إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان فضيلة من يخالف شهوة الفرج والعين .

اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه وليس في شيء من ذلك ثواب ؛ فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة ، وهي دفع الإثم فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه ، وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفا من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب ، لا سيما عند صدق الشهوة ، وهذه درجة الصديقين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من عشق فعف فكتم فمات ، فهو شهيد .

وقال صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، وعد منهم رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين .


( فضيلة من يخالف شهوة الفرج والعين )

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل) ، فقد يضعف عن مقاومتها إذا ثارت، (إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه) ، أي: ارتكابه، والدخول فيه، (وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها) لا يخلو، (إما) أن يكون (لعجز) ظاهر، (أو لخوف) لاحق، (أو لحياء) عارض، (أو لمحافظة على حشمه) ، أي: مقام نفسه بين الناس، (وليس في شيء من ذلك ثواب؛ فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر) ، والحظوظ النفسية كلها لا ثواب لها ، (نعم من العصمة ألا يقدر) ، والمشهور على الألسنة: ومن العصمة ألا تجد، والمراد بالعصمة هنا الحفظ، أي: فإذا أراد الله حفظ عبده لم يجعله قادرا على الإتيان بشيء من المخالفات، (ففي هذه العوائق فائدة، وهي رفع الإثم) ، إذ لو أقدم لأثم، (فمن ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه، وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفا من الله تعالى مع القدرة) عليه، (وارتفاع الموانع) عنه حسية ومعنوية، (وتيسر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة، وهذه درجة الصديقين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من عشق) أي: من يتصور حل نكاحه لها شرعا، لا كأمرد، والعشق كما تقدم هو التفاف الحب بالمحب حتى خالط جميع أجزائه، واشتمل عليه اشتمال الصماء، (فعف) أي: منع نفسه عن إيفاء حظها، (فكتم) بأن لم يظهره لأحد، (فمات، فهو شهيد) ، وإنما قارب وصفه وصف القتيل في سبيل الله؛ لتركه لذة نفسه، فكما بذل المجاهد مهجته لإعلاء كلمة الله، فهذا جاهد نفسه في مخالفة هواها بمحبته للقديم؛ خوفا ورهبة، وإيثارا على محبة محدث، قال العراقي : رواه الحاكم في التاريخ من حديث ابن عباس ، وقال: أنكر على سويد بن سعيد ، ثم قال أيضا: يقال إن يحيى لما ذكر هذا الحديث قال: لو كان لي رمح وفرس غزوت سويدا . ورواه الخرائطي من غير طريق سويد بسند فيه نظر. اهـ .

قلت: قد كثر الكلام على هذا، ولنذكر أولا اختلاف ألفاظه، وهذا الذي أورده المصنف هو لفظ حديث ابن عباس .

أخرجه الحاكم والخطيب في تاريخيهما من طريق نفطويه ، عن محمد بن داود بن علي الأصبهاني عن أبيه إمام أهل الظاهر، عن سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس به مرفوعا، وقرأت في مصارع العشاق للشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بدمشق ، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسين بن أيوب القمي إملاء، حدثنا أبو عبيد الله المرزباني ، وأبو عمر بن حيويه ، وأبو بكر بن شاذان ، قالوا: حدثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي نفطويه ، قال: دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف نجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى. فقلت: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة؟ فقال: الاستمتاع على وجهين، أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة، فأما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني [ ص: 440 ] أبي، قال: حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عشق وكتم وعف، وصبر، غفر الله له وأدخله الجنة " . ثم أنشدنا لنفسه:


انظر إلى السحر يجري في لواحظه وانظر إلى دعج في طرفه الساج     انظر إلى شعرات فوق عارضه
كأنهن نمال دب في عاج



وأنشدنا لنفسه:


ما لهم أنكروا سوادا بخديـ     ـه ولا ينكرون ورد الغصون
إن يكن عيب خده بدد الشعـ     ـر فعيب العيون شعر الجفون



فقلت له: نفيت القياس في الفقه، وأثبته في الشعر. فقال: غلبة الهوى وملكة النفوس دعوا إليه. قال: ومات في ليلته أو في اليوم الثاني، وبهذا السند إلى القمي ، قال: حدثنا محمد بن عمران ، حدثني محمد بن أحمد بن مخزوم ، حدثني الحسن بن علي الأشناني ، وأحمد بن محمد بن مسروق ، قالا: حدثنا سويد بن سعد ، حدثنا علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عشق فظفر، فعف، فمات، مات شهيدا" . وقال الحافظ السخاوي : ورواه ابن المرزبان عن أبي بكر الأزرقي ، حدثنا سويد به مرفوعا، قال ابن المرزبان : إن شيخه كان حدثه به مرفوعا، فعاتبه فيه، فأسقط الرفع، ثم صار بعد يرويه موقوفا، وهو مما أنكره عليه يحيى بن معين حتى قال ما تقدم من الكلام فيما نقله الحاكم في تاريخه، وكذا أنكره عليه غيره، وقد قال أحمد : إن سويد بن سعيد متروك، وقال ابن الجوزي : ومدار الحديث عليه، فهو لا يصح لأجله، وأورده في الموضوعات، وتبعه في ذلك ابن تيمية وابن القيم مبالغا في الإنكار على هذا الحديث، قال السخاوي تبعا للزركشي : لكن سويدا لم ينفرد به، فقد رواه الزبير بن بكار ، فقال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس به مرفوعا، وهو سند صحيح، وقد ذكره ابن حزم في معرض الاحتجاج، فقال:


فإن أهلك هوى أهلك شهيدا     وإن تمنن بقيت قرير عين
روى هذا لنا قوم ثقات     نأوا بالصدق عن كذب ومين



وقد نظمه أبو الوليد الباجي فقال:


إذا مات المحب هوى وعشقا     فتلك شهادة يا صاح حقا
رواه لنا ثقات عن ثقات     إلى الحبر ابن عباس ترقى



قال الحافظ السخاوي : وينظر هل هذه الطريق التي أوردها الخرائطي منها؟ فإن تكن هي فقد قال العراقي في سندها نظر. اهـ .

قلت: ولعل وجه النظر أن الديلمي أخرجه في مسنده من طريق الزبير ، فقال: عن عبد الله بن عبد الملك بن الماجشون ، لا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، فإن كان هذا القدر هو المشار إليه بقوله: فيه نظر، فالأمر سهل، والله أعلم، ومن ألفاظ هذا الحديث: "من عشق فعف ثم مات، فهو شهيد" . رواه الخطيب في ترجمة قطبة بن المفضل من حديث عائشة ، وهو من رواية أحمد بن محمد بن مسروق ، عن سويد بن سعيد ، وسويد قد عرفت حاله، وابن مسروق ضعيف، لينه الدارقطني ، ومنها: "من عشق فكتم وعف وصبر، غفر الله له، وأدخله الجنة" . رواه ابن عساكر من حديث ابن عباس ، ومنها: "من عشق، فكتم فصبر، فمات، فهو شهيد" . رواه بعض المذكورين، إما الديلمي ، وإما الخرائطي ، ونظيره في توالي التعقيب بالفاء قوله تعالى: فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ، وكذا في النازعات توالي فاءات، وللحديث طرق عند البيهقي أيضا، والله أعلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم رجلا دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين ) ، ولفظ الحديث: "إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته [ ص: 441 ] امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" . رواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي هريرة ، ورواه مالك والترمذي من حديث أبي هريرة ، أو أبي سعيد ، بالشك، ورواه مسلم أيضا من حديثهما معا، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الزكاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية