إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفائدة الخامسة ، وهي من أكبر الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى ، ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه والشقاوة في أن تملكه نفسه وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت فكذلك النفس كما قيل لبعضهم : ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك .

وقد انهد فقال لأنه سريع المرح فاحش الأشر ؛ فأخاف أن يجمح بي فيورطني فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش وقال ذو النون ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية وقالت عائشة رضي الله عنها : أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع .

إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا وهذه ليست فائدة واحدة ، بل هي خزائن الفوائد ولذلك قيل : الجوع خزانة من خزائن الله تعالى وأقل ما يندفع بالجوع شهوة الفرج وشهوة الكلام ، فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام ، فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها فيمنعه الجوع من كل ذلك وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس ، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم .

وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها ، والجوع يكفي شرها وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه ، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه ، فالعين تزني ، كما أن الفرج يزني فإن ملك عينه بغض الطرف ، فلا يملك فكره ، فيخطر له من الأفكار الرديئة ، وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة .

وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالا ، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع ، قال حكيم كل مريد صبر على السياسة فيصبر على الخبز البحت سنة لا يخلط به شيئا من الشهوات ويأكل في نصف بطنه رفع الله عنه مؤنة النساء .


(الفائدة الخامسة، وهي من أكبر الفوائد) وأجمعها [ ص: 397 ] (كسر شهوات) باعثة على (المعاصي كلها) جليلها وحقيرها، (والاستيلاء) أي: الغلبة (على النفس الأمارة بالسوء) بقمع حدتها، (فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى ، ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة) الواصلة آثارها إليها، (فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة) ، ويبطل عملها، (وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه) فيصرفها في الخير كيف يشاء، كما أن الشقاوة كلها في أن تملكه نفسه فتحمله في المعاصي حيث شاءت، (وكما أنك لا تملك الدابة الجموح) الصعبة المراس (إلا بضعف الجوع) ، أي: إذا أضعفتها بقلة العلف، (فإذا شبعت قويت وشردت) عنك، (وجمحت) عليك، (فكذلك النفس) هي بمنزلة مطيتك، إن أشبعتها قويت عليك، وإن أضعفتها بالجوع لانت وانقادت، ولله در البوصيري حيث قال:


والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم



وقال غيره:


فإنك مهما تعط فرجك سؤله     وبطنك نالا منتهى الذم أجمعا



(كما قيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك) أي: طعنك في السن، (لا تتعاهد بدنك) بأن تراعيه من جهة المأكل والمشرب والاستحمام، (فقال) : لا أتعاهده; (لأنه سريع المرح) أي: النشاط، (فاحش الأشر؛ فأخاف أن يجمع بي فيورطني) أي: يوقعني في ورطة المعاصي، (فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش) ، فيهلكني. (وقال ذو النون) المصري رحمه الله تعالى: (ما شبعت قط إلا عصيت) بالفعل، (أو هممت بمعصية) ، نقله صاحب القوت .

( وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع، إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا ) ، ولفظ القوت: وقال بعض الصحابة: أول بدعة.. إلخ، وفيه: جمحت بهم شهواتهم، (وهذه ليست فائدة واحدة، بل هي خزانة الفوائد) باعتبار جمعها، وضم ما انتشر من الفوائد، كما أن الخزانة تجمع أصناف الأموال النفيسة، (ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى) ، قد جمع الله فيها كل خير، ( وأول ما يندفع بالجوع شهوة الفرج وشهوة الكلام ، فإن الجائع لا تتحرك عليه شهوة فضول الكلام، فيتخلص من آفات اللسان) ، كلها، (كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها) مما سيأتي ذكرها في الكتاب الذي يليه، (فيمنعه الجوع من كل ذلك) ويقطع مادته، (وإذا شبع افتقر إلى فاكهة) أي: تاقت نفسه إليها، (فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم) ووجوههم (إلا حصائد ألسنتهم) ، كما في حديث معاذ ، وسيأتي، (وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها) ، فلا تنبعث، (وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعه التقوى) عن ذلك، (فلا يملك عينه، فالعين تزني، كما أن الفرج يزني) ، ففي الخبر: زنا العينين النظر ، (فإن ملك عينه بغض الطرف، فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الردية، وحديث النفس بأسباب الشهوة ما تتشوش به مناجاته) وتختل، (وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة) التي هي معراج المؤمن ومحل مناجاته، (وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالا، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع، قال حكيم) من الحكماء: (كل مريد صبر على السياسة فصبر على الخبز البحت) أي: الخالص وحده (سنة) كاملة لا يتخللها ما يضاد، (لا يخلط به شيئا من الشهوات) من أنواع الإدامات، (ويأكل في نصف بطنه) ، أي: من غير شبع، وإنما هو بقدر سد الرمق، (رفع الله عنه مؤنة النساء) أي: فحينئذ تموت شهوته، ولا يريدهن حراما أو حلالا .

التالي السابق


الخدمات العلمية