إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان طريق الرياضة في كسر شهوة البطن .

اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف الأول: أن لا يأكل إلا حلالا فإن العبادة ، مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل ، وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة ، وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة ، وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها .

أما الوظيفة الأولى في تقليل الطعام فسبيل الرياضة فيه التدريج ، فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته ، فينبغي أن يتدرج إليه قليلا قليلا ، وذلك بأن ينقص قليلا قليلا من طعامه المعتاد فإن كان يأكل رغيفين مثلا ، وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم ربع سبع رغيف ، وهو أن ينقص جزءا من ثمانية وعشرين جزءا ، أو جزءا من ثلاثين جزءا ، فيرجع إلى رغيف في شهر ولا يستضر به ولا يظهر أثره ، فإن شاء فعل في ذلك بالوزن وإن شاء بالمشاهدة فيترك كل يوم مقدار لقمة ، وينقصه عما أكله بالأمس ثم هذا ، فيه أربع درجات .

; أقصاها أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه وهو عادة الصديقين وهو اختيار سهل التستري رحمة الله عليه إذ قال : إن الله استعبد الخلق بثلاث ; بالحياة والعقل والقوة ، فإن خاف العبد على اثنين منها وهي الحياة والعقل -، أكل وأفطر إن كان صائما ، وتكلف الطلب إن كان فقيرا ، وإن لم يخف عليهما ، بل على القوة ، قال : فينبغي أن لا يبالي ولو ضعف حتى صلى قاعدا وأرى ، أن صلاته قاعدا مع ضعف الجوع أفضل من صلاته قائما مع كثرة الأكل وسئل سهل عن بدايته ، وما كان يقتات به فقال : كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم ، كنت آخذ بدرهم دبسا ، وبدرهم دقيق الأرز ، وبدرهم سمنا ، وأخلط الجميع وأسوي منه ثلثمائة وستين أكرة ، آخذ في كل ليلة أكرة أفطر عليها . فقيل له : فالساعة ? كيف تأكل قال : بغير حد ولا توقيت ويحكى عن الرهابين أنهم قد يردون أنفسهم إلى مقدار درهم من الطعام .

الدرجة الثانية أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد وهو رغيف وشيء مما يكون الأربعة منه منا ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين ، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو فوق اللقيمات لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة فهو ، لما دون العشرة وقد كان ذلك عادة عمر رضي الله عنه إذ كان يأكل سبع لقم ، أو تسع لقم .

الدرجة الثالثة أن يردها إلى مقدار المد وهو رغيفان ونصف ، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين ، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن ، ويبقى ثلث للشراب ، ولا يبقى شيء للذكر وفي ، بعض الألفاظ ثلث للذكر ، بدل قوله : للنفس .

الدرجة الرابعة أن يزيد على المد إلى المن ، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافا مخالفا لقوله تعالى ولا تسرفوا أعني في حق الأكثرين فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن والشخص والعمل الذي يشتغل به وههنا طريق خامس لا تقدير فيه ، ولكنه موضع غلط وهو أن يأكل إذا صدق جوعه ويقبض يده وهو على شهوة صادقة بعد ، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفا أو رغيفين ، فلا يتبين له حد الجوع الصادق ، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة .

وقد ذكر للجوع الصادق علامات ، إحداها أن لا تطلب النفس الأدم ، بل تأكل الخبز وحده بشهوة ، أي خبز كان ، فمهما طلبت نفسه خبزا بعينه ، أو طلبت أدما ، فليس ذلك بالجوع الصادق وقد قيل : من علامته أن يبصق فلا يقع الذباب عليه أي لم يبق : فيه دهنية ولا دسومة ، فيدل ذلك على خلو المعدة ومعرفة ذلك غامض فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر الذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها ، فإذا انتهى إليه وقف ، وإن بقيت شهوته ، وعلى الجملة فتقدير الطعام لا يمكن ; لأنه يختلف بالأحوال والأشخاص نعم ، قد كان قوت جماعة من الصحابة صاعا من حنطة في كل جمعة ، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا منه صاعا ونصفا وصاع الحنطة أربعة أمداد ، فيكون كل يوم قريبا من نصف مد ، وهو ما ذكرناه أنه قدر ثلث البطن ، واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه ، وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول : طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا أزيد عليه شيئا حتى ألقاه ، فإني سمعته يقول : أقربكم مني مجلسا يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم وكان يقول في إنكاره على بعض الصحابة : قد غيرتم ينخل لكم الشعير ولم يكن ينخل وخبزتم المرقق وجمعتم بين إدامين ، واختلف عليكم بألوان الطعام ، وغدا أحدكم في ثوب ، وراح في آخر ، ولم يكونوا هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت أهل الصفة مدا من تمر بين اثنين كل يوم والمد رطل وثلث ويسقط منه النوى ، وكان الحسن رحمة الله عليه يقول : المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف والقبضة من السويق ، والجرعة من الماء ، والمنافق مثل السبع الضاري بلعا بلعا وسرطا سرطا لا يطوي بطنه لجاره ولا يؤثر أخاه بفضله وجهوا هذه الفضول أمامكم وقال سهل لو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قوت المؤمن منها حلالا لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط .


( بيان طريق الرياضة في كسر شهوة البطن )

(اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف ) ، الوظيفة (الأولى ألا يأكل إلا حلالا، فالعبادة مع أكل الحرام) لا تثبت، فهي (كالبناء على أمواج البحار) ، أو على شفا جرف هار، (وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام) ، فاستغنينا عن ذكره هنا، (وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل، وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة، وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة، وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها، أما الوظيفة الأولى) من هذه الوظائف الثلاثة (في تقليل الطعام وسبيل الرياضة فيه التدريج، فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف) حاله، (وعظمت مشقته واشتدت بليته، فينبغي أن يتدرج إليه قليلا قليلا، وذلك بأن ينقص قليلا قليلا من طعامه المعتاد) عليه، (فإن كان يأكل) كل يوم (رغيفين مثلا، وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم) ربع، (سبع رغيف، وهو أن ينقص جزءا من ثمانية وعشرين جزءا، أو جزءا من ثلاثين جزءا، فيرجع إلى رغيف في شهر) برياضة، وتمهل (ولا يستضر به ولا يظهر أثره) ، أي: أثر النقصان (عليه، فإن شاء فعل ذلك بالوزن) ، بأن يعيره بعود رطب وينقص كل ليلة بقدر نشاف العود، (وإن شاء بالمشاهدة فيترك كل يوم مقدار لقمة، وينقصه عما أكله بالأمس، وهذا فيه أربع درجات; أقصاها أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه) ، والمراد بالقوام الضرورة من القوت، وهو ما سد الجوعة، وأعان على أداء الفرائض، (وهو اختيار أبي محمد سهل) بن عبد الله (التستري) رحمه الله تعالى; (إذ قال: إن الله استعبد الخلق بثلاث; بالحياة والعقل والقوة، فإن خاف العبد على اثنتين منها -وهي الحياة والعقل-، أكل وأفطر إن كان صائما، وتكلف الطلب إن كان فقيرا، وإن لم يخف عليهما، بل على القوة، قال: فينبغي ألا يبالي ولو ضعف حتى صلى قاعدا، ورأى أن صلاته قاعدا مع الجوع أفضل من صلاته قائما مع كثرة الأكل) ، فعلم من هذا أن المحافظة على العقل مقدمة على محافظة القوة، فإن لم يصلح عقل المريد بالخبز البحت، فلا بأس أن يأتدم ببعض الأدهان، وقد كان سهل [ ص: 404 ] رحمه الله تعالى يقول للمتقللين من أهل عبادان: احفظوا عقولكم وتعاهدوها بالأدهان والدسم؛ فإنه ما كان ولي لله ناقص العقل .

(وسئل سهل ) رحمه الله تعالى (عن بدايته، وما كان يقتات به) ، ولفظ القوت: وقد حدثني الحسن بن يحيى البستي عن أحمد بن مسروق قال: لقيت سهل بن عبد الله ، فلما دخلت عليه بش بي وقبلني، وكان له في إرادة، ولذلك قلت له: أحب أن تصف لي بدايتك، وما كنت تتقوت به، (فقال: كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم، كنت آخذ بدرهم دبسا، وبدرهم دقيق الأرز، وبدرهم سمنا، وأخلط الجميع وأسوي منه بنادق ثلاثمئة وستين أكرة، آخذ كل ليلة أكرة أفطر عليها. فقيل له: فالساعة؟) ولفظ القوت: فقلت له: الساعة، (كيف) تعمل؟ (قال: آكل بغير حد ولا توقيت) ، وفيه إشارة إلى أن العارف إذا بلغ درجة الصديقين سقط عنه الحد والتوقيت في الأقوات .

ثم إنه تقدم للمصنف قريبا أن سهلا كان في بدايته وهو في تستر يشتري له الفرق من الشعير بدرهم، ويعمل منه ثلاثمئة وستين رغيفا، فيفطر كل ليلة على رغيف، وذكر صاحب القوت أيضا في موضع آخر من كتابه ما لفظه: وحدثونا عن سهل أنه سئل: كيف كان في بدايته؟ فأخبر بضروب من الرياضات، منها كان يقتات ورق النبق مدة، ومنها أنه أكل دقاق التبن ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات ثلاثة دراهم في ثلاث سنين، قيل، وما هو؟ قال: كنت أشتري في كل سنة بدانقين تمرا، وأربعة دوانق كسبا، ثم أعجنها عجنة واحدة، ثم أخبزها ثلاثمئة وستين كبة، أفطر كل ليلة على كبة، قال: فقلت له: فكيف أنت في وقتك هذا؟ قال: آكل بلا حد ولا توقيت. اهـ. ولعل هذا باعتبار الأوقات والأحوال، (وحكي عن بعض الرهابين) جمع رهبان، جمع راهب، وهو عابد الدير (أنهم قد يردون أنفسهم إلى قدر درهم من الطعام) ، وهذا كما فعل سهل رحمه الله تعالى، وفي الرواية الثانية، (الدرجة الثانية أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد) ، والمد هو رطل وثلث بالبغدادي عند أهل الحجاز، فهو ربع صاع; لأن الصاع خمسة أرطال وثلث، وعند أهل العراق المد رطلان، كما في المصباح، (وهو رغيف وشيء) إذا كان كل رغيف نصف رطل وشيئا (مما يكون الأربعة منه منا) بالتشديد، وهو لغة تميم، وهو ما يوزن به رطلان، لكن يزيد ثلثين ونصف ثلث; إذ نصف المد هو نصف رطل، ونصف الثلث، فتأمل .

(ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) : ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس ، (وهو فوق اللقيمات) ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن ، فدل على أن ما نقص من ملء البطن فهو خير، ثم قال: حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، ثم ترقى فقال: وإن كان ولا بد، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس. فعلم من ذلك أنه رتبة فوق رتبة اللقيمات; (لأن هذه الصيغة في الجمع) بالألف والتاء (للقلة، وهو لما دون العشرة) من العدد، وفيه أيضا مع التقليل التصغير; لأن "لقيمة" تصغير لقمة، وفي القوت: معنى الحديث، فثلث للطعام أن يأكل شبعه المعتاد، فيصير ثلث الشبع قوام الجسم باعتياد ثان، كما كان ملء البطن من الشبع هو العادة الأولى، وثلث الشبع هو ثمان أواق، فهذا على معنى الخبر الآخر: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة" . وفي هذا خمسة أوجه: قال بعض علمائنا البصريين: طعام الواحد شبعا يكفي الاثنين قوتا، وطعام الاثنين شبعا يكفي الأربعة قوتا، ومنهم من قال: طعام المسلم يكفي مؤمنين، وطعام مسلمين يكفي أربعة من خصوص المؤمنين، ويجوز أن يكون طعام الواحد من المنافقين يكفي المسلمين على معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معى واحد، والمنافق في سبعة أمعاء" ، ويصلح أن يكون معناه: طعام الواحد من الصناع المتصرفين في المعايش يكفي اثنين ممن هو قاعد لا يتصرف، ويصلح أيضا طعام واحد من المفطرين يكفي طعام صائمين، وفي الخبر أن عمر حين قال لابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهم في قصة المرتد الذي قتلاه قبل أن يستتيباه، ويحكم، ألا طينتم عليه بيتا، وألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام؛ فلعله أن يتوب أو يرجع إلى الإسلام، اللهم إني أبرأ، ولم أعلم، ولم أرض إذ بلغني ، فدل بهذا أن في رغيف كفاية كل يوم، وثلاثة أرغفة عندنا بالحجاز رطل; لأن الرطل المكي عدد ستة أقراص منذ ذلك إلى يومنا هذا، فيكون رغيفان ثماني أواق [ ص: 405 ] فهذه كما قلناه أن ثمان أواق ثلث الشبع؛ لقوله: ثلث طعام، بعد قوله: لقيمات، جمع لما دون العشرة، (وكان ذلك عادة عمر رضي الله عنه) ، فما ذكرنا مواطئ لفعله، (إذ) روي أنه (كان يأكل سبع لقم، أو تسع) لقم .

(الدرجة الثالثة) أن يردها بالرياضة والتدريج (إلى مقدار المد) ، وهو رطل وثلث بالبغدادي عند أهل الحجاز ، كما تقدم، (وهو رغيفان ونصف، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن، ويبقى ثلث) ثالث، (للشراب، ولا يبقى شيء للذكر، و) جاء (في بعض الألفاظ) من الحديث المذكور، (ثلث للذكر، بدل قوله: للنفس) ، هكذا أورده صاحب القوت، قال: فدل أيضا على أن ملء البطن يمنع من الذكر ، وما منع من الذكر فهو شر، قال الله تعالى: والله خير وأبقى ، ورواية هذا اللفظ أغفلها العراقي .

(الدرجة الرابعة أن يزيد في المد حتى يبلغ إلى المن، وهو ما يكال به رطلان، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافا مخالفا لقوله تعالى) وكلوا واشربوا ( ولا تسرفوا ) إنه لا يحب المسرفين (أعني في حق الأكثرين) ، وفي القوت: أكل أربعة أرغفة كل يوم سرف ورغيفين قتر، وثلاثة أرغفة قوام حسن، وهذا أعدل الأقوات، (فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن والشخص والعمل الذي يشتغل به) ، فإن الشاب الجلد تدعوه نفسه إلى الطعام أكثر من الشيخ الفاني، وكذلك الرجل السمين اللحيم ليس له صبر على الجوع، بخلاف النحيف الهزيل، وكذلك الأعمال والصنائع تختلف، فمنها ما هو داع إلى كثرة الحاجة إلى الطعام، (وههنا طريق خامس لا تقدير فيه، ولكنه موضع غلط) ، واشتباه على أكثر الناس، (وهو أن يأكل إذا صدق جوعه) ، واشتهت إلى الطعام نفسه، وترامت عليه، (ويقبض يده) عن الطعام، (وهو على شهوة صادقة بعد، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفا أو رغيفين، فلا يتبين له حد الجوع الصادق، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة) ، والفرق بين الصادقة منها والكاذبة أن الصادقة ما يختل البدن بدونه، والكاذبة ما لا يختل بدونه، (وقد ذكر للجوع الصادق علامات ، إحداها ألا تطلب النفس الأدم مع الخبز، بل يأكل الخبز وحده بشهوة، أي خبز كان، فمهما طلبت نفسه خبزا بعينه، أو أدما، فليس ذلك بالجوع الصادق) ، اعلم أن للجوع حدا من الأوقات، وحدا في الأقوات ، فحد الجوع الأول من الوقت إلى مثله كالغد أربعة وعشرون ساعة، وحده الآخر اثنان وسبعون ساعة، وأما في الأقوات فحده الأول ألا تطلب النفس الإدام، فإذا طلبت فليس جائعا، فهذا حده الأول، وحده الثاني ألا تطلب الخبز، ولا تميز بينه وبين غيره، فمتى تاقت النفس إلى الخبز بعينه فليس جائعا؛ لأن لها شهوة في التخير، ومتى لم تميز بين خبز وغيره، فهذا هو الجوع الصادق، وهو الفاقة والحاجة إلى الطعام الذي جعله الله غذاء للأجسام، وهذا يكون في آخر الحدين من الأوقات بعد الثلاث إلى سبع وخمس، ويكون طلب العبد عند هذا الجوع القوام من العيش، والضرورة من القوت، وهو ما سد الجوعة، وأعان على أداء الفرائض، وهذا حال الصديقين، (وقد قيل: من علامته) ، ولفظ القوت: وقد سمعت بعض هذه الطائفة يقول: حد الجوع (أن يبصق) العبد، (فلا يقع الذباب عليه) أي: على بزاقه، (أي: لا يبقى فيه دهنية ولا دسومة، فيدل ذلك على خلو المعدة) ، ولفظ القوت: فإن لم يقع على بزاقه ذباب فقد خلت معدته عن الطعام، يريد أن بزاقه قد خلا من الدسومة والدهنية، وصار صافيا مثل الماء، فلا يسقط عليه الذباب مع لطف حاسته التي ركبت فيه، وخفي إدراكه لما يقع عليه، وقد ذكره صاحب العوارف أيضا هكذا .

(ومعرفة ذلك غامض) أي: خفي، (فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر الذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها، فإذا انتهى إليه وقف، وإن بقيت شهوته، وعلى الجملة فتقدير الطعام لا يمكن; لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص) ، كما ذكرنا (نعم، قد كان قوت جماعة) من الصحابة رضوان الله عليهم (صاعا من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا [ ص: 406 ] صاعا ونصفا) ، نقله صاحب القوت، (وصاع الحنطة أربعة أمداد، فيكون كل يوم قريبا من نصف مد، وهو ما ذكرنا أنه قدر ثلث البطن، واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه، وقد كان أبو ذر) الغفاري (رضي الله عنه يقول: طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أزيد عليه شيئا حتى ألقاه، فإني سمعته يقول: أقربكم مني منزلا يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم ) ، هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي : رواه أحمد في كتاب الزهد، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، دون قوله: وأحبكم إلي. اهـ .

قلت: أما قوله: كان قوتي.. إلخ، فقد أخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية دون قوله: من شعير، وهذا لفظه: حدثنا محمد بن علي بن حبيش ، حدثنا يوسف بن موسى بن عبد الله المروروذي ، حدثنا عبد الله بن حنيف ، حدثنا يوسف بن أسباط ، حدثنا سفيان الثوري ، أراه عن حبيب بن حسان عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: "كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا، فلا أزيد عليه حتى ألقاه" .

وقال أيضا: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل له: ألا تتخذ ضيعة كما اتخذ فلان وفلان؟ قال: وما أصنع بأن أكون أميرا؟ وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء، أو لبن، وفي الجمعة قفيز من قمح . قلت: والقفيز مكيال، وهو ثمانية مكاكيك، والمكوك صاعان ونصف، وهو أيضا ثلاث كيلجات، والكيلجة من وسبعة أثمان من .

وأما الحديث المرفوع فقد قال أبو نعيم : حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن عمر وقال: سمعت عراك بن مالك يقول: قال أبو ذر : إني لأقربكم مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها، والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث بشيء منها، غيري" . (وكان) رضي الله عنه (يقول في) بعض (إنكاره على بعض الصحابة: قد غيرتم) أي: السنة، (نخل لكم الشعير) أي: دقيقه، (ولم يكن ينخل) ، بل ينفخ، فما طار منه بالنفخ، وما لم يطر أبقي، (وخبزتم المرقق) ، أي: الخبز الرقاق، (وجمعتم بين أدمين، واختلف عليكم بألوان الطعام، وغدا أحدكم في ثوب، وراح في آخر، ولم تكونوا هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) نقله صاحب القوت. وإنكار أبي ذر رضي الله عنه على أهل عصره وأمره إياهم بالمعروف، والصدع بالحق مشهور، فإنه كان يقول ولا يبالي في الله لومة لائم، فلما لم يمكنه، وضج منه الناس، أمره عثمان رضي الله عنه بالخروج إلى الربذة ، فخرج إليها حتى مات بها رضي الله عنه، (وقد كان قوت أهل الصفة ) ، وهم جماعة من فقراء الصحابة لم يكن لهم موضع يأوون إليه، فكانوا يأوون إلى صفة المسجد، (مدا من تمر بين اثنين في كل يوم) ، نقله صاحب القوت، قال العراقي : رواه الحاكم ، وصحح إسناده من حديث طلحة النصري ، اهـ .

قلت: هو طلحة بن عمرو النصري ، بالنون، له صحبة، روى عنه حرب بن أبي الأسود ، (والمد رطل وثلث) بالبغدادي عن أهل الحجاز ، كذا في القوت، (ويسقط منه النوى، وكان الحسن) البصري رحمه الله تعالى، (يقول: المؤمن مثل الغنيمة) تصغير غنم، ولفظ القوت: مثل العنيزة (يكفيه الكف من الحشف) ، وهو محرك، التمر الرديء، (والقبضة من السويق، والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع الضاري) أي: اللهج بأكل اللحم (بلعا بلعا) أي: يبلع في حلقومه بلعا كثيرا (وسرطا سرطا) أي: يزدرد في حلقه ازدرادا كثيرا، (لا يطوي بطنه على الجوع لجاره) ، أي: لأجل جاره، بأن يأخذ من طعامه فيعطيه، (ولا يؤثر أخاه) المؤمن (بفضله) أي: ما فضل منه من الطعام، (وجهوا هذه الفضول أمامكم) كذا نقله صاحب القوت .

(وقال) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله تعالى: (لو كانت الدنيا دما عبيطا) بالعين المهملة، أي: طريا خالصا لا خلطة فيه، (لكان قوت المؤمن منها حلالا) نقله صاحب القوت، قال: وظن بعضهم أن هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ، إنما هو من كلام إمامنا سهل التستري ; (لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط) ، وقال الحافظ السخاوي في المقاصد: هذا [ ص: 407 ] الكلام لا يعرف له إسناد، ولكن معناه صحيح، فإن الله لم يحرم على المؤمن ما يضطر إليه من غير معصية، وفي القوت: وقد سئل سهل رحمه الله تعالى عن قوت المؤمن قال: قوته الله. قال: سألت عن قوامه. فقال: الذكر. قال: إنما سألت عن غذائه. قال: غذاؤه العلم. قال: سألت عن طعمة الجسم. قال: ما لك وللجسم؟ دع الجسم إلى من تولاه قديما يتولاه الآن. وكان رحمه الله تعالى يقول: القوت للمؤمنين، والقوام للصالحين، والضرورة للصديقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية