهر في بادئ الرأي، فإن النظر فيه شيء، ودعوة المبتدعة بالمجادلة شيء آخر، فتأمل .

(وروي أن الحسن) البصري رحمه الله (ناظر قدريا) أي: رجلا ممن ينكر القدر (فرجع عن) إنكار (القدر، و) يروى أيضا أنه (ناظر علي بن أبي طالب) -رضي الله عنه- (رجلا من القدرية) فيما روي أنه سأله رجل من الشام عن مسيره إليه أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال -رضي الله عنه- والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما قطعنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر. فقال الشامي: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئا. فقال علي: بلى أيها الشيخ، قد عظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا؟ فقال علي: لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر والنهي من الله تعالى، ولما كانت تأتي محمدة من الله لمحسن، ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، والمسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن، إن الله لم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الرسل هزلا، ولم ينزل القرآن عبثا، ولم يخلق السموات والأرض وعجائب الأمور باطلا، فويل للذين كفروا. فقال الشيخ: ما القضاء والقدر اللذان ما وطئنا موطئا إلا بهما؟ فقال علي: الأمر من الله، والحكم. فنهض الشيخ وهو مسرور، هكذا وجدت السياق في بعض الكتب، ولم أطلع على سنده .

وإنما ظن الشيخ أن عليا -رضي الله عنه- أراد أن الله تعالى أجبرهم على المسير والانصراف بقضاء الله وقدره، وقال: لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، فاستنبه الشيخ وقال: كيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا؟ يريد أنهما ساقانا سوقا، لا امتناع عنه، فنفى علي -رضي الله عنه- ذلك، وأنهم ليسوا بمجبورين، وقال: ظننت قضاء لازما وقدرا حتما! أي: إنما وقع ذلك باختيار منكم، ولو كنتم مجبرين لبطل الثواب والعقاب.. إلى آخر كلامه .

ويروى أنه مر بقوم فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين، إن هذا يزعم أنه يصنع شيئا. فأقبل علي -رضي الله عنه- على الرجل فقال له: هل ملكك الله شيئا فأنت تملكه؟ فقال: ملكني صلاتي وصومي وعتق رقيقي وطلاق امرأتي وحجي وعمرتي وما افترض علي. فقال له علي: هذا زعمت أنك تملكه، أتملكه من دون الله، أو تملكه مع الله؟ قال له الرجل: ما أدري ما تقول. فقال: أكلمك بلسان عربي، وتقول: ما أدري ما تقول! فأعادها علي -رضي الله عنه- فلم يجبه الرجل، فقال له علي: إن زعمت أنك تملكه من دون الله فقد جعلت نفسك من دون الله مالكا، وإن زعمت أنك تملكه مع الله فقد جعلت نفسك مع الله شريكا ومالكا، ألا فالملك لله الواحد القهار.

التالي السابق


الخدمات العلمية